نهاية الانقلاب الحوثي تقترب.. حدثان مفصليان من مارب وعدن وترتيبات حاسمة لقلب الطاولة على المليشيات    الأحزاب والمكونات السياسية بتعز تطالب بتسريع عملية التحرير واستعادة مؤسسات الدولة    لحظة إصابة سفينة "سيكلاديز" اليونانية في البحر الأحمر بطائرة مسيرة حوثية (فيديو)    شركة شحن حاويات تتحدى الحوثيين: توقع انتهاء أزمة البحر الأحمر رغم هجماتهم"    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    الوزير الزعوري يهنئ العمال بعيدهم العالمي الأول من مايو    توجيهات واحصائية".. اكثر من 40 ألف إصابة بالسرطان في اليمن و7 محافظات الاكثر تضررا    بالفيديو.. عالم آثار مصري: لم نعثر على أي دليل علمي يشير إلى تواجد الأنبياء موسى وإبراهيم ويوسف في مصر    يوم تاريخي.. مصور يمني يفوز بالمركز الأول عالميا بجوائز الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية في برشلونة (شاهد اللقطة)    تشافي لا يريد جواو فيليكس    مركز الملك سلمان يمكن اقتصاديا 50 أسرة نازحة فقدت معيلها في الجوف    تفجير ات في مأرب لا تقتل ولا تجرح كما يحصل في الجنوب العربي يوميا    للزنداني 8 أبناء لم يستشهد أو يجرح أحد منهم في جبهات الجهاد التي أشعلها    عودة الكهرباء تدريجياً إلى مارب عقب ساعات من التوقف بسبب عمل تخريبي    برشلونة يستعيد التوازن ويتقدم للمركز الثاني بفوزه على فالنسيا برباعية    تراجع أسعار الذهب إلى 2320.54 دولار للأوقية    اختتام برنامج إعداد الخطة التشغيلية للقيادات الادارية في «كاك بنك»    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    هجوم جديد على سفينة قبالة جزيرة سقطرى اليمنية بالمحيط الهندي    رئيس جامعة إب يطالب الأكاديميين الدفع بأبنائهم إلى دورات طائفية ويهدد الرافضين    نابولي يصدّ محاولات برشلونة لضم كفاراتسخيليا    البكري يجتمع ب "اللجنة الوزارية" المكلفة بحل مشكلة أندية عدن واتحاد القدم    عقب العثور على الجثة .. شرطة حضرموت تكشف تفاصيل جريمة قتل بشعة بعد ضبط متهمين جدد .. وتحدد هوية الضحية (الاسم)    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    اتحاد كرة القدم يعلن عن إقامة معسكر داخلي للمنتخب الأول في سيئون    شاهد.. مقتل وإصابة أكثر من 20 شخصًا في حادث بشع بعمران .. الجثث ملقاة على الأرض والضحايا يصرخون (فيديو)    وزارة الداخلية تعلن ضبط متهم بمقاومة السلطات شرقي البلاد    يجب طردهم من ألمانيا إلى بلدانهم الإسلامية لإقامة دولة خلافتهم    ماذا لو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل؟    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    بينها الكريمي.. بنوك رئيسية ترفض نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن وتوجه ردًا حاسمًا للبنك المركزي (الأسماء)    قيادي حوثي يذبح زوجته بعد رفضها السماح لأطفاله بالذهاب للمراكز الصيفية في الجوف    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    ريمة سَّكاب اليمن !    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل في نشأة اللغة
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 28 - 11 - 2006


- د. عبد الله علي الكميم ..
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.وسأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن:
وقد حاول البعض تحديد المراحل الأولى التي اجتازتها اللغة الإنسانية وأشاروا إلى أنها في البدء كانت ناقصة ساذجة ومبهمة في نواحي كثيرة من حيث الأصوات والدلالات، وسارت بعد ذلك في مسالك الرقي عبر مراحل ثلاث هي:
1- مرحلة الصراخ: وفي هذه المرحلة لم يكن في الأصوات أصوات مد أو ما يعرف ب(حروف اللين ولا أصوات ساكنة، وهي التي يرمز إليها بالحروف الساكنة).
2- أما المرحلة الثانية فهي مرحلة المد (Vocalization) ) وفيها ظهرت أصوات اللين.
3- وأخيراً المرحلة الثالثة وهي مرحلة ظهور المقاطع .(Articulation)
وفيها ظهرت الأصوات الساكنة في اللغة الإنسانية (الباء، التاء، الثاء...إلخ).
ويؤيد أصحاب هذه الرؤية وجهة نظرهم هذه بلغة الطفل ولغات الأمم البدائية.
ويتناول الراجحي موضوع نشوء اللغة بكثير من التوسع. ولكونه بحثاً دقيقاً فسنحاول إيراد معظمه قال: شغل الناس منذ القديم، ولا يزالون يشغلون بموضوع نشأة اللغة ذلك لأن موضوع اللغة إنما هو في الحقيقة موضوع الإنسان . ومنذ زمن بعيد والإنسان تحيره عدد من الأسئلة كيف نشأت اللغة؟ أهي وحي من عند الله علمها للإنسان؟ وإن كان الأمر كذلك فما هي اللغة الأولى؟ وكيف اختلفت اللغات بعد ذلك؟ وكيف صنعها؟ إلى آخر هذه الأسئلة. ويسترسل قائلاً: ولقد شارك علماء كثيرون على اختلاف معارفهم في محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، غير أن الدارس اللغوي الحديث يقرر في نهاية الأمر نتيجة البحث في هذا الموضوع من مباحثه. ذلك لأن (العلم) لا يبحث إلا في ما تؤكده (المادة) المحسوسة وليس من سبيل الآن لدى الإنسان أن يصل في هذا الموضوع إلى نتيجة يطمئن إليها المنهج العلمي. وكل ما يمكننا الوصول إليه لن يكون إلا ضرباً من الاجتهاد لا يخرج عن حيز التخمين أو الافتراض حتى أن الجمعية اللغوية في باريس قررت سنة 1878م منع تقديم أبحاث عن هذا الموضوع. ومع ذلك لم يرفض عدد من اللغويين المحدثين البحث في الموضوع رفضاً مطلقاً، بل أفرد له جزءاً من أبحاثه على ما سنرى من تحليلنا لآراء اللغويين العرب القدماء. وهو يظن أن اللغويين العرب الأقدميين انقسموا قسمين أحدهما يمثله (ابن فارس) والآخر يمثله ابن جني .. والأول يذهب إلى أن اللغة توقيفية والآخر يذهب إلى أن اللغة من صنع الإنسان. أما ابن فارس فقد ذكرنا أنه كان أميل إلى التشيع كما كان أميل إلى المنهج الكوفي في الدرس اللغوي، وكلا المذهبين خليق بأن يدفع ابن فارس إلى القول بالتوقيف وقد عقد باباً يعنوان القول على لغة العرب توقيف أم اصطلاح؟ يقول فيه: أقول إن للغة العرب توقيف. ودليل ذلك قوله - جل ثناؤه {وعلم آدم الأسماء كلها} ثم يحاول تفسير المقصود بالأسماء قائلاً: فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي سار فيها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وجمل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وروى خصيف عن مجاهد قال: علمه اسم كل شيء وقال غيرهما: إنما علمه أسماء ذريته أجمعين، ثم يقرر أنه يذهب إلى قول ابن عباس أي أن الله علم آدم أسماء مما هي معروفة لدينا الآن. ثم يحاول شرح الصيغة اللغوية التي نزلت بها الآية الكريمة فيقول: فإن قال قائل: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال: (ثم عرضهن أو عرضها) فلما قال: (عرضهم) علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة لأن موضوع الكتابة في كلام العرب أن يقال لما يعقل (عرضهم) ولما لا يعقل (عرضها أو عرضهن) قيل له: إنما قال ذلك - والله أعلم- لأنه جمع ما يعقل وما لا يعقل فغلب ما يعقل. وهي سنة من سنن العرب أعني باب التغليب. وذلك كقوله جل ثناؤه: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير. فقال منهم تغليباً لمن يمشي على رجلين وهم بنو آدم.
ذلك رأي الراجحي في ابن فارس وموقفه من نشوء اللغة الإنسانية. وأنها إلهام من الله تعالى. أما ابن جني فيقول عنه: أما ابن جني فيشرح هذه الصيغة اللغوية بقوله: فإن قيل: فاللغة فيها أسماء وأفعال، وحروف وليس يجوز أن يكون المعلم من ذلك الأسماء دون غيرها مما ليس بأسماء فكيف خص الأسماء وحدّها قبل؟ اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة. ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم. وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحروف والفعل، فلما كانت الأسماء من القوة والأولوية في النفس والرتبة على ما لا خفاء به جاز أن يكتفي بها مما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.ويبدو أن ابن جني كان متردداً في مواقفه متأثراً بما يطرحه الغير. وبالذات ابن فارس الذي انتهج نهجاً قرآنياً وأصر عليه رغم أنه حتى في ظاهر أدلته غير مطمئن إليها لأنها قد تكون ضد ما أراد، إضافة إلى عدم قدرته على الدفاع عنها أو توضيح فحواها من الناحية اللغوية. وقد عرض ابن جني لموضوع نشأة اللغة وفصّل القول فيه على نحو يشير إلى منهج لغوي يتسق مع ما قدمه في كتبه جميعاً فعقد باباً سماه القول على أصل اللغة! إلهام هي أم اصطلاح قال فيه: هذا موضوع محوج إلى فضل تأمل غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف. غير أنه لا يلبث أن يقدم الرأي الآخر الذي عرضناه لابن فارس آنفاً فيقول: إلا أن أبا علي -رحمه الله- قال لي يوماً: هي من عند الله واحتجّ بقوله سبحانه (وعلم آدم الأسماء كلها) وهذا لا يتناول موضع الخلاف. وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة. فإذا كان ذلك محتملاً غير مستنكر سقط الاستدلال به. وقد كان أبو علي -رحمه الله- أيضاً قال به في بعض كلامه: وهذا أيضاً رأي أبي الحسن على أنه لم يمنع قول من قال: إنها تواضع منه.ولم يكتف ابن جني بهذا رغم علمه وقناعته بأن اللغة ما هي إلا من صنع الإنسان نفسه وأنها ناتجة عن اصطلاح بين الناس وحاصل تطورهم، فقد أورد نصاً آخر أكثر وضوحاً من سابقه ينم عن خبرته قال: واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت دائم التنقير، والبحث عن هذا الموضع فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغول على فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة، والدقة والإرهاف والرقة ما يملك عليّ جانب الفكر حتى يكاد يطمح بي أمام غلوة السحر. فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله، وفيه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه. ولطف ما أسعدوا به وفُرق لهم عنه. وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله جل وعز، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفاً من الله سبحانه. وأنها وحي .. ثم أقول في ضد هذا: كما وقع لأصحابنا، ولنا وتنبهوا وتنبهنا على تأمل هذه الحكمة الباهرة وإن بعد مداه عنا من كان ألطف منا أذهاناً وأسرع خواطر وأجرأ جناناً. فأقف بين الخلتين حسيراً وأكاثرهما فأنكفي مكثوراً. وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به وبالله التوفيق.
ويعلق الراجحي على هذا قائلاً: (ومع أن هذا النص قد دفع الباحثين إلى القول بتردد ابن جني بين الرأيين، فإنا نكاد نجزم بأنه يرفض القول بأن اللغة وحي، وذلك لأن ابن جني معتزلي، والمعتزلة الذين ذهبوا إلى خلق القرآن ما كانوا ليذهبوا إلى أن اللغة وحي وإلهام، وذلك لأنه لا يتسق مع قدرة الإنسان حتى وإن كانت بالكسب، على أن هناك سبباً آخر يكاد يقطع بأن أبا الفتح كان يذهب إلى أن الإنسان هو الذي وضع اللغة أو (واضع عليها) وذلك أن منهجه في كتابه كله وفي كتبه الأخرى ينبني على تناول اللغة باعتبارها (مادة طبيعية محسوسة) مقياسها الوحيد هو الطبيعة والحس، ومن فرق بينها وبين الفقه الذي تعود أحكامه إلى حكمة إلهية.إلا أن ابن جني يفاجئنا بنص آخر أكثر وضوحاً وتناقضاً بل وازدواجية مما أوردناه قال ابن جني: قد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة أتواضع هي أم إلهام. وحكمنا، وجوزنا فيها الأمرين جميعاً. وكيف تصرفت الحال؟ وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها؟ فإنها لابد أن يكون وقع في أول الأمر بعضها، ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه لحضور الداعي إليه فزيد فيها شيئاً فشيئاً، إلا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه وتأليفه وإعرابه المبين عن معانيه.وهو دليل على مدى الجهد الذي كان يبذله العلماء الأولون في المسائل الكبيرة، مثل مسألة اللغة وما كان ينالهم من حيرة وارتباك وتراجع عن أقوالهم السابقة؛ إذ رأوا أن الصواب قد جانبهم. على أننا نظل مع ما ترجح لديه سابقاً، وهو أن اللغة من وضع الإنسان، وأنها تطورت معه، وأنه قد حاكى الطبيعة بكل ما فيها من مخلوقات أو ظواهر طبيعية، وهذا ما يرجحه معظم علماء اللغات في الماضي والحاضر.
- الفصل الثالث / عن أصل اللغة
وعن البحث في نشأة اللغة من حيث هي يقول السعراني: (إن طبيعة موضوع علم اللغة تلك الظاهرة الإنسانية التي هي متطورة بطبعها تفرض على الباحث أن يتساءل أول ما يتساءل: كيف تكون للإنسان لغة؟ كيف توصل الإنسان إلى هذا النظام؟ أتوصل إليه بنفسه أم أوحي به إليه إيحاء؟
ويضيف: موضوع قد شغل الناس من قديم. والأساطير القديمة عند أكثر الجماعات الإنسانية تنسب (وضع) اللغة إلى إله من آلهتها، أو إلى قوة عليا خارقة. وفي العصور الوسطى اشتد الجدل بين نظريتين شغلتا المفكرين في نشأة اللغة، نظرية ترى أن الله عز وجل هو الذي أوحى إلى البشر باللغة، ونظرية تذهب إلى أن اللغة من اصطلاح الناس، وتواضعهم، وقد فسر اصطلاح الناس على اللغة بأوجه كثيرة مختلفة.
والذي يذهب إليه العلم هو أن اللغة ظاهرة اجتماعية كسائر الظواهر الاجتماعية.
ومعنى هذا أنها من صنع المجتمع الإنساني. ولا يعرف مجتمع إنساني منذ أقدم عصر سجله التاريخ بلا لغة ناضجة التكوين.
ولكن لا تزال مشكلة نشأة اللغة قائمة.
ويتساءل: ما أقدم مجتمع ظهرت فيه اللغة؟ وأي لغة كانت أول لغة؟ وهل اللغات المعروفة الآن ترجع إلى أصل واحد أو ترجع إلى أكثر من أصل؟ أي هل اللغة أحادية النشأة أو ثنائيتها أو متعددتها؟ وما الظروف الاجتماعية وغير الاجتماعية التي أدت إلى نشأة اللغة؟ إن نشأة اللغة موضوع شائك لا سبيل إلى القطع فيه برأي أو الوصول في شأنه إلى قناعة علمية. إنه بطبيعته موضوع يستحيل على الدراسة العلمية الموضوعية، وكل ما يقال فيه هو من قبيل الفروض التي لا تستند إلى أسس سليمة. فنشأة اللغة متصلة بنشأة المجتمع الإنساني، وبالمخ الإنساني ونموه، -كما أسلفنا- وبأطوار الحياة الاجتماعية التي مر بها الإنسان، وبالحاجات والدوافع التي يحتمل أن تكون قد ألجأته إلى اصطناع هذا النظام وهو اللغة. إلى غير ذلك من أمور لا يزال ما نعرفه عنها من حقائق أو معلومات ضئيلاً غاية الضآلة، بحيث لا يمكن من تكوين رأي علمي. ومن هنا كانت النظريات أو الفروض التي قدمها الباحثون في نشأة اللغة ضرباً من الميتافيزيقا. ولكن الأبحاث في نشأة اللغة في العصر الحديث لم تتوقف، وقد لخص (أوتويستريش) في كتابه اللغة أشهر ما سبقه من نظريات في نشأة اللغة وأتى بنظرية من عنده.
وتحت عنوان عن طبيعة اللغة قال:
الكلام وظيفة إنسانية (غير غريزية) وغير موروثة. الكلام وظيفة ثقافية مكتسبة.
لقد حاول سابير كشف طبيعة اللغة وتقريبها إلى أفهام الناس، وقارنها بالسير.
رغم أن السير وظيفة بيولوجية إنسانية موروثة. إنه في رأيه وظيفة عضوية وظيفته غريزية. وطبيعي أن السير نفسه ليس غريزة. أما الكلام فهو وظيفة إنسانية غير غريزية، إنه وظيفة مكتسبة إنه وظيفة ثقافية، ويوضح سابير قوله هذا أكثر بالقول: إن الكائن البشري العادي مقدر له السير لا لأن من يكبره سيتولى تعليمه هذا الفن، بل لأن تكوينه العضوي معد منذ الحمل للقيام بهذا العمل. وعلى هذا فليس للثقافة دخل هام في هذا الشأن -ولقد يقال وهو قول حق باعتبار ما أن الفرد مقدر له الكلام، فليس ثمة إنسان عادي لا يتعلم الكلام- ولكن مرجع هذا أن الإنسان لا يولد في الطبيعة وحسب، بل إنه يولد في حجر مجتمع، من المؤكد أنه سيوجهه نحو تقاليده. فإذا عزل وليد عن أي مجتمع إنساني فإنه سيتعلم كيف يسير لو قدر له أن يبقى على قيد الحياة، ولكنه لن يتعلم كيف (يتكلم) أي كيف يمارس النشاط اللغوي طبقاً للنظام التقليدي السائد في أي مجتمع من المجتمعات. ثم إنه لو نقل وليد من بيئته الاجتماعية التي ولد فيها إلى أخرى مختلفة عنها أشد الاختلاف، فإنه سيسير في بيئته الجديدة سيره كما لو ظل في بيئته القديمة، ولكن كلامه الذي سيتعلمه في هذا الحال يكون مغايراً تمام المغايرة لكلام بيئته التي ولد فيها، فالسير نشاط إنساني عام، لا يختلف إلا في نطاق ضيق، وذلك إذا انتقلنا من فرد إلى فرد، واختلافه غير إرادي ولا غرض منه. أما الكلام فإنه نشاط إنساني يختلف أيما اختلاف إذا انتقلنا من مجتمع إلى مجتمع، لأنه ميراث تاريخي محض للجماعة، لأنه نتاج الاستعمال الاجتماعي الذي استمر زمناً طويلاً).إن الكلام من الناحية الفسيولوجية مجموعة من الوظائف المفروضة على الوظائف الأساسية. إنه يستمد عوناً من أعضاء، ووظائف عضلية وعصبية تكونت في أصلها لأداء أغراض غير غرض الكلام، وهي لا تزال تؤدي هذه الأغراض بعد أن استعين بها لإحداث الأصوات الكلامية- إن الكلام ليس نشاطاً بسيطاً ينتجه عضو أو أعضاء تلائم الغرض بطريقة بيولوجية. إنه نسيج من الملاءمات معقد غاية التعقيد ومنتقل أبداً في المخ، وفي الجهاز العصبي، وفي أعضاء النطق والسمع -ومتجه نحو الغاية المرجوة غاية التوصيل (ولكن علم اللغة يرجئ تقرير الحق العلمي في نشأة اللغة إلى أن يتم جلاء ما يكتنفه من غموض قد يكشف عنه تقدم علم الأحياء البشرية، وعلم الوراثة وغيرهما من العلوم الإنسانية، ولو أن الأرجح أن تقدم هذه العلوم وسواها لن يمكننا آخر الأمر من معرفة الظروف التي نشأت فيها اللغة معرفة يقينية.
- عن أصل اللغة العربية
اللغة كما قلنا إحدى السمات المميزة للإنسان، وقد تطورت مع تطوره وخضعت لقانون نموه. وهذبت مع مرور الزمن، وتحددت ألفاظها وتكاثرت مفرداتها مع تكاثر حاجاته ونشاطاته، وإبداعته، وبقدر ما هي تعبير عن المجتمع الإنساني فهي تظهره على حقيقته. وقد كانت موضوعات للبحث من قبل العلماء الأقدمين كما لا تزال تأخذ حيزاً من هموم المتأخرين على أن غير قليل من غير ذوي الاختصاص في موضوعات اللغة قد بحث في الموضوع نفسه من خلال دراساتهم، ومن هؤلاء علماء الاجتماع وعلماء النفس والفلسفة وآخرون غيرهم، وليس عجيباً فقد بحث الفلاسفة الأقدمون في موضوع اللغة، وكانت اللغة موضوعاً فلسفياً عندهم).ويتساءل السامرائي عن الأداة التي تكون أكثر كفاءة في التعبير عن خصائص الجماعة، ويجيب، بأنها اللغة (فهي في مرانتها وسرها وامتلائها بالظلال الدقيقة للمعاني، تصلح لاستعمالات متشعبة، وتقف موقف الرابطة التي توجد أعضاء الجماعة، فتكون العلاقة التي بها يعرفون، والنسب الذي إليه ينتسبون. وهو يعتقد: أن اللغة رابطة بين أعضاء مجتمع واحد بعينه، وإنما هي عامل مهم للترابط بين جيل وجيل، وانتقال الثقافات عبر العصور لا يتأتى إلا بهذه الوسيلة. ومن أجل هذا كان من السهل على الباحثين أن يكتبوا تاريخاً للكثير من اللغات الحديثة، بادئين بأقدم صورة للغة متعقبين التطور التاريخي لها؛ ولذلك استطعنا أن نقف اليوم على البحوث القيمة في هذا الموضوع).فالتاريخ اللغوي من الأمور الغامضة ذلك أن الباحث لا يهتدي إلى المراحل التطورية في هذا التاريخ الطويل، وربما انقطعت عنه حلقات طويلة، وضاع أثرها. وبهذا فليس من الممكن رسم تاريخ محكم الحلقات لهذه اللغة، فلقد ضاع من أصولها شيء كثير. ومن أجل هذا فهي بدع من اللغات الحية المتطورة على قوتها وأصالتها وحيويتها وقابليتها في مسايرة الزمن وتطوره. ولقد أثر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لانتهى إليكم علم وشعر كثير).وهو يعتبر أن اللغة مشكلة في حد ذاتها؛ ولذلك نجده يناقشها في فصل مستقل تحت عنوان في تاريخ المشكلة اللغوية؛ من ضمن ما قال: للغة تاريخ طويل يتبين فيه أصل اللغة ونشوؤها وتطورها، والمراحل التي قطعتها في عمرها الطويل، حتى تصل في هذا البحث إلى ما آلت إليه في عصرنا الحاضر، كما أن لسائر العلوم تاريخاً نهتدي فيه للأصول التي قامت عليها تلك العلوم بسائر المراحل التي مرت عليها. والبحث في العربية يؤدي بنا إلى التزام الناحية التاريخية. وإذا قلت: إن اللغة العربية بدع بين اللغات فلا أراني أعدو الصواب كثيراً، ذلك أننا لا نعرف تاريخ هذه اللغة في مراحلها الأولى؛ إذ ليس من المعقول أن هذه اللغة بدأت بهذه النصوص الشعرية الجاهلية. فهذه النصوص الجاهلية تقدم للباحث نماذج عالية من العربية، وهذه النماذج لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال من البدايات في اللغة. فلابد أن تكون العربية قد قطعت قبل هذه النصوص مراحل أخرى في تاريخها، لم تكن فيها على هذا المستوى العالي، من حيث قدرة اللغة على أداء المعاني.. ومن توفر المادة العربية للتعبير عن النواحي المادية، وانصرافها إلى المعنويات من الأمور توسعاً ومجازاً. ولا أريد أن أخوض في موضوع الصحيح والمتحول من هذه النصوص، فليس ذلك بضائر قيمة النصوص اللغوية، وأنها صورة للحياة الجاهلية، ذلك أن وجود المتحول من هذه النصوص لا يمنع من وجود الصحيح ونسبته إلى قائليه.
ولعله في الأخير يبسط رأيه بوضوح أكثر حين قال: وأريد الآن أن أبسط رأياً، وهو أن العربية التي ورثناها والتي نعرف من أمرها الشيء الثابت الصحيح لا تتعدى الإسلام في التاريخ الزمني كثيراً. ومعنى هذا أن العربية الممثلة في لغة التنزيل هي القريبة التي نقيم عليها البحث والدرس. وما العربية الجاهلية إلا شيء من هذه العربية الإسلامية، ولا أريد أن أقول بنظرية الانتحال ففي الجاهلية أدب كثير فيه الصحيح وفيه الموضوع، ولكني لا أستطيع أن أجعل مادة للدرس والبحث هذه النصوص الإسلامية ، وفي مقدمتها كتاب الله والعربية - ممثلة في القرآن، لغة عالية سلخت من تاريخها مراحل طويلة حتى انتهت إلى هذا الشكل من الكمال. والبحث في تاريخ القرآن يدلنا على أن لغة القرآن قد طبعت العربية بطابع واضح مبين، وقضت بذلك على آثار اللهجات الإقليمية.وفي هذا الصدد قال الراجحي: من القوانين المقررة التي لا خلاف عليها أن اللغة تتطور، وأن هناك أسباباً كثيرة لتطور اللغات. وقد عرضت الكتب التي بين أيدينا لهذا الموضوع، غير أننا نلفت إلى حقيقة مهمة في الفكر العربي، وهي أن العلماء العرب كانوا ينظرون إلى اللغة العربية على أنها أفضل اللغات جميعاً. وهي حقيقة يمكن تقبلها من خلال نشأة علم اللغة على ما بيناه،من أنه نشأ لفهم النص القرآني الكريم. فالعربية هي لغة القرآن وهي مستودع عقائده وأحكامه، ومعنى ذلك أننا ينبغي أن ننظر إلى آرائهم في تطور اللغة من خلال هذه الحقيقة، وليس على الأساس الذي ينظر إليه الأوروبيون إلى لغاتهم.وبعد هذا يستعرض موقف ابن فارس واعتقاده بأفضلية اللغة العربية على سائر اللغات، وأن الله قد خص اللسان العربي بالبيان على سائر اللغات (خلق الإنسان علمه البيان) وأن البيان خاص بلغة القرآن. واستدل بما قرره الثعالبي بأن العربية خير اللغات والألسنة والسبب هو نزول القرآن الكريم بها. ولم ينس ابن جني الذي قارن بين العربية وغيرها من اللغات كالفارسية، وفضل العربية لذات الأسباب وغيرها. وإذا كان كل ما استشهدنا به حتى الآن، رغم صدوره عن علماء وباحثين في العربية، لا يعدو أن يكون مجرد نقل لآراء بعض الكتاب الأجانب منهم والعرب. مع التعليقات عليها. مع بعض الإضافات الإبداعية التي تخص هذا الشخص أو ذلك، فإننا هنا سنبحر مع كاتب مبدع حاول جاهداً الغوص في القديم، وفي أعماق الصحراء التي صنع فيها الإنسان اليمني العظيم حضارته التي ابتلعتها هذه الصحراء إلى حين!! بعد أن كانت جناناً فيحاء. فلقد جاءنا (عادل مريخ) بالخبر اليقين المطمور بعد التنقيب عنه، والبحث في آكام الرمال مترامية الأطراف، والوهاد المترامي بعضها فوق بعض، والجبال التي لم تنس لمسات أولئك المبدعين من الآباء الأوائل. فالمؤلف لم يعطنا مهلة ويأخذ بأيدينا رويداً رويداً حتى نوغل في كتابه، وإنما نثر أمامنا المعلومات عند مدخل الكتاب، وحتى لا نطيل، إليكم ما قال في مدخل هذا الكتاب: (دفعني عشقي للعربية إلى الاهتمام بها، والاهتمام بنشأتها وتطورها عبر الحقب والأزمان، ولما تفحصت المكتبة العربية لم أجد فيها ما يسد الرمق فيما يخص العربية القديمة. وأغلب الذين بحثوا في هذا المجال اعتمدوا فيما كتبوه على دراسات المستشرقين، وقد لاحظت الكثير من الأخطاء، وكذلك عدم الفهم لبعض الجوانب، وجال في نفسي أنني قد أسهم بجديد فيما يخص دراسة العربية بشقيها القديم والحديث!!وأظن أنني أستطيع فهم روح العربية، وفهم مراحل تطورها، ولا سيما أنني أفهم اللهجات العربية الجنوبية القديمة (الجبالية والمهرية) والتي أطلقت عليها تسمية (لهجات الأحقاف) والتي أظن أنها أقدم صورة نطقت بها العربية في الأزمان الغابرة، أو الأقرب إلى تلك اللغة القديمة، أو هي بمعنى آخر تمثل ما تبقى من العربية القديمة التي تكلمت بها (عاد) القديمة وقبائل قحطان في الزمن الأول، والتي تفرعت منها سائر لهجات العرب، بما فيها اللغة الفصيحة التي سادت قبل الإسلام، والتي تطورت في الأصل عن العربية القديمة التي أسلفنا ذكرها، والتي مرت بأطوار من التطور والرقي شيئاً فشيئاً إلى أن تسنمت ذروة المجد، وكانت جديرة بالاختيار الإلهي، فالقرآن لم ينزل إلا والعربية في أوج الألق والجمال والكمال، بقدر بما تطورت عبر العصور من طور إلى طور أكثر رونقاً وبهاء، ولم يكن عبثاً أو اعتباطاً الأمر الإلهي لإبراهيم الخليل - عليه السلام- أن يتوجه بزوجه وولده إلى بلاد العرب (هي بلاده الأصلية فجده هاجر من كَلَدٍ بيافع) وإخراجهم من أرض الخصب والزراعة والاستقرار إلى جوف الجزيرة القاحلة، وما كان ذلك إلا تمهيداً لبزوغ فجر الإسلام بعيداً عن ظلمات المدنيات السائدة آنذاك، ولكي ينزل القرآن بلغة فصيحة راقية قادرة على البقاء والاستمرار، قادرة على استيعاب القرآن وصوره وجمالياته، وما كان للغة أخرى غير العربية أن تستوعب القرآن. ولذلك فالاختيار والتمهيد كان على قدر وعلم. فما كان لأي لغة أخرى أن تعطي الفصاحة والبيان الذي للعربية، التي حمل القحطانيون بذرتها الأولى، وقدموا بها من جنوب جزيرة العرب، التي كانت تحمل في طياتها القدرة على التفاعل والتطور بشكل مذهل، يؤهلها لأن يكون أهلها بلغاء فصحاء تتحداهم السماء باللغة التي أجادوها وتفننوا في أساليبها وصيغتها . وفي هذا الشأن اتفق الباحثون على أن العربية التي ننطقها الآن، والتي ندين ببقائها كما هي منذ ألف وأربعمائة عام للقرآن الكريم، ما هي إلا عربية متطورة عن عربية أقدم منها، ألا وهي عربية الجنوب أو عربية العرب البائدة، مثل عاد وثمود (ليستا بائدتين وقد أثبتنا هذا قرآنياً وعلمياً). ويستمر قائلاً: وقد ذكر الدكتور عبد الغفار حامد أن لغتنا العربية بدأت على ألسنة العرب الأولين وقبائلهم القديمة من أمثال (عاد) التي كانت تعيش في جنوبي الجزيرة العربية، وثمود التي كانت تجاور الآراميين في شمالها. الآراميون هجرة يمنية متأخرة فكيف كانوا يتجاورون أو يتزاوجون وبينهم وبينهما ألوف السنين؟!! وهو بعد هذا يطرح تساؤلاً مهماً متعدد الجوانب والإجابات، ويحاول الإجابة على هذا السؤال المهم قائلاً: والسؤال الذي يثور هل اختفت هذه اللغات التي كان يتكلمها العرب في الدهر الأول؟ وهل من الممكن أن تكون هناك لهجات تخلفت عن هذه العربية القديمة؟ لا سيما وأن بعض الباحثين يرى أنه ليس في الإمكان معرفة الصورة التي كانت تنطق بها العربية القديمة، كما أن بعض الباحثين يرى أن أقرب اللغات التي كان من الممكن أن تدرس من خلالها لغات النقوش هي العربية الفصحى ولغات الحبشة، ولكن الواقع ينفي هذا الاتجاه؛ إذ أنه في جنوب بلاد العرب لا زالت هناك لهجات قديمة تختلف عن الفصحى واللهجات التي تأثرت بها في جنوبي الجزيرة، وهذه اللهجات تستوطن المنطقة التي أطلق عليها العلماء الباحثون منطقة (الأحقاف) والتي كانت (لعاد) ذات يوم. وهذه اللهجات هي (الجبالية) و(المهرية) وتنتشر الجبالية في جنوبي عمان. أما المهرية فتنتشر في أرض المهرة، وهي المنطقة التي تحدها من الشرق الحدود العمانية، ومن الغرب حضرموت، اجتزنا أن نطلق على هذه اللهجات تسمية (لهجات الأحقاف)، كتسمية إصلاحية، وذلك لعدة أسباب: أولها: أن أقدم صورة نطقت بها العربية، هي تلك التي نطقت بها قبائل (عاد) كأقدم طبقات العرب، ويؤيد هذا القول الذي ذكره بعض العلماء من أن (هوداً) عليه السلام، هو أول من تكلم بالعربية (القديمة) (بل هو أول من كتب بخط المسند) والتي تطورت عنها باقي لهجات العرب كذلك، لأن هذه اللهجات لا زالت تحتفظ بخصوصيتها في المنطقة التي يطلق عليها الباحثون، والعلماء وأهل الأخبار منطقة الأحقاف).ولكن هنالك من يرى أن اللغة العربية ما هي إلا أحد الفروع للغة قديمة، تتفرع عنها مجموعة من اللغات، هذه هي اللغة السامية، التي تعود إلى سام بن نوح عليه السلام. وهذا مخالف للقائلين أن اللغة العربية هي أم هذه اللغات جميعاً، وإن كنا نرجح أن خط المسند هو أبو الخطوط جميعاً، وهذا ما استقر علمياً، وثبت من قبل الدارسين. قال الدكتور جواد علي رحمه الله. تحت عنوان اللغات السامية: اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، وهي التي يقال لها اللغة العربية الفصحى وكذلك سائر لهجات العرب الأخرى، هي فروع من مجموعة لغات عرفت عند المستشرقين ب(اللغات السامية). وقد أولع بعض المستشرقين بدرس هذه اللغات فألفوا فيها كتباً وأبحاثاً. وأنشأوا مجلات عدة تفرغت لها. وما زالوا يسعون في توسيعها وتنظيمها وتبويبها، وقد عرفت دراساتهم هذه عندهم بالساميات (Semitistik) وهي تتناول بالدرس كل اللغات التي يحشرها علماء الساميات في مجموعة اللغات السامية، تتناولها بغض النظر عن وجود اللغة أو عدمه في هذا اليوم. فالبحث علم، والعلوم تبتغي المعرفة دون قيد بزمان أو مكان. وينفق علماء الساميات مجهوداً كبيراً في المقارنة بين اللغات السامية، وفي معرفة مميزات كل لغة. وما بينها وبين اللغات الأخرى من فروق أو تطابق أو تشابه، ومجال بحثهم في تقدم وتوسع، خاصة بعد أن أخذ هؤلاء العلماء بأساليب البحث الحديثة التي تعتمد على الفحوص والاختبارات والملاحظات والنقد).وقد جاءت نظرية (اللغات السامية) من التسمية التي أطلقها (شلو تسر) على العبرانيين والفينيقيين والعرب والشعوب المذكورة في التوراة على أنها من نسل (سام بن نوح ولم تقم نظرية التوراة حصراً في أولاد سام على أساس عرقي، بل بنيت على عوامل جغرافية وسياسية. ولهذا أدخلت العيلاميين واللوذيين في أبناء سام، مع أنهم ليسوا من الساميين ولا تشابه لغتهم لغة العبرانيين) (2).وعن التشابه والقرابة بين اللغات السامية. قال جواد علي: والقرابة بين اللغات السامية واضحة وضوحاً بيناً، وهي أوضح وأمتن وأوثق من الروابط التي تربط بين فروع طائفة اللغات المسماة باللغات الهند وأوروبية Indoeurpaichen Spachen) ) أو الهند وجرمانية (Indogermanischen Spraden) ) على حد تعبير بعض العلماء. وقد أدرك مستشرقو القرن السابع عشر بسهولة الوشائج التي تربط بروابط متينة ما بين اللغات السامية، وأشاروا إليها، ونوهوا بصلة القربى التي تجمع شملها، بل لقد سبقهم إلى ذلك علماء عاشوا قبلهم بمئات السنين، هداهم ذكاؤهم وعلمهم إلى اكتشاف تلك الوشائج، وإلى التنويه بها. فقد تحدث عالم يهودي اسمه (يهودا بن قريش) وهو ممن عاشوا في أوائل القرن العاشر عن قرابة تجمع بين اللغات السامية، وعن الخصائص اللغوية العديدة المشتركة بين تلك الألسن. كما أبدى ملاحظات قيمة عن الأسس اللغوية التي تجمع شمل تلك اللغات.وبديهي أن العلماء الذين اختاروا فروع اللغات السامية لم يختاروها اعتباطاً أو حشروها حشراً، وإنما خضعت لمعايير رأوها ومواصفات اعتبروها مشتركة، وهو ما قرب هذه اللغة أو تلك من اللغة الأم، وقرب عقلية أهل هذه اللغة من العقلية العامة، التي رسمت لعقلية الساميين من أساطير ودين وحياة اجتماعية وأدب. ونحو ذلك. وقد حملت هذه الخصائص والصفات والمميزات لهذه اللغة السامية العلماء على تصور ليس لغة أم لها، بل والبحث عن الموطن الأصلي لها. واستقر رأيهم، أو على الأصح رأي معظمهم أخيراً (وقد برهنا على ذلك في أكثر من مكان) على أن المكان هو (اليمن) لأنها علمياً مكان نشوء الإنسان الأول، وفيها وجد الإنسان العاقل القادر على تلقي التكليفات الإلهية عبر الأنبياء والرسل، وفيها دارت قصة طوفان نوح، وفيها نشأ سام بن نوح، وفيها مدينته صنعاء، التي لا تزال تحمل اسمه إلى يومنا هذا، منها انطلقت كل اللهجات السامية المتعاقبة، وفيها نشأت حضارة (عاد)، أول حضارة إنسانية وأعظمها شأناً وأبعدها أثراً وأكثرها روعة (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح). وليس من السهل علينا أن نتصور كيف كانت اللغة السامية الأولى لأننا لا نستطيع بسبب قدم زمان هذه اللغة إن كانت هناك لغة سامية أولى. وبسبب الأحوال البدائية التي كانت تحيط بالمتكلمين بها شأن البشرية جمعاء (الإنسانية) في ذلك العهد، ولقلة مستلزمات المعيشة يومئذ، وانخفاضها - أن نتصور أن هذه اللغة كانت واسعة جداً بمفرداتها، يمنية بمسمياتها، وفي قواعد صرفها ونحوها، وفي أساليب بيانها لأن ما نذكره لا يمكن أن يتوفر إلا في مجتمع متطور متقدم، وإلا بعد تطور استمر أمداً طويلاً ولم يكن الساميون الأولون في ذلك العهد على درجة كبيرة من التطور والتقدم حتى تكون لغتهم
الأولى).وليس بين اللغات السامية لغة واحدة تستطيع أن تدعي أنها سامية صافية نقية، وأنها لم تتأثر قط باللغات الأخرى التي تنتمي إلى مجموعات لغوية غير سامية. وقضية صفاء لغة ما من لغات العالم وخلوها من الألفاظ والكلمات الغريبة قضية لا يمكن أن يقولها رجل له إلمام بعلوم اللغات ولو يسيراً جداً. وإذا كانت اللغات السامية قد تأثرت باللغات الأخرى بسبب اختلاط الشعوب وأيضاً ألسنتها بعضها ببعض نتيجة ذلك الاختلاط، فإن من الطبيعي أن تكون اللغات السامية قد أثرت بعضها في بعض. ولهذا نجد في كل لغة بين اللغات السامية ألفاظاً أخذتها من لغة ما من لغات أبناء سام.وإذا كانت اللغات السامية تتشابه فيما بينها ويأخذ بعضها من بعض ويتأثر بعضها بالبعض الآخر فما هي بعض هذه الصفات والألفاظ المشتركة؟ تعد الضمائر وأسماء العدد وأعضاء الجسم الأساسية المهمة، وجملة ألفاظ تخص الحياة الإنسانية الأساسية مثل بيت وسماء وأرض وجمل وكلب وحمار وعدد من حروف الجر من جملة القديم المشترك في جميع اللغات السامية أو في أكثرها، وهو لذلك يفيدنا من هذه الناحية كثيراً. ويلاحظ أن العبرانية تشارك اللهجات العربية الجنوبية في أمور عديدة غير معروفة في عربية القرآن الكريم، كما توجد أوجه شبه بين ألفاظ حبشية وعبرانية، وللدلالة على الجمع استعملت العبرانية حرفي (بن) علامة للجمع. وأما العربية فاستعملت (الواو والنون) لجمع المذكر السالم، والألف والتاء في جمع المؤنث السالم، وهناك جموع تكسير كثيرة كثرة لا نكاد نرى لها مثيلاً في اللغات السامية الأخرى. وذلك بسبب أن هذه الجموع وردت في لهجات عربية متعددة، ووردت سماعاً، فلما جمعها علماء العربية ودونوها في كتب اللغة والمعاجم، لم يشيروا إلى أسماء من كان ينطق بها، فظن أنها جموع استعملت في هذه العربية التي نزل بها الوحي.وبيّن العلاّمة ولغنستون الفروق بين اللغات السامية، وبالذات في مجال التعريف (أداة التعريف) فقال: ومن أهم الاختلافات التي نراها بين اللغات السامية، اختلافها في التعريف، فبينما نرى بعض اللغات كالآشورية والبابلية والحبشية لا أداة للتعريف فيها، نرى العبرانية، وبعض اللهجات العربية مثل الثمودية واللحيانية تستعمل حرف ال (ه) أداة له تضعه في أول الكلمة، وبينما نرى السبئية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى تستعمل أداة أخرى للتعريف هي حرف (النون) تضعها في آخر الكلمة المراد تعريفها، نجد العربية الفصحى تسعتمل (ال) أداة للتعريف تضعها في أول الكلمة، وتشارك السريانية العربية الجنوبية في مكان أداة التعريف، فمكانها عندها في نهاية الكلمة أيضاً، غير أنها تختلف عنها في استعمالها أداة أخرى هي حرف ال(ه) أي الواو).وقد ظهر الإعراب في اللغة العربية الفصحى أو (المتينة) المنحدرة من اللغة اليمنية (العربية الأصل) كما كان الإعراب قائماً في معظم اللغات السامية، ثم توارى حتى زال من أكثرها. وفي العبرية ما يدل على ذلك في حالتي المفعول به وفي ضمير التبعية، وكذلك في السريانية والبابلية (واللغة العربية اليوم هي من أعظم اللغات السامية الباقية بكثرة من يتكلم ويكتب بها، وبكثرة ما ألف ودون بها. وهي تستعمل اليوم قلماً اشتق من قلم سامي شمالي، وكان لها في الماضي قلم قديم، كان مستعملاً عند العرب من أيام ما قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام، مات بسبب اتخاذ الإسلام لقلم الجزم قلماً للوحي دون به القرآن الكريم (قلم الجزم هذا الذي دون به القرآن الكريم هو قلم المسند اليمني المطور) وسمي الجزم لأنه (جزم) أي اقتطع أو اشتق من المسند، بل هو امتداد له. أي الامتداد المطور، بدليل ظهور الألف واللام- أداة التعريف في المسند، وبدليل أنه لم تكن هنالك لغة مهمة في الجزيرة العربية كلها ولا فيما حولها غير اللغة اليمنية، وليس هنالك من خط إلا وهو مشتق من المسند (العربية الأصل اليمني العربي نفسه) فصار بذلك القلم الشرعي الرسمي، وأمات بذلك الأقلام الجاهلية الأخرى المشتقة من القلم (المسند)، (أما المسند فلم يسقط إلى الآن). ونجد في المعاجم اللغوية مئات الألوف من الألفاظ المعبرة عن معان معينة، وقد قدر بعض العلماء عدد الألفاظ العربية بنحو من (1230505 كلمة).وكان يمكن أن تكون ضعف هذا العدد لو أخذ واضعو المعاجم في القرن الهجري الثاني بلغة اليمن. إلا أنهم نهوا عن ذلك أو كُرهِّ إليهم!!. وهناك لهجات تستحق الدراسة، فهي من اللهجات السامية المتفرعة عن لهجات قديمة، وهي لهجات منبوذة لم يحفل بها علماء اللغة. مثل اللهجة الأمهرية واللهجة (الهررية) لغة أهل (هرر). وهي من بقايا لهجات لم يعن بها العلماء إلا منذ احتكاك الغربيين بالمتكلمين بها. ومع ذلك فلا تزال البحوث العلمية عنها قليلة.وكما أسلفنا فإن اللغة العربية قديمة قدم العرب أنفسهم، بل ربما أقدم منهم كما يرى البعض. قال المرحوم جواد علي تحت عنوان (العربية لسان آدم في الجنة): (رأى علماء العربية أن العربية قديمة، وهي في نظرهم أقدم من العرب أنفسهم، فلما كان آدم في الجنة كان لسانه العربية، ولما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه وعلى بعض أحفاده العربية. ونظرية أن اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة كان عربياً، فلما بعد العهد وطال حُرِّف وصار سريانياً. وكان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف، وهو كان لسان جميع من في سفينة نوح إلا رجلاً واحداً يقال له جرهم. فكان لسانه لسان العرب الأول لا تعدو أن تكون وجهة نظر) فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته، فمنهم صار اللسان العربي في ولده عوص أبي عاد وعبيل، وجاثر أبي ثمود وجديس، وسميت عاد باسم جرهم، لأنه كان جدهم من الأم، وبقي اللسان السرياني في ولد أرفحشذ بن سام، إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته، وكان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل، فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي. (هذا خلط أو عجن عجيبين!!).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.