في أحد أعدادها مؤخراً نشرت صحيفة الجمهورية استطلاعاً حول نية الحكومة وتوجهها لإنشاء "مجلس إفتاء" وهو توجه محمود كان ينبغي ألا يتأخر إلى هذا الوقت؛ منعاً للفوضى والاضطراب الناتج في هذه الناحية؛ إذ يتصدى كثير من طلاب العلم وأنصاف العلماء لمسائل من ذلك النوع الذي لو جمع له أهل بدر وخير القرون لتوقفوا فيها ملياً ولامتنع بعضهم عن الفتيا؛ لأن الإفتاء ليس بالأمر الهين فغدت الفتيا بدون زمام ولا خطام وصار من يحفظ العشرة الأجزاء الأخيرة من القرآن الكريم والأربعين النووية ويخطب في المسجد يعد نفسه وحيد دهره وفريد زمانه فيفسِّق هذا ويبدِّع ذاك ويفتي في كل شيء, وهؤلاء يسيئون للدين أكثر مما يقدمون له, وشاع عند كثير من المفكرين أن الذي يسيء فهم الدين أخطر عليه من الذي ينحرف عن تعاليمه وتكاليفه، ولخطر الفتوى كان الإمام مالك إمام دار الهجرتين _على جلالة قدره ورسوخ قدمه في العلم_ يتصبب عرقاً إذا استفتي بشيء، كما أن أبا بكر سئل ذات يوم عن الأب فقال:" أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم". وأياً ما يكن الأمر فإنه يجب على الجهات المعنية بتشكيل هذا المجلس اختيار العلماء الأكفاء ممن بلغ مرحلة الاجتهاد, أي ممن له القدرة على استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية بعد امتلاكه وإحاطته بعلوم الآلة "اللغة والأصول وعلوم ومصطلح الحديث" ومعرفته بآراء العلماء والمذاهب مع قدرته على الترجيح، فليس كل من حفظ القرآن والحديث ودرس بعض كتب اللغة وعرف بعض المسائل صالحاً للفتوى. ويحكي لنا تاريخ الشريعة أن رجلاً سأل عالماً بالحديث ممن ليس لديه القدرة على استنباط الأحكام من أدلتها النصوصية فقال: لا أدري, ثم ذهب إلى فقيه امتلك القدرة على ذلك فقال له: حدثني من كنت عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه المسألة كذا, والقصة بعد هذا لا تحتاج إلى تعليق. كما ينبغي أن تختار تلك الجهات علماء مجتهدين من كل المذاهب والتيارات؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يُلزم الناس على مذهب معين دوناً عن بقية المذاهب والتيارات، ذلك أن فهوم الناس وقناعاتهم وأمزجتهم تختلف اختلافاً بيناً وواضحاً. وما يسند ذلك أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور حاول أن يجعل موطأ الإمام مالك قانوناً للدولة العربية الإسلامية, يسير عليه القضاة والمفتون، فيأبى مالك، ويكرر الطلب هارون الرشيد فيأبى مالك ويقول له:إن فقهاء الصحابة تفرقوا في الأمصار, وكل عنده علم وفقه, وكل على حق، ولا ضرر ولا ضير في اختلافهم. ذانك أمران مهمان ينبغي مراعاتهما عند تشكيل هذا المجلس.. كما ينبغي على المجلس الموقر المزمع إنشاؤه التأكيد على ثوابت هذا الدين التي لا يجوز لأحد مخالفتها فمن أتى بها كان من أهل الإسلام المحض , الذين يجب حبهم وموالاتهم ومن لم يأت بها كان من أهل البدعة والفرقة والضلالة, كما أن هناك متغيرات وأموراً غير ثابتة قابلة للاجتهاد من أتى بها كان من أهل الإسلام المحض, ومن لم يأت بها كان أيضاً من أهل الإسلام المحض؛ لأن من أهم سمات الشريعة الإسلامية أنها مرنة، وصالحة لكل زمان ومكان وهذا دليل على خصوبة الفقه الإسلامي وسعته وسماحته, وقد ألف رجل كتاباً أخبر به الإمام أحمد فقال :ما سميته؟ قال :الاختلاف ..فقال له: لا تسمه الاختلاف وسمه كتاب السعة . ويجب ألا ننسى أن نذكِّر المجلس بالتركيز على القضايا الكبرى التي تتعلق بالوجود والمصير الإسلامي كله والحفاظ على أركان المجتمع ووحدته، ولا ينبغي صرف الجهود في مسائل صغيرة ليست من أصول الدين، ويمكن التسامح والتغافر فيها كما نرى اليوم حيث يتم التركيز على اللحية وإسبال الثوب مثلاً، والتدخين, وتهمل قضايا أهم من ذلك بكثير.. مسألة أخرى يجب ألا تغيب عن المجلس وهي سؤال أهل الاختصاص عما استجد من مسائل, فالأمور السياسية يسأل فيها المختصون بالسياسة الثقات, وأمور الاقتصاد يسأل فيها أهل الاقتصاد؛ لأن ثمة أبعاداً قد لا يدركها الفقيه, وينبغي أن يسأل فيها المختصين ولتوضيح هذه النقطة أكثر نورد هذا المثال البسيط الذي خرجت فيه الفتوى بعيدة عن الصواب؛ نتيجة عدم أخذ المسألة من جوانبها وعدم مناقشة الساسة فيها. عالم كبير محسوب على التيار السلفي كان قد أفتى بجواز الصلح مع إسرائيل مستدلاً بمثل قوله تعالى:" وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله" وبما وقع في الحديبية, وتم الرد عليه من عالم فقيه ومجتهد وتم الأخذ والرد بين العالمين إلى أن سحب الأول فتواه ورجع عن قوله وكان "حسن علي دبا" قد كتب كتاباً في هذه القضايا وأمثالها ذاكراً فتوى الشيخ والردود واسم الكتاب "أوراق في الفقه السياسي" فليرجع إليه من شاء.