تقف لبنان اليوم على مفترق طرق حيث يخيم شبح فتنة جديدة قديمة، بسبب الصراع المتجدد بين الطوائف ومحاولة كل منها تثبيت أقدامها على حساب بقية الطوائف الأخرى وهي مسألة قد أصبحت لدى البعض إرثاً تاريخياً يتم العودة إليه كلما توافرت دواعيه، وقد شهد لبنان بسبب هذا الصراع محطات مؤلمة راح ضحيتها كثير من اللبنانيين الذين تعودوا أن يكونوا وقوداً لهذه الصراعات، فقد جرب اللبنانيون ثورة 1958م ضد كميل شمعون، والحرب الأهلية التي استمرت منذ عام 1975م حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي. ثم جاء اتفاق الطائف ليضع أُسساً جديدة أو لتجديد الأسس الأولى للتعايش بين الفرقاء والطوائف. لقد ظلت الساحة اللبنانية في الخمسينيات والستينيات ساحة للصراعات الدولية أيام الحرب الباردة وكانت هذه الطوائف هي أدوات هذا الصراع فكل يكيد لأخيه. واستغلت إسرائيل تلك الفترة لتتعامل مع طوائف معينة وقد وجدت الفرصة سانحة لاحتلال لبنان في 1982م عبر هجوم كاسح وصل قائد قواتها أرييل شارون آنذاك إلى باب قصر بعبدا ولولا الضغوط الدولية أو الأمريكية التي رأت أن أهداف إسرائيل قد تحققت بالموافقة على إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان لترحل إلى اليمنوتونس لولا ذلك مع حساسية الوضع اللبناني لكانت لبنان قد انضمت إلى إسرائيل الكبرى مع فلسطين. لقد تغيرت المعطيات الدولية اليوم والتي تشكل ذرائع للصراع اللبناني اللبناني وتغير اللاعبون بعد تعاظم الدور الأمريكي وانحسار الدور الروسي وأصبحت لبنان أكثر أهمية للأمريكان خاصة بعد سقوط العراق بأيديهم بمساعدة إيران وبعض نظم المنطقة، وهي مهمة جداً لإيران أيضاً خاصة وهي تعاني من ضغوط دولية بسبب برنامجها النووي فحزب الله يمثل ورقة ضغط فاعلة في حالة تحرك إسرائيل وأمريكا ضد البرنامج ودور إيران في العراق يمثل ورقة ضغط بالنسبة لأمريكا حيث الميليشيات الشعبية الموالية لإيران جاهزة للتحرك في حال وجدت إيرانفسوريا ضُرب معملها في ( دير الزور ) قبل أن تفكر في تحويله إلى مفاعل والعراق ضرب مفاعل تموز في الثمانينيات قبل أن يفتتح, أما إيران فلم تفكر أمريكا وإسرائيل بضربها منذ البداية لأنها كانت تقدم لهم خدمة جليلة وهي تخويف دول المنطقة العربية وبالتالي ابتزازها من قبل الولاياتالمتحدة لتحسين ظروفها الاقتصادية عبر صفقات الأسلحة الباهظة الثمن القليلة الفعالية والتي لا تصل إلى حد تهديد إسرائيل. من هنا كان لبنان ساحة صراع مثالية قليلة التكلفة بالنسبة للمتصارعين وقد وجدت أمريكا في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ورقة ضغط قوية لضرب حلفاء إيران في لبنانوسوريا ونزعت بهذه المحكمة قدرة الحكومة اللبنانية على التعامل معها بالطريقة التي تحفظ سيادتها حيث أصبح موضوعها وعملها مرتبطاً بمجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة وهي نفس الطريقة التي ابتزت بها ليبيا في قضية لوكربي شرطاً للنظر في تخفيف أو إلغاء التهديد بالمحكمة. لقد سلم اللبنانيون بأنفسهم هذه الورقة لأمريكا ولم تضيع أمريكا هذه الفرصة السانحة. ولذا فإن ما حدث أمس في طرابلسلبنان ينذر بقدوم مشكلة ستكون أكبر من قدرة الأطراف في السيطرة عليها وزاد من هذا التوتر انضمام دروز جنبلاط إلى الخندق الذي ظل يحاربه ويكيل له الشتائم عبر مؤتمراته الصحفية وهذا هو ديدن الطوائف الضعيفة عدداً وعدة. فجنبلاط اعتبر بما حدث في تونس وتخلي الغرب عن حلفائه بسهولة فخاف واتجه إلى المعسكر الذي يعتقد أنه يحظى بقبول شعبي والمعسكر المسيحي المنقسم بين سنة لبنان وشيعته مضمونة حمايتهم من قبل فرنسا على وجه الخصوص ومعها الغرب، والشيعة يمتلكون عمقاً استراتيجياً وفرته لهم سورياوإيران ولم يبق إلا السنة الذين لا بواكي لهم بعد أن رفعت السعودية بضغط أمريكي يدها عن المسألة اللبنانية، ومحاولة جر تركيا إلى لبنان لتصنع التوازن المفقود مع الدور الإيراني لكنها لم تنجح حتى الآن. أما الولاياتالمتحدة فلا فرق عندها أن يذهب اللبنانيون جميعاً سنة وشيعة، مسلمين ومسيحيين إلى الجحيم .. المهم مصلحة إسرائيل التي تستعد لاستعمال الفيتو للمرة الألف من أجلها ولمنع قيام دولة فلسطينية لا توافق عليها إسرائيل. لذا لم يعد أمام اللبنانيين بكل طوائفهم سوى سبيل واحد لمنع الانفجار الكبير وهو صوت العقل ومصلحتهم المشتركة وأن يدركوا أنه لا يمكن لفريق أن يقصي الفريق الآخر وأن لا بديل عن التعايش المشترك في هذا الوطن وما لم يدركوا ذلك فليستعدوا لجولة جديدة من الحروب الأهلية والنتيجة هي دمار لبنان، حفظه الله وحماه.