جاءت رسالات السماء تأكيدا على خيار التأمل والنظر في أحوال الوجود وما يتجاوز المرئي والمسموع والمقروء، ولهذا كان الإيمان بالغيب أصلاً أصيلاً في الإسلام، فمن آمن بالغيب أدرك مبلغ علمه المحدود وعرف قدراته المتواضعة وسلّم بالحقيقة الأبدية السابقة على أحواله وأفعاله، فكانت المشيئة سابقة على الإرادة الإنسانية المحدودة، والقضاء والقدر خيراً وشراً اعتراف بالناموس، وتسليم بالمثال. عكست علوم الكلام هذه الحيرة الجدلية في النظر لثنائيات الخير والشر، والجبر والخيار، والقديم والجديد، وما إلى ذلك من ثنائيات بدت في لحظة ما من لحظات تطور الفكر الكلامي التأويلي أقرب إلى السفسطة. لكنها وبالرغم من ذلك أفضت إلى نوع تعايش بين المتفاقرات التي تعبر عن وجهين لعملة واحدة، مما يتّسع له الحديث إلى ما لا يمكن اختصاره في عجالة . الأصل أن الكُل في حالة جبر محكوم بالنواميس الإلهية المبثوثة في الكون، والكل أيضاً في حالة خيار مجير على سلوك الانسان، لأن بوسع الإنسان تجاوز الجبر عندما يكون في ظلال ، وتهشيم قوانين الوجود .. لكنه إذا فعل ذلك يدفع الثمن قصاصاً عادلاً. انظر إن شئت ما يحيق بنا من جراء العبث بالتوازن البيئي، وانظر كيف نتجرع مرارات الأزمات والحروب من جراء الجشع والطمع واسترخاص الآخر الإنساني . كل تلك الشواهد إشارة إلى أن خياراتنا المفتوحة على العبث توازي جبراً ميزانه القصاص .. المحطات السابقة في مسيرة الكلام«علم الكلام » تضعنا عند عتبة الحاضر المترع بالخرائب والجنون، بالحيرة والتساؤلات، بالقلق والتشظي، بانتظار المجهول المداهم الذي يأتينا من حيث نحتسب أو لا نحتسب ، حتى إننا الآن نعيش حالة من الطفو واللا توازن ، حالة من العوم في بحار الأنواء والمتاهات، مما تتسع له الخيالات، ونراه ماثلاً في أربع أرجاء العالم التعيس .إذا عاد الواحد منا إلى ذاته واستنطق صوته الداخلي، واستمسك بالزهد والإقلال، وجاور عوالمه الداخلية الخبيئة والمتوارية وراء غلالات التفاصيل اليومية . إذا فعلنا كل ذلك بإرادة واعية وباعتقاد جازم، فإننا سنصل إلى مثابة الرؤية والبصيرة حيث ننعتق من أسباب التعب والضنى، من السلوكات التي تبعدنا عن إنسانيتنا، محققين القيمة المثلى التي أرادها الخالق لنا . [email protected]