لا تزال ترجمة النص الشعري تثير الكثير من الإشكالات والتساؤلات عن مدى صحة نقل العبارة الشعرية، بكل ما تحمله من قوة الوصف والاستعارة والتشبيه، وعن علاقة النص المترجم بالنص الأصل. ولا يزال الكثير من مثقفي العربية يتحفظون تحفظ الجاحظ الشهير حول ترجمة الشعر، ذلك أن الشعر المترجم (قد بطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط عنه موضع العجب). لم يخطئ الجاحظ في رأيه – بالتأكيد – بالنظر إلى توظيف المؤثرات الصوتية في القصيدة، ذلك لأن الوحدة الصوتية تختلف اختلافاً كبيراً من لغة إلى أخرى. ولذلك فقد عانى الشعر الغنائي كثيراً على أيدي المترجمين، ووقع ضحية لجريهم وراء اختيار أفضل المحسنات اللفظية المشابهة في اللغة الهدف. لكن الحداثة لم تعد تقرن وزن الشعر و(قافيته وموسيقاه بالتالي) بالحسن وموضع العجب، وجاءت بمفهوم حديث لترجمة النص الشعري لا يشترط – بل، يرفض – التقابل التام بين النصين. يلخص "ايزرا باوند" هذا المفهوم بأن (ترجمة أية قصيدة تتمتع بأي قدر من العمق تنتهي إلى شيء من اثنين: فهي إما أن تكون تعبيراً عن المترجم، أو في الواقع قصيدة جديدة، أو تظل كما هي، أي صورة تتطابق إلى أقصى حد ممكن مع جانب واحد من جوانب التمثال). يورد "لورانس فينوتي" مقولة باوند هذه كتصدير للفصل الخامس المعنون (الحداثة والترجمة) من كتابه اختفاء المترجم (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009 – الألف كتاب - ترجمة سمر طلبة ومراجعة د. محمد عناني). يرى المفهوم الحداثي للترجمة في النص المترجم كياناً مستقلاً لا يقف الى جوار أي نص آخر، كما يحدث في الترجمات المدرسية التقليدية، وبذلك يكون النص المستقل الجديد عملاً أدبياً جديداً في لغته، ينبغي الحكم عليه طبقاً لشروطه الخاصة به (لا بمعزل عن النص الأصلي و حسب، بل بمقارنته بالنصوص الأدبية الأصلية المكتوبة بلغته، وتخويله مسؤولية التميز في إطار المصطلحات الأدبية لتلك اللغة).إن تمتع النص باستقلاله التام يملي عليه مسؤولية جسيمة، تتلخص في محو سمات الاختلاف والتباين اللغوي والثقافي للنص الأصل وإزالة كل أشكال الغموض عنه بإخضاعه (لعملية التقريب التي تعاد كتابة النص في إطارها لخدمة المخططات الثقافية الحداثية). إن الوعي التام بعملية (التقريب) هذه هو الذي أدى إلى الاحتفاء الكبير الذي أبداه النقاد الانكليز حيال ظهور رباعيات الخيام، التي نقلها الى الانكليزية "ادوارد فيتزجرالد" عام 1859 وكان أول من لفت الأنظار إليها الشاعر الكبير "دانتي جابرييل روزيتي" عام 1860. ظهرت الرباعيات في الإنكليزية في نفس العام الذي نشر فيه كتاب دارون المدوي (أصل الأنواع) لتتوافق أسئلة الخيام الحائرة عن سر الوجود والموت مع موجة الشك العارمة التي أثارها دارون في نظريته. وبعيداً عن الجدل الفلسفي والشك واليقين فقد امتدح النقاد عمل "فيتزجرالد" الأدبي ورأوا فيه مثالاً نموذجياً للحداثة؛ لأنه ترجم (قصيدة لا وجود لها) لقد جعل فيتزجرالد الشاعر الفارسي الخيام يتحدث كما (لو أنه ولد في انكلترا في عصر بايرون) في إشارة واضحة إلى تأثر المترجم بالاستشراف الرومانسي، الذي تميز به لورد بايرون خصوصاً في قصيدته الشهيرة رحلة الطفل هارولد. يمكن قول الشيء نفسه عن ترجمة رباعيات الخيام إلى العربية. فمن بين العديد من الترجمات تميزت ترجمة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي التي لوحظ فيها الكثير من الإحالات (العبثية) التي تميز بها شعر الصافي نفسه. لكن أشهر الترجمات هي بلا شك ترجمة الشاعر أحمد رامي، الذي كتب هو أيضاً (قصيدة لا وجود لها) فعمل على تطويع النص الأجنبي في المفردة الشعرية العربية – رغم ما تحمله من أفكار فلسفية، قد تبدو صادمة – بكل سلاسة مستفيداً من خبرة واسعة في كتابة القصيدة – الأغنية مما جعل الملايين يرددون الأبيات المغناة بسهولة شديدة. يدفعنا ذلك للقول بأن إنجاز رامي في العربية لا يقل – البتة – عن إنجاز فيتزجرالد الرائد في الانكليزية، والذي سبقه بقرن من الزمن. في هذا الصدد أيضاً تجدر الإشارة إلى السمات الحداثية الواضحة التي تميزت بها ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لمسرح شكسبير . فقد عملت بعض ترجمات شكسبير إلى العربية في الشعر والمسرح على تقديم الشاعر الإليزابيثي الانكليزي كأحد شعراء العصر الجاهلي العرب، بينما آثر البعض الآخر اللجوء إلى نثر الحوار الشعري الشكسبيري تخلصاً من إشكالية ترجمته. لكن ترجمة جبرا تميزت بكونها الأكثر تمثيلاً للجملة الشكسبيرية الساحرة البليغة، والأكثر حفاظاً على المعنى والمؤثرات الحسية، في نفس الوقت دون أن تتجشم عناء اللجوء إلى ديوان الشعر العربي. يرجع ذلك – بالأساس - إلى استناد جبرا على ثقافته الواسعة في الانكليزية وأدبها وقراءته المعمقة لشكسبير، بالاقتران مع حس الشاعر المرهف – لديه – وخبرة المترجم المحترف. و لا ريب أن ثقافة المترجم لها اليد الطولى في عملية التقريب، التي تؤدي إلى إزالة الغموض عن النص الأصل و(جعل شيء أجنبي، أو شيء يبعد عنا زمنياً، يعيش حياتنا) كما يقول ت أس اليوت. وتبقى غاية الترجمة الحداثية تتلخص في إنتاج نص إبداعي جديد كامل الاستقلالية، شفاف تماماً يعبر عنه نورمان شابيرو بالقول إنه (يبلغ من فرط شفافيته حداً يبدو معه كما لو لم يكن ترجمة، فالترجمة الجيدة هي لوح زجاجي لا نلاحظ وجوده إلا إذا شاب نقاءه بعض الشوائب، كالخدوش والفقاقيع..وهو ما لا يجب أن يكون، فلا ينبغي أن تلفت الترجمة النظر إلى نفسها).