حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 24 - 11 - 2006


- د. عبد الله علي الكميم
الباب الأول علم اللغة
الفصل الأول: المفهوم والدلالة
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي اعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
وسأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن:
قال ابن منظور في كلمة (لغا) اللَّغو واللَّغا: السَّقَط وهو ما لا تعتد به من كلام وغيره، ولا تحصل منه على فائدة ولا نفع. التهذيب. اللغو واللغا واللغوى ما كان من الكلام غير معقود عليه. الفراء: وقالوا: كل الأولاد كفاً أي لغو، إلا أولاد الإبل فإنها لا تلغى، قال: قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنك إذا اشتريت شاة أو وليدة معها ولد فهو تبع لها لا ثمن له مسمى إلا أولاد الإبل. وقال الأصمعي: ذلك الشيء لك لغو ولغا ولغوى وهو الشيء الذي لا يعتد به.
قال الأزهري: واللغة من الأسماء الناقصة وأصلها لغوة من لغا إذا تكلم. واللغا: ما لا يعد من أولاد الإبل في دية أو غيرها لصغرها. وشاة لغو وكفاً لا يعتد بها في المعاملة. وقد ألغي له شاة وكل ما أسقط فلم يعتد به ملغي. قال ذو الرمة يهجو هشام بن قيس المرئي أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة:
كما ألغيت في الدية الجوارا
ويهلك وسطها المرئي لغواً
وطلب الفرزدق من ذي الرمة فقال: أنشدني شعرك في المرئي فأنشده فلما بلغ هذا البيت قال له الفرزدق: حس. أعد علي فأعاد، فقال: لاكها والله من هو أشد فكين منك. وقوله عز وجل: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} اللغو في الأيمان: ما لا يُعقد عليه القلب، مثل قولك: لا والله، وبلى والله. قال الفراء: كان قول عائشة أن اللغو ما يجري في الكلام على غير عقد. قال: وهو أشبه ما قيل فيه بكلام العرب. قال الشافعي: اللغو في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه، وجماع اللغو هو الخطأ إذا كان اللجاج والغضب والعجلة. وعقد اليمين أن تثبتها على الشيء بعينه أن لا تفعله فتفعله أو لفعله فلا تفعله، أو لقد كان وما كان فهذا أنم وعليه الكفارة.
قال الأصمعي: لغا يلغو إذا حلف بيمين لا اعتقاد، وقيل: معنى اللغو الإثم. والمعنى لا يؤاخذكم الله بالإثم في الحلف إذا كفرتم. يقال: لغوت باليمين ولغا في القول يلغو ويلغي لغواً ولغي، بالكسر يلغي لغا وملغاة: أخطأ وقال: باطلاً قال رؤبة وينسبه ابن بري للعجاج:
عن اللغاء ورفث التكلم
ورب أسر أب حجيج كضم
ويسترسل صاحب اللسان قائلاً: وهو اللغو اللغا ومنه النجو والنجا لنجا الجلد، وأنشد ابن بري لعبد المسيح بن عسلة قال:
مستخفياً صاحبي وغيره الحافي
باكرته قبل أن تلغى عصافره
قال: هكذا روي تلغى عصافره، قال: وهذا يدل على أن فعله لغى إلا أن يقال إنه فتح لحرف الحلق، فيكون ماضيه لغا ومضارعه يلغو وتلغي، قال وليس في كلام العرب مثل اللغو واللغى إلا قولهم الأسو والأسا، أسوته أسوا وأسا أصلحته واللغو ما لا يعتد به لقلته أو لخروجه على غير الاعتماد من فاعله كقوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم(.
ويضيف: وقد تكرر في الحديث ذكر لغو اليمين، وهو أن يقول: لا والله وبلى والله ولا يعقد عليه قلبه، وقيل هي التي يحلفها الإنسان ساهياً أو ناسياً وقيل: هو اليمين في المغضبة: وقيل في الغضب، وقيل في المراء، وقيل: في الهزل، وقيل: اللغو سقوط الإثم عن الحالف إذا كفر يمينه، يقال لغا إذا تكلم بالمطرح من القول. وما لا يعني. والغى إذا اسقط، وفي الحديث: (والحمولة المائرة لهم لاغية)، أي ملغاة لا تعد عليهم ولا يلزمون لها صدقة .. واللاغية: اللغو: وفي حديث سلمان: (إياكم وملغاة أول الليل) يريد به اللغو والملغاة مفعلة من اللغو والباطل يريد به السهر فيه.
وكلمة لاغية: فاحشة، وفي التنزيل العزيز: (لا تسمع فيها لاغية) هو على النسب أي كلمة ذات لغو. وقيل أي كلمة قبيحة أو فاحشة. وقال قتادة أي باطلاً وماثماً. وقال مجاهد: شتماً .. وقال غيرهما: اللاغية واللواغي بمعنى اللغو مثل راعية الإبل ورواعيها بمعنى رغائها. ونباح الكلب غو أيضاً وقال:
فلا تلغي لغيرهم كلاب
وقلنا للدليل: أقم إليهم
واللغا الصوت مثل لوغى. وقال الفراء في قوله تعالى: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) قالت كفار قريش: إذا تلا محمد القرآن فالغوا فيه أي الغطوا فيه يبدل أو ينسى فتغلبوه. قال الكسائي: لغا في القول يلغي. وبعضهم يقول: يلغو ولغى يلغي لغة، ولغا يلغو لغواً: تكلم. وفي الحديث: (من قال يوم الجمعة والإمام يخطب لصاحبه "صه" فقد لغا) أي تكلم. وفي حديث آخر: (من مس الحصى فقد لغا) أي تكلم أو عدل عن الصواب. وفي التنزيل العزيز:(وإذا مروا باللغو مروا كراماً) أي مروا بالباطل. ويقال ألغيت هذه الكلمة. أي رأيتها باطلاً أو فضلاً، وكذلك ما يلغى من الحساب. وألغيت الشيء تكلمته.
واللغة اللسن وحدّها أنها أصوات يعبر بها كل يوم عن أغراضهم، وهي فعلة من لغوت أي تكلمت، أصلها لغوة ككرة وقلة وثية. كلها لاماتها واوات. وقيل أصلها لغي أو لغو والهاء عوض وجمعها لغى مثل بره وبرى، وفي المحكم: الجمع لغات ولغوت، قال ثعلب: قال أبو عمرو لأبي خيرة: يا أبا خيرة، سمعت لغاتهم، فقال أبو خيرة: وسمعت لغاتهم، فقال أبو عمرو: يا أبا خيرة: أريد أكثف منك جلداً جلدك قد رق ولم يكن أبو عمرو سمعها، ومن قال لغاتهم بفتح التاء شبهها بالتاء التي يوقف عليها بالهاء. والنسبة إليها لُغوي ولا تقل لَغَوي قال أبو سعيد: إذا أردت أن تنتفع بالأعراب فاستلغهم أي اسمع من لغاتهم من غير مسألة، وقال الشاعر:
برمت فألفوني ببرك أعجما
وإني إذا استلغاني القوم في السرى
استلغوني أرادوني على اللغو. التهذيب: لغا فلان عن الصواب وعن الطريق إذا مال عنه، قال ابن الأعرابي: واللغة أخذت من هذا لأن هؤلاء تكلموا بكلام قالوا فيه عن لغة هؤلاء الآخرين، واللغو: النطق: يقال هذه لغتهم التي يلغون بها أي ينطقون. ولغوى الطير أصواتها. والطير تلغي بأصواتها أي تنغم.
واللغوى: لفظ القطا. قال الراعي:
في لجة الليل لما راعها الفزع
صفر المحاجر لغواها مبينة
وأنشد الأزهري صدر هذا ا لبيت:
قوارب الماء لغواها مبينة
فإما أن يكون هو أو غيره. ويقال: سمعت لغو الطائر ولحنه، وقد لغا يلغو، وقال ثعلبة بن صقير: قبل الصباح وقبل لغو الطائر
باكرتهم نسباء جون ذراع
ولغى بالشيء يلغي لغا: لهج. ولغى بالشراب أكثر منه.
وجاء في الموسوعة العربية عن اللغة: هي وسيلة الاتصال بين الناس في شكل أصوات منظمة: وهي السمة الفريدة التي يتميز بها الجنس البشري (الإنساني).
ولا نكاد نعلم شيئاً عن أصل نشأتها غير أن العلماء يعتقدون أن الناس ظلوا يستخدمونها منذ أمد بعيد. إذا قورن تاريخ الكتابة الذي لا يجاوز 6500 سنة (وجهة نظر فقد كان قوم عاد يكتبون بالمسند قبل هذا التاريخ بكثير،) عد ضئيلاً بالنسبة لنشأة اللغة. واللغات التي يتكلم بها الآن أدنى الشعوب ثقافة تتضمن من الظواهر العويصة الدقيقة ما يشبه تلك التي في لغات الشعوب المتمدنة بل حتى في اللغات التي عرفت عن طريق أقدم الآثار، وكذلك تلك التي افترض وجودها، وألفت منها أشكال لم يظهر أي أثر يظهرنا على ما يعد أكثر بدائية مما هي عليه في العصر الحديث، وينتمي كل فرد إلى جماعة لغوية تتكون من أولئك الذين يتكلمون لغة واحدة، يوجد الآن ما يجاوز ألفاً من الجماعات اللغوية منها ما يبلغ عدد المتكلمين بلغتها عدة ملايين، ومنها ما لا يزيد عددهم على بضع عشرات من الناس.
وإليك مجموعة من اللغات مرتبة ترتيباً نزولياً وعدد المتكلمين بها أكثر من خمسين مليوناً الصينية الشمالية-الإنجليزية-الروسية- الكونفونية-الألمانية-الأسبانية-اليابانية-العربية- البنغالية، (وكان هذا قبل حوالى قرن من الآن)، ويتكلم كثير من الناس أكثر من لغة، وأول لغة يبدأ المرر بتعلمها تسمى اللغة الأم، أو اللغة الوطنية، وفي هذه التسمية بعض التجوز لأن اللغات لا تورث بل تكتسب بالتعليم، وحين يتقن المرء لغة أخرى يقال عنه أنه ثنائي اللغة.
وقد ينسى المرء لغة قومه بسبب الهجرة كما حدث لبعض الأوروبيين حين هاجروا إلى الولايات المتحدة، أو بسبب ضغط سياسي واقتصادي وثقافي كما حدث للهنود الحمر في أمريكا وللمتكلمين باللغة الكلنية في أوروبا. وقد يؤدي ترك اللغة إلى اندثارها.
ويختلف الأفراد في كلامهم أو طريقة نطقهم، وهذه الظاهرة لا تكاد تلاحظ في المحيط الضيق، وقد تكون واضحة جلية، وتعد حينئذ لهجات مختلفة للغة هذه الجماعة.
ويرى علماء اللغة في ضوء هذه الحقيقة وفي ضوء التاريخ المعروف لعدة لغات أن كل لغة دائمة التغير. ولكن الدليل المقنع لم يقم كاملاً على وجود اتجاه عام لمثل هذا التغيير بين اللغات.
وأدت عدة عوامل -منها انتشار الكتابة- إلى نشأة لغة نموذجية في معظم الجماعات اللغوية الكبرى هي اللغة الرسمية الخاصة يقال أنها نظرياً لا تتعرض للتغير وهي لغة.
ويعرض المفكر الإسلامي المشهور أحمد أمين لمعنى اللفظ فقال: تدل اللغة على الحياة الفعلية من ناحية أن لغة كل أمة في كل عصر مظهر من مظاهر عقلها فلم تخلق اللغة (خلقاً) دفعة واحدة ولم يأخذها الخلف عن السلف كاملة. إنما يخلق الناس ويتفقون في أول أمرهم على ألفاظ على قدر حاجتهم، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلقوا لها ألفاظاً جديدة، وإذا اندثرت أشياء قد تندثر ألفاظها، وهكذا اللغة في حياة، وموت مستمرين، وكذلك الاشتقاقات والتغيرات فهي أيضاً تنمو، وترتقي لرقي الأمة هذا ما ليس فيه مجال للشك، وإذا كان هذا أمكننا-إذا حصرنا معجم اللغة الذي تستعمله الأمة في عصر من العصور-أن نعرف الأشياء المادية التي كانت تعرفها والتي لا تعرفها. والكلمات المعنوية التي تعرفها والتي لا تعرفها اللهم إلا إذا كانت المعاجم أثرية كمعاجم اللغة العربية التي نستعملها نحن اليوم. فإنها لا تدل علينا لأنها ليست معاجمنا ولم تسر معنا ولم تمثل عصرنا، ولذلك لم يخرج عليهم كُتَّابنا وشعراؤنا، وإنما كانت معاجم صحيحة للعصر العباسي أو نحوه. أما معاجم كل أمة حية الآن فهي دليل عليها.
واشترك الراجحي في تعريف اللغة فقال: عُني العرب منذ فترة مبكرة (بالحدود) و(التعريفات) مما جعل بعض الباحثين يهاجمون النحو العربي مثلاً بأنه صادر عن المنطق الأرسطي على ما بين المنهج الأرسطي والمنهج العربي في موضوع (الحد) من خلاف.
ومع اهتمامهم بالحدود فإنا لا نجد تعريفاً باللغة فيما نعلم-قبل القرن الرابع، ونظن أن أول من عرف باللغة هو ابن جني في كتابه الخصائص، ومن الملاحظ أن ابن فارس والثعالبي لم يعرفا باللغة فيما كتبا عن (فقه اللغة).
ومع أن ابن جني هو أول من عرف باللغة فيما يُظن فإن تعريفه بها يثير دهشة الباحثين البعيدين عن طور الحياة العلمية العربية، لأنه يقترب اقتراباً شديداً عن كثير من تعريفات المحدثين، ولأنه يشمل معظم جوانب التعريفات التي عرضها (علم اللغة) في العصر الحديث. يقول أبو الفتح: باب القول على اللغة وما هي: (أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم).
ويسترسل الراجحي قائلاً: ويشتمل هذا التعريف على أربعة جوانب يستحق كل جانب منها شيئاً من التفصيل، وهذه الجوانب هي:
1- أن اللغة أصوات.
2- أن اللغة تعبير.
3- أنها تعبير يعبر بها (كل قوم).
4- أنها تعبير عن (أغراض).
ويضيف: أما أن اللغة (أصوات) فلا نكاد نعرف مثل هذا التحديد لها إلا في العصر الحديث، ويكاد الباحثون اللغويون يجمعون على أن اللغة أصوات على اختلاف بينهم في التعبير عن هذه الكلمة. ومن المثير حقاً أن ابن جني قصر اللغة على الأصوات، وأخرج الكتابة من هذا التعريف. وهو دليل واضح على أن علماء العربية لم يكونوا يدرسون اللغة باعتبارها لغة مكتوبة شأن علماء (فقه اللغة) وإنما كانوا يدرسونها باعتبارها لغة (منطوقة قائمة على الأصوات شأن أصحاب علم اللغة).
وجاء في دائرة المعارف البريطانية: أن اللغة (يمكن تحديدها بأنها نظام من الرموز الصوتية. وجاء في دائرة المعارف الأمريكية: أن اللغة يمكن تحديدها بأنها نظام من العلامات الصوتية الاصطلاحية) وهذا التعريف يخرج الكتابة من حيز اللغة.
ويقول الراجحي في نهاية تعريفه للغة: واللغويون المحدثون يعالجون هذا الجانب في تعريف اللغة معالجة حديثة، لكنها لا تبتعد كثيراً عما قرره ابن جني من أنها أصوات؛ لأن اللغة سواء أكانت نظاماً من الرموز الصوتية، أو نظاماً من العلامات الصوتية، أو جزءاً من العلامات الصوتية، أو جزءاً من العلامات (السميولوجيا). ويسهم محمود السعران بدوره في تعريف اللغة فيقول: علم اللغة هو العلم الذي يتخذ (اللغة) موضوعاً له. قال (فردينا نندي سوسير) في محاضرات في علم اللغة العام: إن موضوع علم اللغة الوحيد، والصحيح هو اللغة معتبرة في ذاتها ومن أجل ذاتها.
واللغة التي يدرسها علم اللغة ليست الفرنسية أو الإنجليزية أو العربية ليست معينة من اللغات إنما هي (اللغة) التي تظهر وتتحقق في أشكال لغات كثيرة ولجهات متعددة وصورة مختلفة من صور الكلام الإنساني. فمع أن اللغة العربية تختلف عن الإنجليزية. وهذه الأخيرة تفترق عن الفرنسية إلا أن ثمة أصولاً وخصائص جوهرية تجمع ما بين هذه اللغات وتجمع ما بينها وما بين سائر اللغات، وصور الكلام الإنساني، وهو أن كلاً منها (لغة) أن كلاً منها نظام اجتماعي معين تتكلمه جماعة معينة بعد أن تتلقاه عن المجتمع، وتحقق به وظائف خاصة، ويتلقاه الجيل السابق، ويمر هذا النظام بأطوار معينة متأثراً بسائر النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية، وبسوى ذلك... إلخ.
وهكذا فعلم اللغة يستقي مادته من النظر في (اللغات) على اختلافها وهو يحاول أن يصل إلى فهم الحقائق والخصائص التي تسلك اللغات جميعها في عقد واحد.
فموضوع علم اللغة إذن ليس (لغة) معينة من اللغات بل اللغة من حيث هي وظيفة إنسانية عامة. والتي تبدو في أشكال نظم إنسانية اجتماعية تسمى اللغات، كالروسية والإيطالية والأسبانية أو اللهجات، أو أي اسم آخر من الأسماء.
هذه الصورة المتنوعة المتعددة واحدة، في جوهرها وتمثل وظيفة إنسانية، ويحاول التفريق بين اللغة المنطوقة والمكتوبة قائلاً: إن اللغة التي يتخذها علم اللعة موضوعاً له هي اللغة التي تقوم على ربط مضمونات الفكر الإنساني بأصوات ينتجها (النطق). إنها اللغة التي تقوم على إصدار واستقبال أصوات تحدثها عملية الكلام فالأصل في اللغة أن تكون كلاماً أن تكون (مشافهة) أما الكتابة أو لغة الكتابة فهي لغة أخرى تقصد إلى تمثيل الكلام المنطوق بطريقة متطورة.
فالكتابة اختراع إنساني لا حق على اختراع (اللغة) وبعض المجتمعات لم توجد لنفسها هذه الوسيلة المنظورة من تمثيل اللغة الملفوظة.
إن هذه الأشكال الكتابية التي هي الحروف كما يقول إدوارد سابير ثانوية بالنسبة إلى رموز الكلام الملفوظة التي هي الأصوات، أي الأشكال الكتابية هي (رموز الرموز).
ذلك ما يتعلق بتعريف لفظ (اللغة) وقد راينا مدى الاختلاف والتباين في أقوال من استشهدنا بأقوالهم ونظرنا كذلك مدى الغموض في تعريف البعض، وهي في الأول والأخير لا تبعد كثيراً عن قول ابن جني وبدورنا نقول: إن اللغة هي إلا تلك الأصوات المسموعة الصادرة بواسطة جهاز النطق. وهي ذات معان ودلالات مفهومة بين المتحاورين، وينطبق هذا على كل اللغات بما فيها لغات الحيوانات الراقية.
أما الكلام فقد عرفه صاحب التاج هكذا: (الكلام القول) معروف (أو ما كان مكتفياً بنفسه) وهو الجملة والقول ما لم يكن مكتفياً بنفسه، وهو الجزء من الجملة ومن أول الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا القرآن كلام الله. ولا يقولون: القرآن كلام الله. وذلك أن هذا موضع متحجر لا يمكن تحريفه. ولا يجوز تبديل شيء من حروفه فعبر ذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أصواتاً تامة مفيدة. قال أبو الحسن ثم إنهم قد يتوسعون فيضعون كل واحد منهما موضع الآخر.
ومما يدل على أن الكلام هو الجمل المتركبة في الحقيقة قول كثير:
خروا لعزة ركعاً وسجودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها
فمعلوم أن الكلمة الواحدة لا تشجي، ولا تحزن، ولا تتملك قلب السامع. وإنما ذلك فيما طال من الكلام وأمتع سامعيه، ورقة حواشيه.
وقال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل، والكثير. والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة مثل نبقة ونبق. ولهذا قال سيبويه: هذا باب علم الكلم من العربية؟ ولم يقل: ما الكلام؟ لأنه أراد نفس ثلاثة أشياء الاسم والفعل والحرف، فجاء بما لا يكون إلا جمعاً. وترك ما يمكن أن يقع على الواحد والجماعة، وفي شرح شيخنا الكلام لغة تطلق على الدوال الأربع. وعلى ما يفهم من حال الشيء مجازاً وعلى التكلم وعلى التكليم كذلك. وعلى ما في النفس من المعاني التي يعبر بها على اللفظ المركب أفاد أم لا، مجازاً على ما صرح به سيبويه في مواضع من كتابه من أنه لا يطلق حقيقة إلا على الجمل المفيدة وهو مذهب ابن جني فهو مجاز في النفساني، وقيل حقيقة فيه مجاز في تلك الجمل، وقيل: حقيقة فيهما، ويطلق على الخطاب وعلى جنس ما يتكلم به من كلم ولو كان على حرف كوواو العطف أو أكثر من كلمة مهملة أولاً. وعرفه بعضهم (بعض الأصوليين) بأنه المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة، والكلام بالضم الأرض الغليظة الصلبة.
وقال ابن دريد: ولا أدري ما صحته والكلام (نظير سنان) والكلمة بفتح فكسر، وإنما أهمله عن الضبط لاشتهاره (اللفظة) الواحدة حجازية، وفي اصطلاح النحويين لفظ وضع لمعنى مفرد (و) من المجاز الكلمة (القصيدة) بطولها كما في الصحاح. ومنه حفظت كلمة الحويدرة أي قصيدته. وهذه كلمة شاعرة كما في الأساس، وفي التهذيب الكلمة تقع على الحرف الواحد من حروف الهجاء، وعلى لفظة مركبة من جماعة حروف ذوات معنى وعلى قصيدة بكمالها وخطبة بأسرها (ج كلم) بحذف تذكر وتؤنث يقال هو الكلم وهي الكلم. وقول سيبويه: هذا باب الوقف في أواخر الكلم المتحركة في الوصل يجوز أن يكون المتحركة من نعت الكلم فتكون الكلم حينئذ مؤنثة. ويجوز أن يكون من نعت الأواخر، فإذا كان كذلك فليس في كلام سيبويه هنا دليل على تأنيث الكلم بل يحتمل الأمرين جميعاً.
والكلمة الباقية في قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية (هي كلمة التوحيد وهي (لا إله إلا الله).
وجاء في الموسوعة العربية: عن (كلام): العملية التي يتم بواسطتها تبادل الأفكار بين شخص وآخر، وهو بهذا التعريف يشمل جميع الوسائل التي يستطيع بها الإنسان اكتساب خبرة ومعرفة معاصريه أو أسلافه، فهو أداة تطور ونمو للعقل الذي يميز الإنسان عن غيره من الحيوان.
ووظيفة الكلام تكتسب بعد الولادة، ولها عدة مراحل، وأولها الكلام بالإشارة فيبدأ الطفل يطلب حاجته مستخدماً حركات معينة تقليداً لأمه وغيرها ممن يرعونه، وقد يصل الكلام بالإشارة عن طريق التدريب إلى درجة عالية من التعبير كما هو الحال فيمن يقود فرقة موسيقية. ثم يلي ذلك الكلام بالنطق برموز صوتية على أشياء مادية أو معنوية أو على صفاتها.
ويبدأ الطفل عادة بإخراج مقاطع من كلمات لها أهمية خاصة، يكون أولها الغالب لفظ (ماما) أو (مم) وهو بذلك يعبر عن حاجته لرضاعة ثدي أمه يزداد تدريجياً عدد الكلمات التي يتعلمها الطفل ويدرك مدلولها فمثلاً يربط الطفل بين لفظ (اللبن) ولونه وخواصه. وما يشعر به من متعة. ممن تذوقه والارتواء به. والقضاء على آلام جوعه. لذلك فإن العناية الزائدة بالطفل وتقديم كل يحتاج إليه فور طلبه له، مما يؤخر نمو الكلام عنده.
وفي مرحلة المدرسة يبدأ الطفل تعلم القراءة، والكتابة. وهما نوع من الكلام رموزه مرئية، وليست مسموعة كالنطق. وفي هذا يربط الطفل بين الرمز الكتابي والكلمة المسموعة وما تدل عليه حسب خبرته السابقة.
ولا شك أن الكتابة أشد أثراً في تطور العقل البشري ونموه من الكلام المسموع إذ أنها تنقل الأفكار إلى مسافات بعيدة وتدونا فلا تتلاشى. وبها أمكن للإنسان أن يفيد من تجارب الأجيال السابقة ويضيف إليها.
ويشمل الكلام العلوم الرياضية والحساب فهي تمكن الإنسان من التعبير عن آرائه وإحساساته كمياً لا من حيث النوع فقط.
وقد يجدر بنا هنا أن نتساءل: هل هناك فروق جوهرية بين لفظي (اللغة) و(الكلام) أم أنهما مترادفان يؤديان نفس المعنى؟
لقد حاول بعض الباحثين دراسة اللفظين وتحديد الفروق بينهما، وكان منهم محمود السعران الذي قال تحت عنوان (اللغة كلام): أن اللغة التي يتخذها علم اللغة موضوعاً له هي اللغة التي تقوم على ربط مضمونات الفكر الإنساني بأصوات ينتجها (النطق). إنها اللغة التي تقوم على أصداء واستقبال أصوات تحدثها عملية الكلام. فالأصل في اللغة أن تكون كلاماً) أن تكون (مشافهة) أما الكتابة أو لغة الكتابة فهي لغة أخرى تقصد إلى تمثيل الكلام المنطوق بطريقة منظورة. فالكتابة اختراع إنساني لاحق على اختراع (اللغة) وبعض المجتمعات لم توجد لنفسها هذه الوسيلة المنظورة من تمثيل اللغة الملفوظة.
إن هذه الأشكال التي هي الحروف كما يقول إدوارد سابير ثانوية بالنسبة إلى رموز الكلام الملفوظة التي هي الأصوات، أي أن الأشكال الكتابية هي (رموز الرموز).
ومن هذا التعريف نستطيع القول: أن الفرق بين اللفظين يتضح في أن اللغة يمكن أن تكون منطوقة أو غير منطوقة أي مكتوبة مثلاً. بينما الكلام لا يكون إلا منطوقاً فقط. وهذا فرق جوهري لم يلتفت إليه.
إلا أن هذا التعريف يتعارض مع رأي (إدوارد سابير) الذي يعتبر اللغة غريزية لدى الإنسان وشبهها بالسير، بينما النطق، أي الكلام، من الوظائف الإنسانية غير الغريزية.
قال الراجحي تحت عنوان (عن طبيعة اللغة):
(الكلام) وظيفة إنسانية غير غريزية و(غير موروثة) الكلام وظيفة ثقافية مكتسبة. حاول إداورد سابير أن يكشف عن طبيعة اللغة، وأن يقر بها إلى الأفهام فقارنها بالسير، وخلاصة رأيه أن (السير) وظيفة إنسانية موروثة بيولوجية. إنه وظيفة (عضوية) وظيفة غريزية (وطبيعي أن السير نفسه ليس غريزة).
أما الكلام فهو وظيفة إنسانية (غير غريزية) إنه وظيفة مكتسبة. إنه (وظيفة ثقافية).
إننا نرجح التعريف السابق وهو أن اللغة قد تكون منطوقة أو مكتوبة، أما الكلام: فهو المحكي والمنطوق فقط. والنطق في حد ذاته غريزة لأنه يتم بواسطة أجهزة أودعها الله في الإنسان.
أما اللغة أو الكلام فقد سبق أن أشرنا إلى معانيها في المجلد الأول، وهنا أيضاً فهما نتيجة توافق واتفاق بين المجتمعات الإنسانية أو تواضع بينهم، أما الكتابة فمخترع إنساني لا شك فيه.
ونظراً لأهمية البحث الذي قدمه العلامة فخر الدين الرازي عن الكلمة ومرادفاتها ومعانيها في مقدمة كتاب التفسير الكبير:
نورد مقتطفاً مما أورده. حيث قال: اعلم أن أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ هو طريقة الاشتقاق ثم إن الاشتقاق على نوعين الاشتقاق الأصغر والاشتقاق الأكبر، أما الاشتقاق الأصغر فمثل:
اشتقاق صيغة الماضي والمستقبل من المصدر، ومثل اشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول وغيرهما منه، وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن الكلمة إذا كانت مركبة من الحروف كانت قابلة للانقلابات لا محالة فنقول: أول مراتب هذا التركيب أن تكون الكلمة مركبة من حرفين، ومثل هذه الكلمة لا تقبل إلا نوعين من التقلب كقولنا (من) وقلبه (نم) وبعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة مركبة من ثلاثة أحرف كقولنا (أحمد) وهذه الكلمة تقبل ستة أنواع من التقلبات. وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الثلاثة ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من التقديرات الثلاثة فإنه يمكن وقوع الحرفين الباقيين على وجهين لكن ضرب الثلاثة في اثنين بستة، فهذه التقلبات الواقعة في الكلمات الثلاثيات يمكن وقوعها على ستة أوجه، ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة رباعية كقولنا: (عقرب)، (وثعلب) وهي تقبل أربعة وعشرين وجهاً من التقلبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الأربعة ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من تلك التقديرات الأربعة فإنه يمكن وقوع الحروف الثلاثة الباقية على ستة أنواع من التقلبات، وضرب أربعة في ستة يفيد أربعة وعشرين وجهاً، ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة خماسية كقولنا: (سفرجل) وهي تقبل مائة وعشرين نوعاً من التقلبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الأربعة ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من تلك التقديراتس الأربعة فإنه يمكن وقوع الحروف الثلاثة الباقية على ستة أنواع من التقلبات وضرب أربعة في ستة يفيد أربعة وعشرين وجهاً ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة خماسية كقولنا: (سفرجل) وهي تقبل مائة وعشرين نواعاً من التقلبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الخمسة ابتداء تلك الكلمة، وعلى كل واحد من هذه التقديرات فإنه يمكن وقوع الحروف الأربعة الباقية على أربعة وعشرين وجهاً على ما سبق تقديره. وضرب خمسة في أربعة وعشرين بمائة وعشرين، والضابط في الباب أنك إذا عرفت التقاليب الممكنة في العدد الأقل ثم أردت أن تعرف عدد التقاليب الممكنة في العدد الذي فوقه، فاضرب العدد الفوقي في العدد الحاصل من التقاليب الممكنة في العدد الفوقاني. والله أعلم.
ويسترسل الرازي في الكلام عن حال الاشتقاق من الكلمات، ويشير إلى أن هناك اشتقاقاً أصغر واشتقاقاً أكبر إن اعتبار حال الاشتقاق الأصغر سهل معتاد مألوف، أما الاشتقاق الأكبر فرعايته صعبة، وكأنه لا يمكن رعايته إلا في الكلمات الثلاثية لأن تقاليبها لا تزيد على الستة، أما الرباعيات والخماسيات فإنها كثيرة جداً، وأكثر تلك التركيبات تكون مهملة فلا يمكن رعاية هذا النوع من الاشتقاق فيها إلا على سبيل الندرة.
وعن تفسير (الكلمة) نفسها يقول: اعلم أن تركيب الكاف واللام والميم بحسب تقاليبها الممكنة الستة تفيد القوة والشدة، خمسة منها معتبرة، وواحد ضائع فالأول (ك ل م) فمنه الكلام لأنه يقرع السمع ويؤثر فيه، وأيضاً يؤثر في الذهن بواسطة إفادة المعنى، ومنه الكلم للجرح وفيه شدة، والكلام أغلظ من الأرض، وذلك لشدته، الثاني: (ك م ل) لأن الكامل أقوى من الناقص والثالث (ل ك م) ومعنى الشدة في اللكم ظاهر، والرابع ( م ك ل) ومنه (بئر مكول) إذا قل ماؤها، وإذا كان كذلك كان ورودها مكروهاً، فيحصل نوع شدة عند ورودها، الخامس (م ل ك) يقال: ملكت العجين إذا أمعنت عجنه فاشتد وقوي، ومنه ملك الإنسان لأنه نوع قدره و(أملكت الجارية) لأن بعلها يقدر عليها.
وعن معنى الكلمة وترادفاتها قال: لفظ الكلمة قد يستعمل في اللفظة الواحدة ويراد بها الكلام الكثير الذي قد ارتبط بعضه ببعض كتسميتهم القصيدة بأسرها (كلمة) ومنها يقال: (كلمة الشهادة) ويقال: (الكلمة الطيبة صدقة). ولما كان المجاز أولى من الاشتراك علمنا أن إطلاق لفظ الكلمة على المركب مجاز، وذلك لوجهين: الأول: أن المركب إنما يتركب من المفردات فإطلاق لفظ الكلمة على الكلام المركب يكون إطلاقاً لاسم الجزء على الكل، والثاني: أن الكلام الكثير إذا ارتبط بعضه ببعض حصلت له وحدة فصار شبيهاً بالمفرد في تلك الوجوه، المشابهة سبب من أسباب حسن المجاز فأطلق لفظ الكلمة على الكلام الطويل لهذا السبب.
ويتعرض لمفهوم (الكلمة) في القرآن فيقول: لفظ الكلمة جاء في القرآن لمفهومين آخرين: أحدهما: يقال لعيسى كلمة الله، إما لأنه حدث بقوله: (كن) أو لأنه حدث في زمان قليل كما تحدث الكلمة كذلك، والثاني: أنه تعالى سمى أفعاله كلمات كما قال تعالى في الآية الكريمة: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) الكهف:109 والسبب فيه الوجهان المذكوران فيما تقدم والله أعلم.
ولكن علام تدل هذه التقاليب في القول؟ ..هذا التركيب بحسب تقاليبه الستة يدل على الحركة والخفة: فالأول: (ق و ل) وهو رديف الكلمة فمنه القول. لأن ذلك أمر سهل على اللسان. الثاني: (ق ل و) القلو وهو حمار الوحش؛ وذلك لخفته في الحركة، ومنه: (قلو البر والسويق) فهما مقلوان، لأن الشيء إذا قلي جف وخف فكان أسرع إلى الحركة. ومنه القلولي. وهو الخفيف الطائش، والثالث (و ق ل) الوقل الوعل، وذلك لحركته. ويقال: (وقل في الجبل) إذا صعد فيه، والرابع: (و ل ق) يقال: ولق يلق إذا أسرع. وقرئ إذ تلقونه بألسنتكم} [النور:15،أي تخفون وتسرعون، والخامس: (ل و ق) كما جاء في الحديث: (لا آكل الطعام إلا ما لوق لي) أي: أعملت اليد في تحريكه وتليينه حتى يصلح. ومنه اللوقة وهي الزبدة قيل لها ذلك لخفتها، وإسراع حركتها لأنه ليس بها مسكة الجبن والمصل.
والسادس: (ل ق و) ومنه اللقوة وهي العقاب قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها، ومنه اللقوة في الوجه لأن الوجه اضطرب شكله فكان خفة فيه وطيش، واللقوة الناقة السريعة الإلقاح.
وتعرض الرازي للفظ (اللغة) الذي تناوله (ابن جني من قبله) وهي الأصل للفروع الأخرى المشار إليها. قال الرازي: قال ابن جني رحمه الله تعالى: اللغة فعلة من لغوت أي تكلمت، وأصلها لغوة ككرة، وقلة فإن لاماتها كلها واوات بدليل قولهم كروت بالكرة وقلوت بالقلة. وقيل فيه: لغى يلغي إذا هذى، ومنه قوله تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً] الفرقان: 72 قلت: إن ابن جني قد اعتبر الاشتقاق الأكبر في الكلمة والقول ولم يعتبره هنا، وهو حاصل فيه فالأول (ل،غ،و) ومنه اللغة، ومنه أيضاً الكلام اللغو والعمل اللغو والثاني (ل و غ) وبحث عنه، والثالث: (غ ل و) ومنه يقال لفلان غلو في كذا ومنه الغلوة، والرابع: (غ و ل) ومنه قوله تعالى: [ لا فيها غول] الصافات:47 والخامس: و غ ل) ومنه يقال: فلان أوغل في كذا. والسادس: (ول غ) ومنه يقال: ولغ الكلب في الإناء ويشبه أن يكون القدر المشترك بين الكل هو الإمعان في الشيء والخوض التام فيه.
وعن معنى اللفظ (أحد مرادفات اللغة) قال: في اللفظ: وأقول: أظن أن إطلاق اللفظ على هذه الأصوات والحروف على سبيل المجاز، وذلك لأنها إنما تحدث عند إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج، فالإنسان عند إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج بحبسه في المحابس المعينة ثم يزيل ذلك الحبس فتتولد تلك الحروف في آخر زمان حبس النفس وأول زمان إطلاقه، والحاصل أن اللفظ هو: الرمي: وهذا المعنى حاصل في هذه الأصوات والحروف من وجهين:
الأول: أن الإنسان يرمي ذلك النفس من داخل الصدر إلى خارجه ويلفظه، وذلك هو الإخراج، واللفظ سبب لحدوث هذه الكلمات فأطلق اسم اللفظ على هذه الكلمات لهذا السبب.
والثاني: أن تولد الحروف لما كان بسبب لفظ ذلك الهواء من الداخل إلى الخارج صار ذلك شبيهاً بما أن الإنسان يلفظ تلك الحروف ويرميها من الداخل إلى الخارج، والمشابهة إحدى أسباب المجاز.
ويتحدث الرازي عن المرادف الآخر إلا أنه هنا يفرق نوعاً ما في مدلوله أعني به لفظ (العبارة) حيث قال: العبارة: وتركيبها من (ع ب ر) وهي في تقاليبها الستة تفيد العبور والانتقال. فالأول (ع ب ر) ومنه العبارة لأن الإنسان لا يمكنه أن يتكلم بها إلا إذا انتقل من حرف إلى حرف آخر، وأيضاً كأنه بسبب تلك العبارة ينتقل المعنى من ذهن نفسه إلى ذهن السامع، ومنه العَبْرة لأن تلك الدمعة تنتقل من داخل العين إلى الخارج، ومنه العبر لأن الإنسان ينتقل فيها من الشاهد إلى الغائب. ومنه المعبر لأن الإنسان ينتقل بواسطته من أحد طرفي البحر إلى الثاني، ومنه التعبير لأنه ينتقل مما يراه في النوم إلى المعاني الغائبة، والثاني: (ع ر ب) ومنه تسمية العرب بالعرب لكثرة انتقالاتهم بسبب رحلة الشتاء والصيف، ومنه فلان أعرب في كلامه، لأن اللفظ قبل الإعراب يكون مجهولاً فإذا دخله الإعراب انتقل إلى المعرفة والبيان، والثالث: (ب ر ع) ومنه (فلان برع في كذا) إذا تكامل وتزايد. الرابع: (ب ع ر) ومنه البعر لكونه منتقلاً من الداخل إلى الخارج. الخامس: (ر ع ب) ومنه يقال للخوف رعب؛ لأن الإنسان ينتقل عند حدوثه من حال إلى حالٍِ أخرى. والسادس: (ر ب ع) ومنه الربع لأن الناس ينتقلون منها وإليها.
وأخيراً حاول التمييز بين الكلمة والكلام، فقال:
قال أكثر النحويين: الكلمة غير الكلام، فالكلمة هي اللفظة المفردة، والكلام هو الجملة المفيدة، وقال أكثر الأصوليين: أنه لا فرق بينهما، فكل واحد منهما يتناول المفرد والمركب، وابن جني وافق النحويين واستبعد قول المتكلمين وما رأيت في كلامه حجة قوية في الفرق سوى أنه نقل عن سيبويه كلاماً شعراً بأن لفظ الكلام مختص بالجملة المفيدة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.