تجاوزت عدوى التقليد الأعمى للأحداث التي تجري من حولنا في بعض الأقطار الشقيقة حد المحاكاة لتصيب بعض القوى والتيارات السياسية والحزبية في بلادنا بحالة من الهوس والهستيريا التي تعطلت معها قدراتهم على التفكير الصائب والعقلاني، ونكتشف بالفعل أن التطرف السياسي لا يقل خطورة عن التطرف والغلو الذي يسيطر على بعض العقليات التي مارست التطرف الديني واعتنقت فكر الإرهاب الذي يستعدي الأخر ويعمل على تكفيره وإنكار حقه في الحياة، ما يؤكد أن التطرف مهما كان نوعه أو مجاله، فإنه في كل الأحوال مُدمر لقيم الاعتدال والتسامح والصفاء والنقاء ومعاني الترابط والتلاحم والتماسك الاجتماعي والوطني. وتبدو المقارنة صحيحة هنا إذا ما وقفنا أمام التعنت الذي تبديه بعض القوى والتيارات السياسية والحزبية إزاء دعوات الحوار المتكررة والتنازلات المتلاحقة التي قدمتها القيادة السياسية في إطار الحرص على تجنيب الوطن ويلات الفتن والفوضى والعنف والانقسامات الداخلية التي قد تحدث - لا سمح الله - بين أبنائه، إلا أنه وبفعل حالة التطرف السياسي التي عشعشت في دواخل هذه القوى فقد عميت أبصارها عن رؤية حقائق الواقع كما هي لا كما تصورها لها أهواؤها!! ولعل هذا التطرف السياسي قد منع مثل هؤلاء من اتخاذ المواقف السليمة التي تصون اليمن وتحمي نسيجه الاجتماعي من مغبات الوقوع في مهاوي الفوضى والاضطرابات والفتن والأزمات التي ستلقي بكارثتها على الجميع ودون تمييز أو استثناء لأحد بما فيهم هذه القوى والتيارات السياسية والحزبية التي انقسمت على نفسها ما بين نافخ كير متربص وبين قارع طبول يترقب لحظة انفجار حمى الفوضى على غرار ما حدث ويحدث في بعض الدول الشقيقة ودون إدراك للنتائج الكارثية التي سيقودون الوطن إليها لا سمح الله!!. ورغم أن ظاهرة التطرف السياسي هي من الظواهر الممقوتة والغريبة على مجتمعنا والدخيلة على تجربتنا الديمقراطية، فإن ما يؤسف له حقاً أن نرى مثل هذا التطرف وقد استبد ببعض القيادات السياسية والحزبية على نحو لم تعد معه تأبه لعواقب ما تقوم به وما تمارسه من تصرفات، على نفسها ومجتمعها ووطنها!!. ومن المفارقات العجيبة والغريبة أن تنبري مثل هذه القوى والتيارات السياسية والحزبية إلى الانقلاب على الديمقراطية، فيما تدعي - في الوقت نفسه - دفاعها عن الديمقراطية! وتسعى إلى تجاوز الشرعية الدستورية في الوقت الذي تستمد فيه مشروعة وجودها وعملها من منظومة العمل السياسي الديمقراطي أي من تلك الشرعية .. بل وأن تنحرف مواقفها كلياً وبمقدار 180 درجة عن كل ما كانت تطالب به وتدعو إليه بمجرد أن حدث ما حدث في تونس ومصر، مُتصورة أن ما حدث في هذين البلدين الشقيقين سيحدث تلقائياً في اليمن، غير مُدركة - أو متجاهلة - اختلاف الظروف والأوضاع في هذا البلد عن أي بلد آخر في المنطقة وبما لا يقارن. فاليمن كما قالت نائبة رئيس الشؤون الخارجية والعلاقات بالمفوضية الأوروبية وعضو مجلس اللوردات البريطاني البارونة إيما نيكلسون: لا وجه للشبه بينه وبين مصر وتونس وليبيا وغيرها من دول المنطقة، ويتميز عنها بأن لديه دستوراً ديمقراطياً ونظاماً تعددياً ورئيساً انتخبه شعبه في انتخابات تنافسية حرة ومباشرة وشفافة ونزيهة، بشهادة كل المراقبين الدوليين، كما أن لديه سلطة تشريعية "برلمانية" جاءت بالانتخاب وليس بالتعيين، كما أنه يمتلك نظاماً سياسياً مُنفتحاً على متطلبات التغيير دون حساسية، ورغبة واضحة في إحداث الإصلاحات التي تطالب بها المعارضة بصدر رحب طالما وأن هذه الإصلاحات تصب في مصلحة اليمن وتطوره وتقدمه. وليس سراً أن مثل هؤلاء الذين فشلوا حتى في التعلم من الآخرين، صاروا اليوم لا يتطفلون فقط على الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير والتعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة والمؤسسات الدستورية الشرعية للدولة، بل تجاوزوا كل ذلك إلى محاولات تعطيل مسارات التنمية وإعاقة الإصلاحات واستحقاقات العملية الديمقراطية، ناهيك عن استخفافهم بهذا الشعب وعقله ووعيه ومحاولتهم الالتفاف على إرادته وشرعية مؤسساته الدستورية!!. ولا شك أن هذا الشعب العظيم الذي يستخفون به هو من سيتصدى لهم ولكل المغامرات والمقامرات التي تستهدف أمنه ومصالحه، وسينتصر لوطنه ونهجه الديمقراطي ولاستقراره وثوابته ووحدة نسيجه الاجتماعي، كما هي مواقفه دوماً باعتبار أن الحقَّ أحقُ بأن يُتبع.