في أحداث الحياة نوع من الازدواجية والكثير من الغموض وكم لا يستهان به من الظلم والقهر والضغينة. لا تسير الحياة أبداً على وتيرة واحدة, ولا تخلص إلى نتيجة ثابتة, ومن يعتقد أنه يسيطر على حياته بكل جوانبها فإن هذا بعينه هو من تسيطر عليه الحياة بكل متغيراتها لأنه أسلم زمامه لنفسه, والنفس ذاتها فرد في معسكر الحياة تسمع وتطيع. وحين نظن أننا وصلنا إلى قمة المبتغى من كل ما حولنا فنحن موهومون فعلاً بالقناعة ومجبرون دون وعي منا على امتصاص قذارتنا الراكدة في قاع النفس وبصقها بعيداً خلف جدران الجبن والضعف والاستكانة. فنبدو وكأننا في لحظةٍ ما أنقى الخلق وجدران أرواحنا تنوء بالقبح والرذيلة والكذب، نحن باختصار لا نلوي على شيء إنما منحنا العقل لئلا نقع في الشر ونحيد عن درب الخير. كتاب الحياة بسطوره المتداخلة وكلماته المحشورة بين الأقواس ومعانيه المفصلة على هامش وجوده هو كتاب مقدس أيضاً لم تنزل به الملائكة لكنه نزل بهم ولم يختص بتبليغه نبي لأنه رسالة مفتوحة كلنا فيها مبلغون بل موسومون بالاصطفاء فطرة لا اختياراً علوياً. ولهذا فإن فكرة السمو الروحي موجودة باستمرار وقابلة للإسقاط على آيات الكون, وهذا ليس تصوفاً محضاً ولا رهبنة خالصة بل هو اتباع للفطرة النقية التي تبقينا عند حد الخوف وعلى خط الرجاء باستمرار. أحداث الحياة تسير متدفقة ومسببة من فوق سبع سماوات, وهي تظهر لأصحاب العقول تلك العظمة وهذه القدرة الربانية المحيطة بدقائق الأمور وخفايا الصدور لتعطي كلاً منا حاجته مما يريد والمزيد المزيد. ويكفينا فقط تلك النظرة المنكسرة إلى السماء حين لا يصبح بمقدورنا الكلام وحين لا تستطيع أفكارنا رسم رغبتها في التعبير عن حاجتنا وحين نتجاوز حد المغفرة ونعجز عن الصفح الجميل ونتوارى حياءً أن نبدو مندهشين لمصارع القدر. ولأن تلك الأحداث قد تحصد في طريقها الشيء الكثير فإن تصور الثبات والطمأنينة من عبث التمني والانقياد, إذ أن رياح النفوس أيضاً عاتية, ولهذا قد نصادف بشراً يسيرون مع الحياة بأحداثها المريرة جنباً إلى جنب, لأن أزمة النفوس لم تفلت من أيديهم وهواها ملجم بالصبر الجميل. وفي الاستعراض القرآني الحرفي والمعنوي العظيم لمعنى الحياة بكل ما فيها من تفاصيل قد تبدو كبيرة ولكنها صغيرة ودقيقة جداً, يقول الله تعالى في سورة الحديد: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكفار نباته, ثم يهيج فتراه مصفراً, ثم يكون حطاماً, وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان, وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}آية 20..انظر إلى حقيقة الدنيا بكل ما فيها من سعادة وشقاء، غنى وفقر، صحة ومرض، عناوين عريضة تخفي دونها شرحاً مفصلاً ووافياً لكل الأحداث المتدفقة بقوة في عرض الموضوع الديناميكي للحياة. وحتى أدوات السعادة والشقاء فيها متساوية بما أن للإنسان حرية الإدراك الكاملة والاختيار الوافي، وانتبه إلى نهاية هذا الزخم وهذا الاحتشاد العظيم للنعم كيف تغدو هباءً حتى تؤدي مهمتها الأساسية في إظهار قدرة العباد على الشكر وميلهم إلى الكفر, ثم استشعر وقفة الميزان الذي يحمل المغفرة والرضوان في كفة والعذاب الشديد في كفته الأخرى اعتماداً على أن كل ما سبق غرور وفتنة واختبار ومتاع, تماماً مثل رغبة عارمة تصل قمتها اشتهاءً ثم تنطفىء أفولاً. وفي النهاية لا شيء يبقى إلا وجه الله, وهذه حقيقة البداية والنهاية، الموت والحياة والاشتعال والانطفاء، البزوغ والأفول، جميلة جداً حين تتأمل تقاسيمها الراقية، وقبيحة جداً حين تتعرّى من كل شيء لتبدو شراستها واضحة في التهامك. هذه هي الحياة.. لا شيء فيها يبقى أبداً, أبداً لا شيء فيها ثابت أبداً أبداً، مهما حملتك عبر أروقتها إلى قمة بروجها الزجاجية لابد أن تسكن باطنها متوسداً التراب. وفي النهاية كل ما في الحياة يعود إلى أصله الطبيعي كما بدأ أول مرة.