خلال عدد من زياراتي إلى دول عربية شقيقة جمعتني خلالها أحاديث مع عدد من الأصدقاء الذين تعرفت عليهم سواء من سوريا ومصر والسعودية أو تونس والمغرب وليبيا وموريتانيا، كان غالباً ما تدور أحاديثهم حول ما يسمعونه عن تمتع اليمن بمساحة كبيرة من الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية وحرية الرأي والتعبير، فكنت أجدها فرصة للتباهي بما وصلنا إليه من ديمقراطية فأقول :عندنا في اليمن وصل سقف الديمقراطية درجة أن وصل نقد الصحافة تجاه رموز الوطن درجةً يخجل الواحد منا أن يتلفظ بها، فكانت الدهشة والانبهار ترتسم على محياهم. واليوم جاء الوقت الذي أصبحت فيه أتبرأ من هذه الديمقراطية الغريبة الدخيلة دون استئذان على مجتمعنا البسيط، لأنها صارت سببا ًفي دخول البلاد دائرة المهاترات والاختناقات والأنفاق المظلمة, والسبب شلة ممن يحسبون أنفسهم ممثلين عن الشعب وهم عكس ذلك تماماً ، تنكروا سابقاً لكل مظاهر الديمقراطية التي يستغلونها اليوم لجر البلاد إلى الهاوية، تقودهم جماعة المشترك الذين فقدوا مصالحهم فظلوا ينافقون باسم الشعب وحقوقه المسلوبة ،وعندما حانت لحظة الحسم ودقت ساعة الصفر ليقودوا البلاد ويحملوا راية التغيير السلمي المشروع سلمياً، تنصلوا عن كل مهامهم المشروعة ومطالبهم المزعومة بحجة الوقوف مع الشارع الذي كانوا عنه بعيدين وهو منهم براء، فهبوا لاقتناص الفرصة رافضين كل الحلول مستقوين بالشباب الذين تفاعلوا بعفوية مع ثورتي مصر وتونس ،فتعالت بذلك مطالبهم وتعددت حججهم، التي تستهدف الوصول إلى مآربهم السلطوية، ولو على ظهور الشباب والمواطن البائس، وباتوا يتشدقون ويأملون ويراهنون أن يساهم الشباب في تنفيذ تجربتي مصر وتونس، ليصلوا هم إلى السلطة بكل بساطة ودون أي جدارة. نعم قد يكون الاعتصام مظهراً من مظاهر الحياة العصرية الديمقراطية وحقاً لكل مواطن يرغب في التعبير عن رأيه ورفضه للظلم والقهر والتعنت الذي يتعرض له من قبل الفاسدين والعابثين بالنظام والقانون ،لكنه أيضا يعد إفسادا إذا أُفرغ من معناه الحقيقي وخرج عن مساره الطبيعي الذي شرع من أجله والمتمثل بتحقيق المطالب المشروعة لكل فئات المجتمع، وليس الإضرار بحقوق الناس وتخويفهم وتعطيل مصالحهم، والتعنت في الآراء والمواقف والقفز على مصلحة الوطن وأمنه واستقراره، إن الديمقراطية بمفهومها الحقيقي العصري لا تعني الإضرار بمصالح الآخرين وممتلكاتهم وحريتهم بقطع الشوارع وإغلاق المحلات وعرقلة حركة المرور وإقلاق السكينة العامة وبث الذعر،إنما هي الأمن والاستقرار وضمان سلامة وحرية الآخرين . في اعتقادي أن التمادي في إطالة أمد الاعتصامات التي تشهدها عدد من المناطق وعلى رأسها تعز وصنعاء هي تقليد أجوف مع احترامي للتجربة المصرية ، ولا ضير من التقليد إذا ما كان شيئاً ضرورياً ويسعى لتحقيق هدف واضح، لكن التجريب لغرض التجريب فقط فهو الخطأ بعينه، لأننا كشباب لم نبلور مبادرة واقعية للخروج من الأزمة التي يمكن أن تعصف بالبلاد بالاستفادة من المبادرة الرئاسية بدلاً من الإصرار على تنفيذ مخطط عتاولة المشترك ،الذين تنازلوا عن الشباب في الكثير من الأوقات ويحاولون استخدامهم دروعاً بشرية، وهم طبعا خلف الغرف المغلقة. إننا جميعاً ضد الفساد ومع ضرورة التغيير الحتمي وأول المرحّبين بأسلوب الاعتصام الديمقراطي ولا أحد ينكر منا أن الفساد الذي استشرى في مختلف مرافق الدولة أصبح هماً يثقل كاهل كل مواطن شريف، و أمراً يحفز أي شخص لإعلان ثورته على هذا الفساد وأنصاره ،لكن الأمر أيضا بحاجة إلى قليل من العقل والتبصر في الواقع اليمني الذي بات يقلق الجميع ويهدد بقادم مرعب إذا ما استمر الحال على ما هو عليه من العنف الذي باتت تشهده ساحات الاعتصام للمحتجين من الشباب ومن الراقصين خلفهم على أنغام التصعيد والفتنة “الخلاقة”. إن الإصرار على مواصلة الاعتصام في ظل التنازلات التي عرضها الأخ رئيس الجمهورية أمام أحزاب اللقاء المشترك ودعوة الشباب إلى التحاور لتجنيب البلاد مأزق الانجرار إلى صراعات داخلية متعددة، يؤكد عدم جدية المشترك وعدم رغبته في الوصول إلى حل ديمقراطي حسب ما كان يعلن مراراً وتكراراً، خاصة بعد أن تصاعدت لهجته العدائية ضد الوطن واستقراره مستغلاً جموع الشباب التي خرجت منادية بالإصلاح والتغيير رافعاً سقف مطالبه عاليا وبصورة تعجيزية تؤكد السير نحو التأزيم والتصعيد. إن اليمن اليوم بحاجة ماسة إلى تغليب لغة العقل على كل الأهواء والمصالح الضيقة وأسلوب تصفية الحسابات خاصة من قبل أحزاب المشترك ،التي يبدو أنها تلعب على أوتار الأزمات حتى وإن كان الثمن أمن واستقرار الوطن، وهي اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالوقوف الجاد والمسؤول أمام الأحداث التي تشهدها الساحة الداخلية، بدلاً من تأجيج الشارع وإشعال فتيل الفتنة. على الجميع أن يعي ويفهم أن مكاسب الوطن التي تحققت بدءًا من الوحدة الغالية ومروراً بالتعددية السياسية والحزبية والديمقراطية وحرية الرأي وتحقيق المكاسب التنموية في مختلف أرجاء الوطن، والتي يحاول البعض تحطيمها وإنكارها ليس لشيء إلا لأنها تحققت في عهد الرئيس صالح، هي ليست ملكاً لعلي عبد الله صالح فقط ،فهي ملك لكل هذا الشعب وأحد مكتسباته التي يجب ألا يفرط فيها بسبب لحظة غضب وانتقام، وعلى الجميع أن يكون معولاً للبناء وليس للهدم, بالعودة إلى الحوار والتشاور قبل وقوع أي كارثة لا قدر الله، والحل سيأتي به الشباب وحدهم وكلنا أمل بذلك.