اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، وهي التي يقال لها اللغة العربية الفصحى وكذلك سائر لهجات العرب الأخرى، هي فروع من مجموعة لغات عرفت عند المستشرقين ب “اللغات السامية”. وقد أولع بعض المستشرقين بدرس هذه اللغات، فألفوا فيها كتباً وأبحاثاً، وأنشأوا مجلات عدة تفرغت لها، ومازالوا يسعون في توسيعها وتنظيمها وتبويبها، وقد عرفت دراساتهم هذه عندهم بالساميات، “Semitistik”. وهي تتناول بالدرس كل اللغات التي يحشرها علماء الساميات في مجموعة اللغات السامية: تتناولها بغض النظر عن وجود اللغة أو عدمه في هذا اليوم، فالبحث علم، والعلوم تبتغي المعرفة دون قيد بزمان أو مكان. وينفق علماء الساميات مجهوداً كبيراً في المقارنة بين اللغات السامية وفي معرفة مميزات كل لغة، وما بينها وبين اللغات الأخرى،من فروق أو تطابق أو تشابه، ومجال بحثهم في تقدم وتوسع، خاصة بعد أن أخذ هؤلاء العلماء بأساليب البحث الحديثة التي تعتمد على الفحوص والاختبارات والملاحظات والنقد. وقد جاءت نظرية “اللغات السامية” من التسمية التي أطلقها “شلوتسر””Shlozer” على العبرانيين والفينيقين، والعرب والشعوب المذكورة في التوراة على أنها من نسل “سام بن نوح”. ولم تقم نظرية التوراة في حصر اولاد سام على اساس عرقي، بل بنيت على عوامل جغرافية وسياسية، ولهذا أدخلت العيلاميين واللوديين “ Lud” في أبناء “سام”، مع أنهما ليسا من الساميين، ولا تشابه لغتهما لغة العبرانيين(1). والقرابة بين اللغات السامية واضحة وضوحاً بيناً، وهي أوضح وأمتن وأوثق من الروابط التي تربط بين فروع طائفة اللغات المسماة باللغات الهندواوروبية “ Indoeurpaichen”، أو الهندوجرمانية”Indogermanischen”، على حد تعبير بعض العلماء. وقد أدرك مستشرقو القرن السابع عشر بسهولة الوشائج التي تربط بروابط متينة ما بين اللغات السامية، وأشاروا إليها، ونوهوا بصلة القربى التي تجمع شملها. بل لقد سبقهم إلى ذلك علماء عاشوا قبلهم بمئات السنين هداهم ذكاؤهم وعلمهم إلى اكتشاف تلك الوشائج والى التنويه بها. فقد تحدث عالم يهودي اسمه: “يهودا بن قريش” “ Jehuda ben Koraish”.، وهو ممن عاشوا في أوائل القرن العاشر، عن القرابة التي تجمع بين اللغات السامية، وعن الخصائص اللغوية العديدة المشتركة بين تلك الألسن، كما أبدى ملاحظات قيمة عن الأسس اللغوبة التي تجمع شمل تلك اللغات. وقد حملت الخصائص المشتركة والألفاظ المهمة الضرورية لشؤون الحياة التي ترد في كل اللهجات السامية بض العلماء على تصور وجود لغة أم، في الأيام القديمة، تولدت منها بعوامل مختلفة متعددة مجموعة “اللغات السامية”. ويؤدي تخيل وجود هذه الأم إلى تخيل وجود موطن قديم للساميين كان يجمع شملهم، ويوحد بين صفوفهم، إلى أن أدركتهم الفرقة لعوامل عديدة، فاضطروا إلى الهجرة منه إلى مواطن جديدة، والى التفرق،فكانت هذه الفرقة إيذانا بتبلبل ألسنة البابليين وسببا إلى تفرق ألسنتهم وظهور هذه اللغات. ولا يعني تصور وجود لغة سامية أم “ Ursemitish”على رأي بعض العلماء ضرورة وجود لغة واحدة بالمعنى المفهوم من اللغة الواحدة، كانت أماً حقيقية لجميع هذه اللغات البنات. بل الفكرة في نظرهم مجرد تعبير قصد به شيء مجازي هو الإفصاح عن فكرة تقارب تلك اللغات وتشابها، واشتراكها في أصول كثيرة اشتراكا يكاد يجمعها في أصل واحد، ويرجعها إلى شجرة واحدة هي الشجرة الأم فالسامية الأولى أو السامية الأم، أو السامية الأصلية، هي بهذا المعنى تعبير مجازي عن اقدم الأصول المشتركة التي جمعت بين اللهجات السامية القديمة في الأيام القديمة، أيام كان المتكلمون بها يعيشون في أمكنة متجاورة وفي اتصال وتقارب عبر عنه بفكرة النسب المذكور في التوراة. وقد ذهب “نولدكه” إلى أنه من الضروري، في دراسة مقارنات اللغات السامية البدء باللغة العربية، وذلك بأن نأخذ في تسجيل خصائصها ومميزاتها وقواعدها وكيفية النطق بألفاظها وما إلى ذلك، ثم نقارن ما سجلناه بما يقابله في بقية اللغات السامية، لنقف بذلك على ما بين هذه اللغات من مفارقات ومطابقات. ولا بأس في رأيه من الاستعانة باللهجات الحالية أيضا، لأنها مادة مساعدة جداً ومفيدة كثيراً في الكشف عن خصائص اللغات السامية.وعن مميزاتها وتطورها في مختلف العصور. وفي رأيه أن دراسة من هذا النحو ليست بالأمر اليسير، فإنها تتطلب جَلداً وعلماً وإحاطة باللغات السامية كلها وبآثارها القديمة، وأن يقوم بها علماء لغويون متخصصون، على جانب كبير من العلم والذكاء. والاحاطة بالساميات. وليس بين اللغات السامية لغة واحدة تستطيع أن تدعي أنها سامية صافية نقية، وأنها لم تتأثر قط باللغات الأخرى التي تنتمي إلى مجموعات لغوية غير سامية، وقضية صفاء لغة ما من لغات العالم وخلوها من الألفاظ والكلمات الغريبة، قضية لا يمكن أن يقولها رجل له إلمام بعلوم اللغات ولو يسيراً جداً. واذا كانت اللغات السامية قد تأثرت باللغات الأخرى بسبب اختلاط الشعوب واتصال ألسنتها بعضها ببعض نتيجة ذلك الاختلاط، فإن من الطبيعي أن تكون اللغات السامية قد أثرت بعضها في بعض، ولهذا نجد في كل لغة من اللغات السامية ألفاظا أخذتها من لغة ما من لغات أبناء سام(2). ويقسم علماء الساميات اللغات السامية إلى قسمين: لغات سامية شمالية، ولغات سامية جنوبية. ويقسم بعض العلماء اللغات السامية الشمالية إلى مجموعتين: مجموعة شرقية، ومجموعة غربية. ويقصدون بالمجموعة الشرقية اللغات السامية المتركزة في العراق، ويقصدون بالمجموعة الغربية اللغات السامية المركزة في بلاد الشام. وقد تأثرت كل مجموعة من المجموعتين بالمؤثرات اللغوية والحضارية للمكان الذي عاشت فيه، ومن هنا حدب بعض الاختلاف بين الجماعتين. ومن أهم الخصائص التي امتازت بها اللغات السامية عن غيرها من اللغات: اعتمادها على الحروف الصامتة “ Consonant”=”Konsonant”اكثر من اعتمادها على الاصوات “Vokale”=”Vocal”، فنرى أن أغلب كلماتها تتألف من اجتماع ثلاثة أحرف صامتة. أما الأصوات، فلا نجد لها حروفاً تمثلها في اللغات السامية. وهي بذلك على عكس اللغات الآرية التي اهتمت بالأصوات، فدونتها مع الحروف الصامتة.وقد اضطرت اللغات السامية نتيجة لذلك إلى الاستزادة من الحروف، فزادت في عددها عن العدد المألوف في اللغات الآرية، وأوجدت لها حروفا للتفخيم والترقيق وإبراز الأسنان والضغط على الحلق. وليس في اللغات السامية ادغام للكلمات، أي وصل كلمة بأخرى، لتكون من الكلمتين كلمة واحدة يكون لها معنى مركب من معنى الكلمتين المستقلتين كما في اللغات الآرية. وأما ما نراه من عد كلمتين مضافتين كلمة واحدة تؤدي معنى واحدا، فإن هذا النوع من التركيب بين الكلمتين شيء جديد في اللغات السامية، لم يكن معروفا عند أجدادهم القدماء. وهو معروف في اللغات الآرية، كما في حالة ال “ Genitive”، في اللاتينية حيث تتولد معانٍ جديدة بإضافة لفظة إلى لفظة أخرى، فتتولد من هذا التعاقب دلالة جديدة لمعنى جديد. ولنا رأي يخالفه ويدحض حجته سيأتي فيما بعد. هذا، ونجد أن بين اللغات السامية وبين اللغات الآرية اختلافات في كثير من الأمور، فاللفظة في اللغات السامية ذات مدلول عام، وقد يكون لها جملة مدلولات تدل على معانٍ عامة مطلقة، أما اللغات الآرية، مثل السنسكريتية، واليونانية، والألمانية، فكل جذر فيها هو كلمة ذات معنى مقيد محدود، أخذت منه المصادر والنعوت. و هناك اختلافات أخرى في موضوع ال “Con ويرى العلماء أن الفعل قد تطور في اللغات السامية تطوراً خطيراً، استغرق قروناً طويلة، وأن ما نعرفه من تقسيم الأفعال إلى ماض ومضارع وأمر،لم يكن معروفا على هذا النحو عند قدماء الساميين. ويرى بعضهم أن الصيغة الأصلية للفعل إنما كانت صيغة الأمر، فهذه الصيغة هي أقدم صيغ الأفعال عند الساميين. وقد كانت هذه الصيغة تستعمل للدلالة على جميع صيغ الفعل من الماضي والمضارع والأمر، ثم تخصصت فصارت تشير إلى حدوث الفعل في صيغة الأمر، و ذلك بعد ظهور صيغتي المضارع والماضي. ومن صيغة فعل الأمر، اشتق فعل المضارع. و ذلك بزيادة حرف على أول لفظة فعل الأمر، لتدل على حالة الإسناد إلى الفاعل أو الضمير مثلا. وقد سبقت هذه الزيادة الزيادة التي لحقت آخر الفعل، فمن فعل “قم” مثلا تولد الفعل “أقوم” و “يقوم” و “نقوم” و “تقوم” ثم يقومون وتقومون. ومن علماء اللغات من يرى أن صيغة المضارع كانت أمداً تدل على جميع الأزمنة، وأن هذا الأداء كان مستعملاً عند قدماء الساميين استعمال اللغة الصينية واللغة الهندوجرمانية الأصلية له. ونجد اليونانية تُغير معاني الفعل بإدخال حرف الجر عليه، فإذا دخل حرف جر على الفعل تغير معناه. ويظن أو يلاحظ أن العبرانية تشارك اللهجات العربية الجنوبية في أمور عديدة غير معروفة في عربية القرآن الكريم، كما توجد أوجه شبه بين ألفاظ حبشية وعبرانية. وذلك بسبب أن هذه الجموع هي في الواقع جموع وردت في لهجات عربية متعددة، وردت سماعاً، فلما جمعها علماء العربية ودونوها في كتب اللغة والمعاجم، لم يشيروا إلى أسماء من كان ينطق بها، فظن أنها جموع استعملت في هذه العربية التي نزل بها الوحي. هذا مجمل ما أورده صاحب تاريخ العرب (جواد علي) وقد أصاب حيناً وأخطأ حيناً آخر ولنا عليه استدراكات سنبيّنها إن شاء الله. الهوامش: (1) تاريخ العرب – جواد علي (1/5107) (2) تاريخ العرب - (1/5112)