مرجعية الفن الإسلامي تعيدنا إلى فكرة «العماء» التي تتصدر مقولات الغيب واللامرئي والمثال «بكسر الميم» والتجريد والتنزيه، مما يتطلب بياناً متتالياً لتلك المفاهيم المُتفاصلة المتواصلة، فالإسلام جاء استمراراً لديانات التوحيد الابراهيمية، مقرراً أن كافة الأنبياء المذكورين نصاً في القرآن، وحتى الذين لم يُذكروا نصاً، إنما كانوا جميعاً مُسلمين مُوحدين، فقد ورد في القرآن الكريم على لسان ابراهيم الخليل عليه السلام : «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين» ، فإبراهيم الخليل عليه السلام أدرك تلك الحقيقة وجاهر بها، فالأنبياء جميعاً مسلمون ابتداءً من آدم عليه السلام وحتى محمد «صلى الله عليه وسلم»، والإشارة هنا تطال الإسلام بوصفه ديناً إلهياً تمم الأديان التوحيدية التي سبقت، والاختلاف بين الرؤية الإسلامية والديانات المختلفة ليست اختلاف أصل، بل اختلاف مسار، فالأديان السابقة على الإسلام خرجت عن الأصل التوحيدي الابراهيمي لكي تذهب بعيداً في مياه التجديف المُفارق للتنزيه والغيب، كما أن اتصال الاسلام القبْلي «بفتح القاف وتسكين الباء» بالأديان السابقة يؤشر إلى أن الإسلام لم يأت كمشروع قطيعة مُسبقة، بل كمشروع اتصال أساسي، وانفصال في أساس ما شاب ويشوب الأصل الأول، فشرط الاتصال نقاء التوحيد، ومقدمة الانفصال الخروج عن طُهرانية وتجريد التوحيد، وإذا ما انبثقت من أساس الدين وتضاعيفه فُنون مختلفة فإنها إنما جسّدت ذلك الاتصال الذي لم ينقطع أصلاً، بل إن إرهاصات ومُقدمات الدين الحنيف في العهد الجاهلي تمثّلت تلك الصلة المفاهيمية الوشيجة مع كامل الأديان والرؤى والحضارات الإنسانية، فالنصوص المكتوبة، والشواهد الموروثة تعبير أصيل عن التفاعلية الدينية والفكرية التي عرفها العرب قبل ظهور الإسلام . جاء الإسلام ليُجسد مفهوم الصلة والانقطاع في آن واحد ، ليس بالمعنى الديني فقط، لكن أيضاً بالمعنى السياقي الجبري الذي يستتبع ما كان، فعلاقة العرب بالآسيويين والأفارقة والروم البيزنطيين كان أمراً مشهوداً قبل الإسلام، وقد يكون الشاعر الاستثناء عنترة بن شداد العبسي رمزاً فولكلورياً لهذه الحقيقة، وسنرى أن بلال بن رباح الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي أسماء أعلام في العهد الإسلامي الأول، وتبعاً لذلك كانت التفاعلية الإنسانية بين المشروع الإسلامي والحضارات الأخرى أمراً مؤكداً، ولقد أسلمت هذه الحقيقة قيادها للفن الإسلامي فكان فناً يتميز بخصوصية، ويتصل بتفاعلية شاملة مع الرؤى والأفكار والمفاهيم السابقة على الدين الحنيف.