رحل عن دنيانا الفانية إلى رحاب الحي الدائم الذي لا يموت جل جلاله في دار القرار الصديق الأعز والأقرب إلى النفس الحاج توفيق عبدالرحيم مطهر فجأة وعلى غير توقع مسبق تاركاً محبيه قلوبا تتألم ودموعا تذرف في لوعة فراق مؤلمة.. والموت حق علينا جميعا وهو الحقيقة الأزلية الثابتة التي لا نقاس فيها ولا جدال وحلول أجل كل مخلوق بين يد الخالق العظيم الذي خلق وقدر لمخلوقاته أرزاقهم وآجالهم فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون والرضى بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره شرط أساس لإيمان المؤمن وعبوديته المطلقة لله وحده ومع قبولنا وتسليمنا بكل ذلك كمؤمنين إلا أن فراق الاعزاء والأحباب وغيابهم عن نطاق رؤية العبير والعشرة الدنيوية عادة ما تكون اشد مضاضة على النفس وحرة وألما لفترة غير قصيرة من الزمن خاصة حين يغيبون فجأة وبدون مقدمات تمهيدية. والصديق الصدوق الإنسان الرائع توفيق مطهر كان آخر لقاء جمعني به في لندن قبل عامين إلا قليلا وبعد بضعة شهور اتصل بي من اليمن وقال إنه سيتحرك في الغد إلى جدة وبعد الغد سيكون في لندن طالبا مني لقاءه هناك مضيفا وعلى سبيل المداعبة "أو أنك لا ترغب في لقائي" وقلت له لا أبدا فأمنيتي أن أراه دائما وسألقاه ولو سعياً .. وشاءت الأقدار أن لا تكتب لقاءنا، لا أدري كيف ولماذا؟. قبل حوالي عام رأيت في المنام رؤية أفزعتني فأخبرت أهلي أنه إذا صدقت الرؤيا فإني أخاف بأني لن أرى توفيق ابداً، وكنت أتحسس أخباره وأسأل عن صحته كلما سنحت لي الفرصة التواصل مع أولاده الكرام أحيانا، وندمت أني لم أبذل الجهد الكافي للقائه حينما اتصل بي، والحقيقة انني كنت اتملص عن لقائه وذلك لأنه رحمة الله رحمة واسعة كلما التقيته لم يتركني الا محملاً من كرمه، وهذا ما كان يدفعني إلى التملص أحيانا عن لقائه تحرجا وتحاشيا من الأثقال عليه مرارا. قبل شهور قليلة رأى أهلي رؤية منامية واضحة في رموزها لكنني كنت ادعو الله جل جلاله أن يجنبه كل مكروه إيمانا بأن الله سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت لكن إرادة الله تعالى ومشيئته قضت بنقله إلى رحاب ربه مساء يوم الثلاثاء العاشر من شهر سبتمبر 2013م. علمت بالخبر المؤلم بالصدفة في ساعات الليل المتأخرة أثناء مروري على صفحات التويتر، كانت صدمتي عظيمة اطارت النوم من العيون وفاضت دموع العين واستغرقت في ذكرى الله جل جلاله واستغفاره وصليت عليه صلاة الميت الغائب داعيا له أن ينزل الله تعالى عليه شآبيب رحمة ومغفرته ورضوانه وأن يسكنه بجودة وكرمة فسيح جناته. والحقيقة أن توفيق عبدالرحيم مطهر في حياته ومسيرته الدنيوية يحكى قصة من أروع قصص الجهاد والكفاح والكد والنجاح والعصامية. بدا حياته في مرحلة شبابه الأولى عاملا عاديا في شركة تجارية تابعة لأقارب له في تعز، ورغم انني لم أتعرف عليه والتقيته شخصيا إلا في أوائل عام 1988م بالقاهرة عن طريق أحد الأصدقاء الأفاضل الأكاديميين إلا أنني كنت اسمع عنه كثيرا وخاصة روايات سمعتها عنه من أهلنا أبناء الاحكوم الذين امتهنوا منذ وقت مبكر مهنة قيادة السيارات الثقيل وبعدها الأجرة ممن عرفوه في تلك المرحلة المكرة في حياته ومن ضمن ما ورد عنه أنه كان ينقل صفائح الجاز غير المحكمة الإغلاق غالبا ويوصلها من بيت إلى بيت ومن دكان إلى دكان آخر في مدينة القاعدة والسياني وما حولها عبر سيارات النقل الى حيث تصل ثم على ضهره إلى حيث تباع. كان عملا شاقاً ومضنيا يبذل فيه الجهد والطاقة فوق سيارة إلى أخرى، وهكذا ولا شك أن هذه المرحلة من حياته المبكرة جدا سمحت في صياغة وتشكيل حياته كلها تقريبا وصقلها من جميع جوانبها من حيث أنه ذاق خلالها مشاق الحياة ومرارتها وخبر الحياة وأسرارها مستوعبا تجاربها ودروسها وقوانينها وأحس إحساسا عميقا بمعاناة الناس وعذاباتهم وحرمانهم من ابسط ضرورات الحياة الكريمة، ومن خلال كل ذلك وبه بدأ مسيرته الطويلة الخاصة حتى استطاع ان يؤسس ويبني صرحا تجاريا شامخا على مدى عقود طويلة من الزمن يعتبر اسطورة من أساطير النجاح القائم بعد فضل الله ونعمته على الكفاح والجد والاجتهاد والمثابرة وقوة التحمل والصبر، ويعد نموذجا من نماذج قليلة من النجاح على الصعيد الوطني. وعلى الرغم من النجاح الباهر الذي حققه توفيق يرحمه الله، والصرح التجاري الشامخ الذي أسسه وبناه بجهده وعرقه وصبره وتحمله ومعاناته وعذاباته فإنه ظل دائما يضع نصب عينيه وفي نهج حياته أن يبتغي فيما آتاه الله الدار الاخرة ولم يكن هدفه كله منصبا على تجميع ومراكمة الثروة وخزنها رغم نجاحه في ذلك بل ظل يتوسع ويوسع دائما أعمال الخير والبر والاحسان للفقراء والمعوز بين الفقراء والمرضى بل وحتى الطلاب المجتهدين الذين لا يجدون ما يواصلون به دراستهم الجامعية كلما سمع او اسمع عن أي صاحب حاجة واستحقاق من هؤلاء هرع إليه أو أرسل إليه رسولا وأدرجه ضمن قوائم الاهتمام المتواصل بهم كثيرة جدا تلك الاعمال الخيرية الاجتماعية لكن ما يميز توفيق أنه كان حساسا وشديد النفور من ان يتحدث هو عنها او يتحدث عنها آخرون، كان يعمل ويعمل في هذا المجال ليس بهدف رياء الناس والتظاهر وانما ابتغاء مرضاة الله وحده الذي هو بكل شيء عليم كما كان من جهة اخرى يولى العاملين الذين يعملون معه ممن يعلم إخلاصهم وجدهم واجتهادهم في العمل اهتماما إنسانياً نادر المثال، وأذكر ما رأيته عيانا أن بعض من العاملين معه في قيادة قاطرات نقل النفط والغاز تعرض لحوادث وأصابهم مرض كبير حيث كان يشرف على سرعة إنجاز معاملات نقلهم إلى خارج اليمن للعلاج ويحجز لهم مقاعد في الدرجة الأولى بالطائرة ويتكفل بكل تكاليف علاجهم ومعيشتهم وهم في الخارج واسرهم، ليس هذا فحسب بل كان يرسل معهم أقرب أقاربه مثل أخيه أو غيرهم كمرافقين لهم! وانا شخصيا لا استطيع هناك من قبيل الوفاء والعرفان بالجميل لأهله ان أغض الطرف ولا أتحدث عن افضال وجمائل توفيق رحمه الله تعالى رحمة واسعة عليَّ وعلى أسرتي رغم علمي بانه كان يشعر بحالة من الامتعاض والغضب اذا ما عبرت عن عرفاني وامتناني لجميله الكبير، ويسكتني بالقول إنه لا يريد سماع مثل هذا الكلام ثانية قائلاً لي "انت أخي الأكبر" ،ولا أريد أن اؤذيه في قبره مما كان يتأذى منه في حياته ولعله يعذرني إن أنا اضطررت الى مجرد الاشارة العابرة فأقول لقد وقف المرحوم توفيق إلى جانبي داعماً ومسانداً ومعنيا بكرم فائض في أوقات وظروف الشدة بالغة القسوة والعنت والقهر التي أحاطت بي وبأسرتي واهلي سنوات طويلة مريرة وظل كذلك حتى وفاته، ولا أريد كما قلت آنفاً ان اتحدث عن كل ذلك وهو حديث طويل وواسع وانما اكتفى هنا بواقعة تلخص وتجسد ذلك فبعد قيام دولة الوحدة عدت إلى الوطن من منفاي الاختياري في القاهرة وانتظرت التحاق أسرتي بي بعد اكمال امتحانات الاولاد ،وفي اليوم الذي تهيأت فيه لاستقبال أسرتي في مطار صنعاء فوجئت باتصاله بي تلفونيا ليخبرني انه في صنعاء وطلب مجيئي للمقيل عنده وفعلا ذهبت لكني اعتذرت عن القات وتساءل لماذا ؟ فأجبيته اني سأذهب للمطار لا ستقبل الأسرة، وسأل وأين ستكون؟ قلت في بيت من دور واحد شراكة بين اخي الاكبر وانا. وتساءل: هل يتسع لأسرتكما معاً ؟ قلت سنتكيف حسب المتاح وفجأة يحرك التلفون ويجري اتصالات فهمت منها أنه يتصل بشخص يلقب ب"الحرازي" يعمل في البنك اليمني للإنشاء والتعمير عارضا عليه شقة يملكها كاملة التأثيث في مدينة شيراتون السكنية بصنعاء ويبدو أنه كان يعرضها للبيع المهم ان الرجل رفع سعر الشقة عما كان معروضا فقبل توفيق وحول له المبلغ بتحويل بنكي عبر الفاكس وطالبه بتسليم مفتاح الشقة فطالب المالك مهلة للغد ليستلم المبلغ رد عليه حاسما: اريد المفتاح حالا وأجرى اتصالات بالبنك المحول المبلغ اقصد بمدير البنك، وطلب منه سرعة التحويل استثنائيا، وتم ذلك فعلا ووصل المفتاح وذهبت لتفقد الشقة فوجدتها جاهزة بالكامل لا ينقصها أي شيء، ومن اليوم الأول حللنا وأسرتي في الشقة ومكثت فيها ست سنوات ولم أخرج منها إلا بعد أن بنينا دورا ثانيا فوق بيتنا وعندما أعلمته بخروجي شاكرا وممتنا له حاول كثيرا ان يثنيني عن الخروج قائلا إنه أخبر أولاده الكرام وكتب وصيته ان أسكن في الشقة مدى حياتي ولا يخرجني أحد منها، وأصررت على الرحيل مبرراً ذلك بان بيتنا باتت واسعة وتستوعبنا، فقال رحمة الله عليه: لا تكون كالتي ركلت جعنانها برجلها. قلت له معاذ الله، وقد أحسنت مثواي ونزلي واكرمت وما جزاء الاحسان الا الاحسان.. اكتفى بهذه الواقعة واتوقف، والمؤكد بأن أعمال الخير والبر والاحسان دائما ما تظهر ويتواصى بها الناس تلقائيا بعد رحيل فاعلها كنوع من تخليد ذكرى من يستحقون خلود الذكر والسيرة بدعاء الناس وترحمهم وبث طيب الأحاديث عن فاعل الخير وصاحب الايادي البيضاء على خلق الله.. والواقع أنه من الطاف الله جل جلاله وكرمه وعنايته، أن تختار عبده توفيق عبدالرحيم مطهر وتنقله دار الحق والخلود في وقت كان فيه ذروة تألقه قوياً عزيزا كريما غير عاجز ولا مقعد ولا مذل أو مهان، وتلك من الألطاف الالهية وعنايتها توهب للمصطفين الأخيار الطيبين من عبادة الصالحين.. واخيرا فلقد رحل عن الدنيا توفيق مخلفاً صرحا شامخاً عالي البنيان قوى الأركان من النجاح العصامي الباهر الذي أسسه وبناه بجهده وعرقه وصبره ومثابرته وتاركاً نموذجاً مشرقاً من المجد بني وارتفع علياً من نقطة الصفر وخطوة بخطوة ولبنة فوق لبنه. إنها قصة حياة ونجاح نادر المثال للآخرين، ولم يرحل توفيق ويغادر الدنيا لينسى بل ترك ما يبقيه حياً وحاضراً بذكراه الطيبة ونجاحه وانجازه العظيم، فهل يستطيع أبناؤه الكرام المحافظة على صرح ومجد أبيهم الراحل ويطوروه ويضيفوا إليه إضافاتهم وإبداعاتهم على نهج وسيرة أبيهم؟. أستطيع القول انهم قادرون ومؤهلون لذلك تماما. اذكر أثناء زيارتي المبكرة لتوفيق شدني كثيرا وأثار كل إعجابي الطريقة والأسلوب المتميز الذي انتهجه توفيق في تربية وإعداد أبنائه على المستوى الاخلاقي الرفيع في تعاملهم مع الناس والاكبر سناً منهم بمن فيهم العاملون مع توفيق وعلى المستوى العملي وهو الأهم حيث كانوا يذهبون وهم صغارا للدراسة صباحا وبعد تناولهم طعام الغداء مع ابيهم يصحبهم معه مباشرة إلى مقر العمل لممارسة العمل واكتساب الخبرات شيئاَ فشيئاً شأنهم شأن سائر الموظفين والعمال الاخرين وبمرتبات وترقيات وجزاءات وعقوبات سارية على الجميع دون تميز. لم يتركهم عبثاً للفراغ والخلود إلى الترف والكسل او الانخراط فيما ينخرط فيه غالبا الشاب المرفه من ضياع ومفاسد وانحرافات فنشأوا منذ نعومة اظافرهم داخل العمل وجديته وخبراته وتجاربه حتى أصبحوا منذ سنوات يتولون ادارة الأعمال وتسييرها بكفاءة عالية بأنفسهم حتى في ظل غياب والدهم الطويل أحيانا حيث اثبتوا كفاءة وجدارة ومقدرة عالية المستوى وهذا ما يجعلني مطمئناً بان هذه الثروة ورأس المال العظيم الذي استثمر فيه وله توفيق متمثلا في حسن تربية وإعداد أولاده كأحسن ما تكون التربية والإعداد قادرة على المحافظة على الصرح الشامخ وبناء واضافة المزيد والمزيد إليه ليخدموا أباهم كما خدمهم وليخلدوا ذكره وذكراه العظيمة.. وداعاً توفيق أيها الصديق الإنسان.. وأسأل الله العلي العظيم القدير أن ينزل على روحك الطاهرة شآبيب رحمته ومغفرته ورضوانه ويسكنك فسيح جناته بمنه وفضله ويجزيك عن كل ما قدمته لخلقه خير الجزاء، وستظل ذكراك الطيبة لا تبارح مشاعرنا وقلوبنا ما بقيت لنا من هذه الدنيا حياة .. وانا لله وانا اليه راجعون. عبدالله سلام الحكيمي بريطانيا -شيفلد 13/9/2013م