التطورات التي شهدتها تكنولوجيا الإعلام ألغت كل الحواجز الثقافية التي ظلت الكثير من دول العالم تصنعها لمقاومة الغزو الثقافي والتأثير الفكري في وعي مواطنيها وأكثر من ذلك فإن الدول الأقدر على التعامل مع منتج هذه التكنولوجيا وظفتها توظيفاً سياسياً لخدمة أجندتها السياسية وعمدت إلى صناعة إعلام يعيد تكوين الوعي الثقافي للعديد من شعوب العالم بما يتماشى ومصالحها. خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانت إذاعة صوت العرب تواجه سطوة وهيمنة ال “بي. بي. سي” في معركة غير متكافئة تقنياً وفكراً. إلا أن الخطاب السياسي القومي الذي كانت تقدمه صوت العرب لامس مشاعر الناس وأحاسيسهم وحاجتهم للإنعتاق من جبروت الاستعمار وتخلف أنظمة الحكم في معظم الدول العربية التي لا تخضع للاستعمار. تمكنت إذاعة صوت العرب من صناعة وعي قومي رافض للاستعمار متعطش للحرية متطلع لتأسيس أنظمة قطرية تؤمن بالوحدة العربية كمصير حتمي لكل العرب وفي كل الملمات التي مرت بها الأمة وأهمها وأخطرها كانت نكسة 1967م ورغم ما رافقها من تآمر بعض الأنظمة العربية لتصفية حسابات خاصة إلا أن المشاعر التي صنعتها صوت العرب دفعت الجماهير للخروج إلى الشارع تطالب بوحدة الصف العربي لمواجهة الخطر المحدق بالأمة فجاءت لاءات الخرطوم الثلاث. استمر هذا الوعي في التنامي حتى خرجت صوت العرب عن الصف وتحولت من الدفاع عن الحقوق العربية إلى الدعوة للتطبيع مع العدو الصهيوني ومحاولة إقناع المستمع العربي للقبول به كأمر واقع لكنها فشلت في التأثير على الوعي الرافض لها رغم ما رافق محاولتها من وجود مؤثرات أخرى مثل التلفزيون الذي كان للصورة أثرها في التأثير على ذلك الوعي. فشلت كل المحاولات التي بذلتها الصهيونية وقوى الاستكبار الدولية في تطويع الوعي العربي للقبول بإٍسرائيل أو الرضا عن تواجد قوات أجنبية في أي منطقة عربية وعلى الرغم من الجريمة التي ارتكبها نظام صدام حسين في حق الشعب الكويتي والعربي حين منح القوات الأجنبية ذريعة التدخل العسكري المباشر في المنطقة بعد احتلاله لدولة الكويت إلا أن الشارع العربي ظل رافضاً للتدخل الأجنبي في إخراج القوات العراقية من الكويت مع وجود رأي بدأ يتكون لقبول هذا التدخل وإن كان على استحياء. وبعد خروج القوات العراقية من الكويت كان الوعي العربي قد بدأ يتقبل التدخل الأجنبي كضرورة لحل الخلافات (العربية – العربية). القوى الاستعمارية ومن ورائها الصهيونية العالمية اختارت الإعلام كسلاح رئيس لكسر حاجز الرفض للأجنبي فتم زراعة قناة الجزيرة بطاقمها المحسوب على دوائر الاستخبارات العالمية وسياسة إعلامية تظهر الوقوف التام مع القضايا العربية المتعلقة بالصراع مع الكيان الصهيوني حتى تتمكن من إقناع المشاهد العربي بمواقفها القومية وهي بالأساس تهيئ لمشروع أكبر من الصراع (العربي – الإسرائيلي) يخدم مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحته الدوائر الاستخباراتية الأمريكية ويطوع الوعي العربي للقبول الكامل بالتدخل الأجنبي في المنطقة العربية وهو ما يتحقق على الأرض حين طلبت الجامعة العربية بالإجماع تدخلاً أجنبياً في ليبيا وانسجم ذلك مع رأي الشارع العربي. إن الخطر الذي تمثله قناة الجزيرة على الوعي العربي كارثياً وسواءً اتفقنا أو اختلفنا حول أسباب دعمها للانتفاضات العربية فإن التباين في تغطيتها للأحداث في البحرينإيران تكشف عن حسابات وأهداف ذاتية لا علاقة لها بالمهنية الإعلامية .. هل من قراءة عقلانية لما قدمته إذاعة صوت العرب وما تقدمه الجزيرة اليوم؟!.