ارتبطت الأديان السماوية بنصوص تشريعية لا تحضر حصراً في النصوص المقدسة لهذه الأديان، بل أيضاً في كامل الاجتهادات التاريخية التي قدمها المدوّنون والمفسرون والمأوّلون. غالباً بحسن النية وبغية تأصيل المفاهيم الجوهرية التي جاءت بها الأديان، وأحياناً بإيعاز من السلطان الجائر، وطوراً من خلال الاستغراق في التفلسُف الذي أفضى بالبعض منهم إلى نكران أديان الشريعة بوصفها نصوصاً مفارقة لروح الشريعة وجوهرها. حدث هذا على مدى تاريخ طويل من متاهات الاجتهادات، وتداخلات العوامل الذاتية والموضوعية، وتنكبات البحث عن أجوبة ناجزة لأسئلة ما ورائية لا يمكن الإجابة عنها، ولهذ السبب كان “التلمود“ اليهودي بتنوعاته الكثيرة بمثابة النبع الأول للفرق والمذاهب اليهودية، وكذا العديد من فرق الكلام والآراء الاجتهادية في عديد من الديانات اللاحقة، وفي مقدمتها المسيحية، والشاهد أن آراء وسلوكيات الراهب الكنسي المتشدد “سافونارولا“ في عصر النهضة الإيطالية لا يمكن أن يكون صادراً عن السماحة العيسوية النصرانية بحال من الأحوال، وهو الذي حرّم كل شيء يمت بصلة إلى مباهج الدنيا، ومنع أي اجتهاد، وأفتى بإعدام العلماء وحرق الكتب.. الجوهر التلمودي في التشريعات المسيحية الموضوعة خلال تلك الفترة انقلبت على اليهود من حيث لا يحتسبون، فنالوا من الأذى والتصفيات ما لا تتسع لوصفه مئات المجلدات، وهكذ ا انقلب المفهوم المتعصب على صانعه، ليس على مستوى الصراع التاريخي بين التلموديين اليهود من جهة، والمسيحيين التشريعيين من جهة أخرى، بل أيضاً على مستوى الفكر السياسي قبيل الحرب العالمية الثانية، حيث نجد رجع صدى التعصب العرقي المشين عند النازية، وكأنها تشرّبت هذه الروح من نظرية “الأنا العرقية الاصطفائية، والأغيار الأدنى مرتبة“ التي كرّستها اليهودية التاريخية في دينها وسلوكها، وفاضت بها على النازيين الألمان وفي مقدمتهم هتلر، وهكذا دفع الأبرياء من اليهود ثمن ما صنعه “الآباء الكبار” من سدنة فكرة “شعب الله المختار“ وللحديث صلة.