تعد اللغة العربية واحدة من اللغات العالمية المسجلة في منظمة الأممالمتحدة, على الرغم من التأخر السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي للناطقين بها, وعلى الرغم من الاتهامات الكثيرة التي توجه إليها كتلك التي ترى عدم قدرة العربية على مواكبة اختراعات العصر وابتكاراته, أو عدم قدرتها على أن تكون لغة للسياسة والاقتصاد والفكر والأدب؛ فالحياة أصبحت أكثر تعقيداً وتشابكاً فلا ظباء ولا خيام ولا أوتاد ولا يرابيع ولا ناقة أو جمل, إن الحياة هي حياة الصاروخ والطائرات والذرة والنانو , و..و ..وإلخ؛ وإذ الأمر كذلك فعليها أن تنزوي هناك بعيداً في المساجد ومدارس التعليم الديني ومعاهده, كما عليها أن تنسحب من الحياة العامة. وهي تهم خطيرة وظالمة؛ ولا تصمد أمام النقاش العلمي الجاد والموضوعي لجملة أسباب تاريخية وموضوعية, وذاتية, لعل أهمها أن اللغة العربية كانت فيما مضى من التاريخ اللغة الرسمية لكل أقاليم الدولة العربية الإسلامية من الصين شرقاً وحتى سواحل الأطلسي وجنوبي فرنسا غرباً «مدينة بواتيه وسط غرب فرنسا», ومن بحر قزوين في الشمال حتى المحيط الهندي في الجنوب. ومن المهم هنا الإشارة إلى الدور الكبير الذي قام به عبد الملك بن مروان في خدمة اللغة العربية وهو تعريب الدواوين في الدولة الإسلامية, وكان من أهم الدواوين التي شملتها عملية التعريب في عصر عبد الملك بن مروان، ديوان الجند، وديوان الخراج، وديوان الرسائل، وديوان المغانم، وديوان البريد.، فقد كانت تلك الدواوين منذ بداية الدولة الإسلامية وحتى عهد عبد الملك بن مروان تكتب في فارس والعراق باللغة الفارسية، وفي الشام ومصر والمغرب تكتب باللغة اليونانية، وكان ذلك في البداية ضرورة من الضرورات التي واجهتها الدولة الإسلامية، فلم يكن لديها عدد كافٍ من العرب المسلمين لإدارة دواوين الخراج؛ لأن العمل فيها صعب ومعقد ويحتاج إلى خبرة كبيرة، فترك المسلمون هذه الدواوين تحت إدارة غير العرب، وتستخدم فيها لغات غير عربية، فلما جاء عبد الملك بن مروان رأى أن هذا الوضع لا بد أن ينتهي ولا بد أن تتوحد لغة الإدارة في جميع أنحاء الدولة الإسلامية إلى اللغة العربية ولم يقم عبد الملك بهذه الخطورة الجبارة إلا بعد أن استعد لها استعداداً كافياً بأن جهز عدداً من العرب المسلمين الذي تعلموا اللغتين الفارسية واليونانية وتدربوا على شئون المال والاقتصاد ولذلك لما بدأت ترجمة هذه الدواوين لم يحدث أي نوع من الارتباك أو تعطيل العمل، ولم يقتصر عمل عبد الملك هذا على توحيد لغة الإدارة في الدولة الإسلامية بل كان له أثر آخر أعظم، ذلك أن الموظفين غير العرب الذين كانوا يعملون في تلك الدواوين، وكانت أعدادهم كبيرة، لكي يحافظوا على وظائفهم فقد بدأوا يتعلمون اللغة العربية وتعلمهم اللغة العربية جعلهم يتعرفون على الإسلام والاقتراب من مبادئه العظيمة وانتهى الأمر بأغلبهم إلى اعتناقه. وكما عرّب عبد الملك بن مروان تلك الدواوين فقد قام بعمل عظيم آخر لا يقل أهمية عن تعريب الدواوين وهو تعريب العملة، فقد كانت الدولة الإسلامية حتى عهده تعتمد على النقد الأجنبي وبصفة خاصة الدينار البيزنطي، فألغى عبد الملك التعامل بهذا الدينار، وأمر بصك دينار إسلامي، وبنيت دور لصك النقود في الشام والعراق، وبهذا صبغ عبد الملك بن مروان الدولة الإسلامية بصبغة عربية إسلامية في جميع المجالات؛ لهذا فقد كان لفكرة التعريب أثرها العظيم في رفع شأن اللغة العربية، حتى غدت اللغة الرئيسية بعد أن كانت تُعد لغة أجنبية كسواها بالنسبة لأهل البلاد المفتوحة. يتضح من هذه الناحية أن الشهود الحضاري والتقدم السياسي للأمة يؤدي بالضرورة إلى انتشار لغتها, وهي فرضية تحدث عنها المؤرخ ابن خلدون منذ قرون مضت؛ إذ يقول: «إن غلبة اللغة بغلبة أهلها ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم” تماما كما هو الآن حال اللغة الإنجليزية التي نالت حظاً وافراً لا تخطئه العين من الانتشار وشدة الإقبال, أو حتى الفرنسية». وفيما يتصل بالناحية الموضوعية والذاتية, فإن اللغة العربية تنماز بميزات كثيرة, تجعلها في مقدمة اللغات العالمية على الرغم من التأخر الكبير للناطقين بها على مستويات كثيرة, أشرت إليها في مقدمة هذه المقالة, ومن هذه الميزات والخصائص, ما يلي: أنها لغة القرآن الكريم, الذي تعهد الله بحفظه, قال تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» ويلزم من المحافظة على القرآن الكريم, المحافظة على لغته؛ لأن العربية هي مادته؛ لذا نالت العربية شرف حمل كتاب الله. ولقائل أن يقول: إن هذه الحجة ليست بذات بال؛ فصاحب اللغة العبرية, سيحتج على مكانة لغته بأن التوراة أيضا نزلت بالعبرية, ولكن التوراة محرفة واعتراها الكثير من التغيير والتبديل, حسب الهوى والمزاج... ثم كيف للغة كالعبرية مثلاً أن تنهض من جديد بعد موات وتصبح لغة سياسة واقتصاد وأدب، وتستطيع مواكبة الاختراعات والمبتكرات الحديثة، فيدرس بها مختلف علوم العصر من طب وهندسة وتجارة..إلخ أو كالصينية على صعوبتها وكثرة حروفها؛ فلكي تقرأ رسالة صغيرة بها عليك معرفة ألفي حرف على الأقل, كيف للغتين كهاتين أن تصبحا لغتين للعلم والفن والاقتصاد.. وليس للعربية ذلك!؟ ومن هذه الخصائص، كثرة مفرداتها، وغزارة ألفاظها, وتعدد مصادرها؛ إذ تبلغ عدد مفردات القاموس المحيط وحده ستين ألف مفردة قبل الاشتقاق, كما أن الاشتقاق يعد إحدى الخصائص المهمة في هذه اللغة؛ إذ نستطيع أن نشتق من الأصل الواحد عشرات المشتقات, تدور حول قطب واحد, من ذلك أننا نشتق من الفعل الماضي المجرد كتب أو مصدره على اختلاف في أصل المشتقات؛ عشرات الألفاظ: يكتب، اكتب، مكتوب، كاتب، كتاب، كتابة، كتب، كتيب، مكتبة.. الخ ما يجعلها قادرة على تمثل واستيعاب الكثير من المخترعات الحديثة بهذه التقنية, وهذه خصيصة لا توجد في الإنجليزية إلا بالحدود الدنيا وبإمكان صاحب اللغة الإنجليزية أن يضع ما يقابل ذلك كله في الإنجليزية ليرى الفرق. ومن هذه الخصائص, دقة استعمالها, وتعدد صورها التعبيرية, من ذلك أننا نقول: حسام كتب الدرس, ونقول كتب الدرس حسام, وحسام الدرس كتب وحسام كاتب الدرس, وكاتب الدرس حسام,...الخ ولكل استعمال من هذه الاستعمالات دلالته الدقيقة التي لا يؤديها الاستعمال الآخر. ولكن في الإنجليزية صورة واحدة للكلام هي تقديم الفاعل دائما, إلا في حالة بناء الجملة للمجهول. كما إن هناك فرقاً في العربية من حيث الدلالة بين قولنا: محمد قائم, وإن محمداً قائم, وإن محمداً لقائم؛ فالأولى تلقى لخالي الذهن من أي تردد أو شك والثانية للمتردد الشاك في الخبر والثالثة للمنكر, فليس هناك حشو فيها كما قد يحسب بعض الناس. ومن ظواهر هذه الدقة أيضاً, أن للمفرد في العربية صورة وللمثنى صورة وللجمع صورة مغايرة، فكلمة مثل «رجل» تثنيتها «رجلان رجلين» وجمعها رجال، فضلاً عن الفروق الدقيقة بين جمع وجمع؛ إذ هناك جموع كثرة وجموع قلة، وذلك كله تفتقد إليه لغة عالمية كالإنجليزية مثلاً، فكلمة رجل عندهم “man” للمفرد و “men” للمثنى والجمع، الأمر سيان فإذا سمعنا كلمة “men”، لا ندري أهو للتثنية أو للجمع, إلا بعد الرجوع للسياق وهو أمر على كل حال خارج عن ذات اللغة. كما إن للإعراب في العربية دوره في فهم النص, وبدونه قد نسيء فهم الكثير من النصوص, مثال ذلك, قوله تعالى:« ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه...» الآية. فظاهر الآية أن يوسف عليه السلام همّ بالوقوع في الفاحشة, ولكن الإعراب الصحيح يأبى ذلك الفهم, والمعنى كما يحدده جواب الشرط.. إن رؤية برهان الرب مانع وصارف ليوسف عن الهمّ، أي ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها، فامتناع الهم بها إذن لوجود برهان الرب وهذا المعنى هو أحد معنيين رجحهما الكثير من العلماء والدارسين, منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان. ومن ذلك قوله تعالى: «وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُه» وقوله: «إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ» فللإعراب دور مهم في فهم مثل هذه التراكيب. وبعد.. تلك بعض خصائص العربية التي تجعلها من أهم لغات الأرض, وتكسبها القدرة على التعايش واستيعاب الكثير من المخترعات, عبر تقنيات كثيرة, كالتعريب والترجمة والاقتراض, وهذا الأخير ليس عيباً، فكل اللغات الحية تقترض من بعض وهو علامة على حياة اللغة وقدرتها على التعايش والثقة بالذات. على أننا نحتاج لجهود جبارة للعناية بلغتنا في إنشاء المجامع اللغوية, لتعريب العلوم وترجمتها من لغاتها الأصلية إلى لغتنا العربية الجميلة, ولنا تأريخ عريق في هذه الناحية, يرجع إلى عهد هارون الرشيد الذي أسس دار الحكمة التي نهضت بجانب كبير على هذا الصعيد؛ إذ قامت الدار بتعريب وترجمة الآلاف أو عشرات الآلاف من الكتب من اليونانية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية في كل مجالات المعرفة, في الطب, في التخطيط والعمران والفلسفة, و..و..الخ. وبلغ من تأثير الحضارة العربية في الأندلس إلى التأثير في لغات الإسبان إلى يومنا هذا؛ إذ تحتوي اللغة الإسبانية على أكثر من 2500 كلمة عربية, ويذهب بعض الباحثين إلى أن كل الكلمات الإسبانية التي تبدأ ب «أل» التعريف هي كلمات عربية.. وفيما نحن بصدده قرأت حواراً في مجلة عربية مع د. الطاهر أحمد مكي ومما جاء فيه أن إسرائيل، حتى قبل أن تعترف بها إسبانيا، وقبل أن تفتح سفارة هناك لم تكن تتوانى في إرسال كل ما يصدر بها إلى المراكز المتخصصة في الدراسات العبرية. ويضيف: أنا أذكر أن إسرائيل في أوائل الستينيات استطاعت بوسائلها الخاصة أن تستضيف رامون مينيدرث بيدال، رئيس المجمع اللغوي وأكبر مفكر في إسبانيا أيامها.. وعندما ذهب إلى إسرائيل كان أول مكان أخذوه إليه بيت يهودي متخصص في الإسبانية يقوم بترجمة «ملحمة السيد» إلى اللغة العبرية. وعاد الرجل من هناك، وبكل ثقله الفكري والعلمي أخذ يصرّح أنه من الحماقة ألا تعترف إسبانيا بهذه الدولة المثقفة المتحضرة. من الأهمية بمكان إذن أن يكون لدينا مجامع لغوية كثيرة تنهض بعملية الترجمة والتعريب لكسب احترام العالم وإقامة جسر معه متين ونشر الثقافة والعلوم والتعرف على ما لدى الأمم من حضارة وعلم ومعرفة. إن هذه اللغة هي الرافعة الحقيقة لكل ثقافتنا وفكرنا وتاريخنا الضارب عميقاً في تأريخ الجنس البشري فيجب الاعتناء بها وتسخير كل الطاقات لها.. إن اللغة حياة!!