تعد اللغة العربية إحدى اللغات العالمية القليلة المعترف بها عالمياً على الرغم من التأخر السياسي للناطقين بها، بلَه الاتهامات والأراجيف التي تقال حولها كعدم قدرتها على مواكبة الاختراعات والابتكارات الحديثة، أو قدرتها على أن تكون لغة سياسة واقتصاد، بل وأدب وهي تهم لاتصمد أمام النقاش العلمي الجاد، إذ كيف تستطيع لغة كالعبرية مثلاً أن تنهض من جديد بعد موات وتصبح لغة سياسة واقتصاد وأدب، وتستطيع مواكبة الاختراعات والمبتكرات الحديثة، فيدّرس بها مختلف علوم العصر من طب وهندسة وتجارة..إلخ أو كالصينية على صعوبتها وكثرة حروفها، فلكي تقرأ رسالة صغيرة بها عليك معرفة ألفي حرف على الأقل. ويزداد العجب حينما تهاجم العربية من لدن الناطقين بها، من أبنائها وتُتهم بعدم القدرة على مواكبة العصر بكل ملابساته واختراعاته، وإذ الأمر كذلك فعليها أن تقبع هناك بعيداً في زوايا المساجد ومدارس ومعاهد التعليم الديني وتنسحب من الحياة العلمية والسياسية والاقتصادية، وربما الحياة العامة، لأن الحياة كما يزعمون قد تبدلت وتغيرت، فلا خيام، ولا أوتاد ولا يرابيع، أو طلل ونوق. والحقيقة، التي لاتقبل الشك والمراء هي أن اللغة العربية بعيدة كل البعد عن كل تلك الاتهامات والأكاذيب، وأن لديها من القدرة والغزارة والديناميكية والدقة ما يجعلها قادرة على استيعاب كل مخترعات العصر وابتكاراته، قادرة على ذلك عن طريق الاشتقاق والتوليد أو اختيار ألفاظ قريبة أو ذات مدلول على المخترع الجديد أو عن طريق التعريب بعد إخضاع اللفظ الأجنبي لإيقاع وموسيقى وقوانين العربية. فعلى سبيل المثال، لا الحصر استطاعت العربية حديثاً أن تضع اسم “الهاتف” على التليفون، أو الكابح على فرامل السيارة الذي يوقفها والهاتف مشتق من الفعل “هتف” بمعنى نادى وهو يتوافق مع المخترع الجديد “التليفون” وكذلك “الكابح” معناه المقود الذي تقاد به الدابة، وتُوقف به، إذا أراد صاحبها أن يوقفها، ومثل “القطار” علماً على وسيلة النقل المتصلة ببعضها فالقطار في لغة العرب، معناه مجموعة الإبل السائرة بمجموعات مترابطة، وبقيادة واحدة.. ومثل الناسوخ علماً على الفاكس..إلخ. فإن لم تستطع العربية “فرضاً” أن تستوعب المخترع الجديد بأية حيلة، أو وسيلة فما المانع أن يبقى مستعملاً بلغته الأصلية، بعد إخضاعه للقوانين اللغوية العربية؟! وكل لغات العالم الحية تقترض من بعضها والقرآن الكريم على جلالة قدره استعمل الكثير من الألفاظ الأعجمية، وذلك شيء طبيعي ودلالة على حياة اللغة، لأن من علامات حياة اللغة قدرتها على الأخذ والعطاء. ومهما تكن اتهامات خصوم العربية، ومهما تكن أراجيفهم، وأكاذيبهم فإن لدى العربية مؤهلات كثيرة للبقاء والاستمرار، ولتصبح لغة علم ودين أو سياسة واقتصاد في آن ومن هذه المؤهلات: أنها لغة القرآن الكريم، الذي تعهد الله بحفظه قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ويلزم من حفظ القرآن حفظ اللغة التي فيها نزل وبها تحدى الله العرب، فلم يستطيعوا أن يجاروه أو يحاكوه على الرغم من أنهم أمة لغة وفصاحة وبيان. والسبب الثاني غزارة ألفاظ هذه اللغة وكثرة مفرداتها وطواعيتها لأي استعمال. ثالثاً دقة الاستعمال والتصوير لمدلولات ومعاني الألفاظ فعلى سبيل المثال للمفرد في العربية صورة وللمثنى صورة وللجمع صورة مغايرة، فكلمة مثل “رجل” تثنيتها “رجلان رجلين” وجمعها رجال، فضلاً عن الفروق بين جمع وجمع، إذ هناك جموع كثرة وجموع قلة، وذلك كله تفتقد له لغة عالمية كالانجليزية مثلاً، فكلمة رجل عندهم “man” للمفرد و “men” للمثنى والجمع، الأمر سيان فإذا سمعنا كلمة “men”، لا ندري أهو للتثنية أو للجمع.. وهناك فرق بين حسام نجح ونجح حسام فالأول الاهتمام منصب على المسند إليه “حسام” والجملة الثانية الاهتمام منصب على المسند “النجاح”. وإذاً هناك فرق بين التعبيرين، بينما في الانجليزية يجب تقديم الفاعل في مثل التعبير السابق وهناك أمثلة أخرى لا حصر لها، تبين دقة العربية في الاستعمال والتصوير مما لا تتسع لها مثل هذه المقالة. رابعاً أنها لغة اشتقاقية، وهذه من أهم خصائص العربية، التي تجعلها قادرة على استيعاب أي جديد يفد إليها، حيث نستطيع أن نولد من اللفظ الواحد عدة اشتقاقات والمعنى واحد أو متقارب، خذ مثلاً الفعل “كتب” وانظر إلى اشتقاقاته الكثيرة : يكتب ، اكتب، مكتوب، كاتب، كتاب، كتابة، كتب ، كتيب، مكتبة.. الخ وبإمكان صاحب اللغة الانجليزية أن يضع ما يقابل ذلك كله في الانجليزية ليرى الفرق. ويحدثنا أستاذنا عالم اللسانيات بجامعة تعز عباس السوسوة: أن عالم لسانيات أميركياً استطاع أن يجد من الفعل “نوى” مائتي اشتقاق. خامساً ومن هذه المؤهلات، كثرة المتحدثين بها، وهذا سبب ديموجرافي “سكاني” فمن يتحدث هذه اللغة مئات الملايين يتوزعون مساحة جغرافية واسعة، وصحيح أنهم ينطقونها مشوبة بلهجات ولكنات محلية مختلفة، لكن بينهم قدراً كافياً للتفاهم بوساطتها فالمصري على سبيل المثال يستطيع أن يفهم مايقوله اليمني أو الخليجي، والعكس صحيح.. ومجلة مثل “مجلة العربي” يستطيع أن يقرأها كل من نطق بالضاد في أي مكان بالعالم ويفهم ماتقول، أي إن ثمة مستوى معيناً من مستويات اللغة العربية هو المستوى الفصيح، الجميع لديه القدرة على فهمه وإن اختلفت الأقطار ولو افترضنا أن مجموعة تتألف من 22 فرداً ينتمون لاثنين وعشرين بلداً عربياً أو حتى غير عربي ويتكلمون العربية لو وقفوا أمام قناة كالجزيرة مثلاً يستمعون نشرة الأخبار لفهم الجميع ما يقال. نعود فنقول: إذا كان ثمة انزواء أو عجز في اللغة العربية – حاشاها- فذلك لا يعود لطبيعة العربية وإنما لطبيعة أهلها، إذ من الحقائق التي لا ينكرها احد أن التأخر السياسي والاقتصادي لأي أمة يؤدي إلى انزواء لغتها وتأخرها والعكس صحيح، أي إن التقدم السياسي والاقتصادي والشهود الحضاري لأي أمة من أمم الأرض يؤدي إلى انسياح لغتها وانتشارها وهذه نظرية يؤيدها العلامة ابن خلدون إذ يقرر بوضوح فيقول: «إن غلبة اللغة بغلبة أهلها ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم». وعندما كان العرب امة قوية سياسياً واقتصادياً وذات شهود حضاري كانت العربية هي اللغة الأولى في العالم ويصدر عبد الملك بن مروان في القرن الأول الهجري مرسوماً ملكياً يقضي باعتماد العربية لغة رسمية لكل أقاليم الدولة العربية الإسلامية من الصين شرقاً وحتى سواحل الأطلسي وجنوبي فرنسا غرباً(فيما بعد) وصك على العملة الكتابة بالعربية وصار شرطاً على من أراد وظيفة في الدولة أن يتقن العربية، فأقبل الناس يتعلمون العربية من شتى بقاع العالم تزلفاً للعرب وطلباً للقرب منهم أو الظفر بوظيفة أو لدواعٍ دينية صرفة وهذا كله دليل عملي على نظرية ابن خلدون سالفة الذكر. وإذن تبقى نظرية أن العربية قاصرة لا تصلح للعلم والسياسية من التهم الكبيرة والخطيرة التي لا تصلح لأي نقاش جاد وأن الخلل عند أبنائها وأعتقد جازماً- أن أي أمة لم تنهض وتأخذ مكانها في مصاف الدول المتقدمة التي تحترم نفسها بغير لغتها القومية والمحلية لأن اللغة ليست عبارات وألفاظاً وجملاً بقدر ما هي فكر وطريقة حياة إذ هي (اللغة) وعاء للفكر على حد تعبير هيجل وإذا أرادت الأمة “أي أمة” أن تنهض، فعليها أن تضع العربة قبل الحصان، أي عليها أن تبدأ بتعريب العلوم، ثم تدريسها بعد تعريبها، وليس تدريسها بلغاتها الأصلية، ثم تطلب بعد ذلك النهوض، عليها أن تفعل ما فعلته دولتنا العربية العباسية، التي أنشأت دار الحكمة لترجمة العلوم من الفارسية والهندية وغيرهما من اللغات. أجل! وكان ذلك في عهد المأمون وعهد إلى سهل بن هارون بالإشراف على الدار وكان يعطى من يقوم بتأليف كتاب أو ترجمته وزنه ذهباً. تحكي لنا كتب الأدب أن أسقف قرطبة ألفارو هاله عدم إتقان الأندلسيين للاتينية وإجادتهم للعربية، فكتب يشكو أنه لا يجد بين الألوف من أبناء طائفته من يستطيع أن يكتب رسالة باللاتينية المقبولة على حين يتقن الكثيرون العربية وينظمون الأشعار فيها بمهارة، لا تقاربها مهارة العرب أنفسهم. أين حدث هذا! ومتى؟ في الأندلس في أوج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، مما يؤكد أن الشهود الحضاري والتقدم السياسي لأي أمة يؤدي إلى انتشار لغتها. على أن التأخر السياسي والحضاري للأمة العربية اليوم لم يمنع أن تكون اللغة العربية إحدى لغات سبع عالمية معترف بها في الأممالمتحدة، للأسباب التي مرت في ثنايا هذه المقالة، ولله في اللغات شئون!!