لا أتمنى لمحبي بيروت زيارتها هذه الايام. ليس لان العاصمة اللبنانية تشهد تظاهرات مليونية وتعبر عن حيوية فائقة عبر التحركات الشبابية والتعبير الحر والصراخ بملء الحناجر وانما بسبب حالة الخوف الناجمة عن التفجيرات الليلية المتوالية التي تطال حتى الان احدى المناطق المسيحية وينتظر يا للاسف ان تطال ايضا مناطق مسلمة الامر الذي يذكرنا بالحرب الاهلية البشعة التي ودعها اللبنانيون خلال عقد ونصف العقد الماضي. زرت بيروت الاسبوع الماضي قادما من دبي لقضاء ايام مع الاهل قبل العودة مجددا الى باريس حيث اقيم منذ سنوات بسبب الحرب الاهلية اللبنانية القذرة التي اندلعت في العام 1975 وامتدت الى العام 1990 .منذ وصولي لم تنقطع الشائعات عن سيارات وعبوات ناسفة هنا وهناك وهنالك .الشائعات تترافق دائما مع تحليلات حول نوايا عدوانية لهذا الطرف او ذاك لهذه الطائفة او تلك. وتترافق مع انسداد في الافق السياسي.فريق لبناني يريد ازالة فريق اخر.فريق لبناني يدافع عن نفسه بقوة ضد فريق اخر. بين الفريقين فريق ثالث ضئيل التأثير وبين الفرقاء جميعهم يتراجع الحديث عن توافق في بلد لا يعيش الا بالتوافق والتنازل والتنازل المضاد.هكذا باختصار شديد يمكن القول ان حالة من القلق والرعب تسود بيروت هذه الايام على كل صعيد والمستفيد الوحيد من هذه الحالة هم اعداء لبنان واعداء الاستقرار في لبنان واعداء التسوية في لبنان وسائر الذين لايريدون لهذا البلد العربي ان ينتقل سلما من حالة سياسية سابقة انقضت اغراضها الى حالة سياسية جديدة تتيح للبنان ان يكون مستقلا وسيدا وعلى علاقة وثيقة بسوريا جارته الوحيدة وشقيقته الوحيدة في التاريخ والجغرافيا والمجتمع والمصير والمستقبل. لكن من يضمر شرا للبنان واللبنانيين؟ من يريد لبيروت كل هذا الرعب والخوف ومناخات الحرب الاهلية؟ من يريد للبنانيين ان ينتقلوا من العلاقة الامنية مع سوريا الى الوصاية الاجنبية وكانهم غير راشدين ويتحتم عليهم ان يكونوا خدما للاجانب في بلادهم وعلى حسابهم؟ لابد من التامل بداية بالحالة اللبنانية الراهنة ومن ثم تلك التي يراد لها ان تهيمن ومن بعد التطرق الى الاحتملاات المطروحة. الحالة الرهنة يمكن اختصارها بالتوصيف التالي: كان لبنان حتى 14 شباط فبرايرالماضي يعيش حالة من التحالف الامني والسياسي الوثيق بين طبقة سياسية لبنانية مؤلفة من طوائف عديدة وبين سوريا التي تتمتع بنفوذ حاسم في هذا البلد منذ توقيع اتفاق الطائف عام 1989 . بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري تسارعت الامور بوتيرة ملحوظة ادت الى الخروج العسكري السوري من لبنان.ولعل المنطق يقول ان خروج السوريين يلبي مطلبا اساسيا للمعارضة اللبنانية ويوفر للبنانيين فرصة للتلاقي حول وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف لكن مع الاسف يبدو أن خروج السوريين يراد له أن يكون مناسبة لتغيير وجه لبنان والانتقال به من بلد مرتبط ارتباطا عضويا بسوريا الى بلد مرتبط عضويا بغيرها والغير هنا مضمر لكن الاصابع اللبنانية ترتفع رويدا رويدا للاشارة الى الولاياتالمتحدةالامريكية والى اسرائيل. إن اللحظة الانتقالية الراهنة في لبنان تتميز بفراغ ناجم عن الانسحاب السوري ومسعى امريكي لملء هذا الفراغ عبر قوى لبنانية متحالفة او متفاهمة مع الولاياتالمتحدةالامريكية وهذه القوى ترى أن من واجبها تفكيك جهاز الدولة والمؤسسات التي بنيت خلال الفترة الماضية وبالتالي بناء اجهزة ومؤسسات جديدة مناهضة لسوريا ومناهضة للفريق اللبناني الذي كان متحالفا معها ما يعني الخروج من الصراع السياسي بفريق مهزوم مع سوريا وفريق غالب لها ولحلفائها فهل يمكن ان يتم ذلك بهدؤ وبعيدا عن الاضواء وبوسائل سياسية وبدون حرب اهلية؟ الذين يعرفون لبنان ويعرفون التاريخ اللبناني المعاصر معرفة وثيقة يدركون تماما ان سيرورة من هذا النوع تبدو مستحيلة والمستحيل في لبنان هو صنو للحرب الاهلية وذلك للاسباب التالية: اولا: ان كل هزيمة لسوريا ولحلفائها في لبنان ينظر اليها على انها انتصار لاسرائيل وبالتالي ينتقل بالصراع اللبناني من حالته المحلية الى حالة اقليمية ومع هذا الانتقال تعم اجواء التوتر والخوف وتنتشر اجواء الحرب الاهلية وفي اجواء الحرب تتراجع فرص لقاء اللبنانيين وتتعذر فرص الحلول السياسية اللبنانية ولعل تجربة الاعوام الثلاثين الماضية تنطوي على الكثير من العبر والدروس المفيدة في هذا المجال. ثانيا: إن لبنان لم يستقر سياسيا طيلة تاريخه الاستقلالي في ظل صيغة الغالب والمغلوب ففي كل مرة كان ينزع طرف لبناني الى التغلب على طرف اخر وقهره كانت البلاد تنزلق نحو الحرب والاضطراب وما يحصل هذه الايام ينطوي على خطر أكيد في هذا الصدد لان الحديث عن " كنس" فريق لبناني ارتبط بسوريا خلال السنوات الماضية سيؤدي بالضرورة الى استخدام الفريق المستهدف كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للدفاع عن نفسه وبالتالي التضحية باستقرار البلاد وامنها. ثالثا: إن الاستقرار اللبناني كان على الدوام مبنيا على تفاهم داخلي وتفاهم خارجي بين الولاياتالمتحدةوفرنسا وبين دولة عربية مؤثرة في لبنان. قبل الحرب الاهلية عام 1975 كانت الولاياتالمتحدة ومصر الناصرية تضمن هذا الاستقرار وبعد الحرب الاهلية كانت سوريا والولاياتالمتحدة تلعب الدور نفسه. ان حالة الصراع المكشوف بين سوريا وامريكا حول لبنان لاتسهل الاستقرار في هذا البلد الامر الذي يعني أن على اللبنانيين ان يحتفظوا بمناعة كبيرة و ان يتوصلوا الى تفاهم داخلي صلب حتى يعوضوا الحاجة الى توافق اقليمي ودولي حول بلادهم لكن مع الاسف يمكن القول ان حالة التراشق اللبناني اللبناني الراهنة بين الموالاة والمعارضة لا تبشر بقرب التفاهم المرجو الامر الذي يعني ان الفضاء اللبناني سيكون مفتوحا حتى اشعار اخر على الاحتمالات الخطرة. رابعا: كان الحكم في لبنان يستقر على الدوام حول كتلة حاكمة تدور حولها اللعبة السياسية اللبنانية.كانت الطائفة المارونية هي الطرف المحوري في الحياة السياسية اللبنانية طيلة العهد الاستقلالي وحتى العام 1975 وخلال الحرب كانت المقاومة الفلسطينية هي محور الطوائف المسلمة وحزب الكتائب المسيحي هو محور الطوائف المسيحية وبعد العام 1982 تاريخ انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان انتقلت سوريا لتلعب الدور المحوري لدى المسلمين اولا ولدى المسيحيين والمسلمين من بعد واليوم بعد انسحاب سوريا من لبنان يبدو المشهد السياسي اللبناني وكانه يحتاج الى محور قطبي تدور حوله اللعبة السياسية فمن هو هذا المحور وهل يكون مركبا من طائفة او طائفتين او مجموعة طوائف وكيف؟ حول هذا السؤال لا توجد اجابة لدى احد في لبنان اليوم الامر الذي يلقي المزيد من الغموض حول اللعبة السياسية في لبنان. خامسا: يحتفظ لبنان للمرة الاولى في تاريخه بحركة مقاومة مسلحة الحقت هزيمة شنيعة باسرائيل وللتذكير تعتبر اسرائيل في الحسابات الدولية القوة العسكرية الاكبر في الشرق الاوسط.ما من شك أن الولاياتالمتحدةالامريكية حليفة الدولة العبرية عملت من قبل وتعمل اليوم ما بوسعها لمحو اثار الهزيمة الاسرائيلية في لبنان عبر تطويق حزب الله وتحجيمه ومصادرة سلاحه وبالتالي حث لبنان على انهاء الصراع مع اسرائيل وفق الشروط الاسرائليية وهذا ما يتناقض مع رغبة المقاومة واستراتيجيتها المحلية والاقليمية ما يعني ان الصراع اللبناني الاسرائيلي ليس مرشحا للتراجع وبالتالي يصعب الرهان على حل هذه القضية بالوسائل السياسية قبل ان تحل قضية الصراع مع اسرائيل في المنطقة برمتها. سادسا: تعتقد الادارة الامريكية ان ما يدور في لبنان ناجم عن التدخل الامريكي في العراق وعن مشروع بوش الشرق اوسطي ما يعني ان ربط لبنان بالاستراتيجية الامريكية في الشرق الاوسط لن يتيح للبنانيين الاستقلال ببلادهم وعزلها عن اللعبة الاقليمية والشرق اوسطية وبما ان هذه اللعبة لم تتم فصولا بعد فهذا يعني ان الاوضاع اللبنانية ستتاثر سلبا بالمشروع الامريكي الشرق اوسطي في المدى الم نظور. سابعا: من المعروف ان لفرنسا نفوذا خاصا في لبنان ورهانات مستقلة عن الرهانات الامريكية ولعل وجود فريق لبناني يرفض التدخل الامريكي في لبنان ووجود فريق لبناني اخر يرفض التدخل السوري من شانه ان يعزز فرص الحضور الفرنسي في التطورات اللبنانية لكن مشكلة فرنسا انها شريكة لامريكا في القرار 1559 ويصعب عليها ان تتحرك منفردة اقله في ظل الظروف السياسية الراهنة المتصلة بالازمة اللبنانية. إن مجمل هذه الاسباب تتيح القول ان الازمة اللبنانية مرشحة للبقاء على نار حامية اقله في الشهور القليلة القادمة وان الانتخابا ت النيابية التي يطرحها البعض كحل للازمة اللبنانية لن تنطوي على الترياق المطلوب فالام اللبنانيين ليست مرشحة للزوال الا في حالة واحدة فقط : عندما يقرر اللبنانيون ان مستقبلهم السياسي مسالة لبنانية خالصة وان لبنانيتهم هي جزء من عروبتهم وان عدوهم الاوحد هو اسرائيل واسرائيل وحدها تماما كما ورد في وثيقة الطائف التي كلفت اللبنانيين ثمنا باهظا لا يجوز التفريط به وان كره الكارهون. بيروت هذه الايام لاتنام على حرير الاستقرار والامل كما توحي بعض الاخبار الواردة من العاصمة اللبنانية بل على الشائعات التي تذكر باسوا ايام الحرب الاهلية . بيروت هذه الايام على مفترق طرق فاما ان تختار العقل وبالتالي الافادة من دروس السنوات الثلاثين الماضية واما ان تستسلم لمغامرين وانتقاميين يحدوهم الامل بعودة التاريخ الى الوراء وبعودة بيروت الى الجحيم.