باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النقط والإعجام .. اليمنيون عرفوها قبل نزول القرآن الكريم
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 06 - 12 - 2006


- د. عبد الله علي الكميم ..
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.. وسأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
ويضيف: وفي مجال الإعراب والصرف نجد أحوال كليهما بخط المسند أحدهما مكمل للآخر. ولذا فعلامة المشتق، والمتصرف واحدة ممثلة بالميم فإلحاقه هنا في الأسماء ثورم، وأسيدم، ومرثدم، ومسندم، وأثمرم، للحالتين إعراب، وصرف، فللإعراب يلحق الميم الأسماء المتمكنة من التنوين لأي تنوين كان إنما لتمييزها من غير المتصرف الذي لا يلحقه الميم مطلقاً كالاسم هنا أرفط لم تلحقه الميم فهو على وزن أحمد غير منصرف. وفي المجال الصرفي مثل الاسم مرثد لحقه الميم بقراءته اسماً مشتقاً على وزن مفعل مصدر ميمي حيث يلحق الميم في المجال الصرفي، الأسماء للدلالة على الاشتقاق، وما لم يكن مشتقاً لا يلحقه الميم في الأحوال الصرفية لللدلالة على الاشتقاق، وما لم يكن مشتقاً لا يلحقه الميم في الأحوال الصرفية للدلالة على أن وزنه غير مشتق، وفي ثور وأسيد لحقهما الميم أيضاً للدلالة على الاشتقاق فهي مأخوذة من غيرها أسماء أعلام (أسماء جنس).
نكتفي بهذا المثال (النقش) ومقارنته بألفاظ الفصحى، ومعرفة أن الفروق في المعاني يسيرة جداً. ونحاول نقل جزء من لوعته وتحسره ولومه لكل القادرين من المؤرخين والمفكرين والكتاب العرب الذين لم يعطوا هذا الجانب الأهم من جهدهم ووقتهم، في الوقت الذي حاول فيه اليهود والمتهودون معهم جمع شتات لغتهم بعد تبعثرها وضياع أصولها وإحيائها بعد موتها حتى صارت لغة قائمة بذاتها، كما أن الأحباش حافظوا على لغتهم وكتابتهم عبر الزمن وهما معاً من فروع اللغة اليمنية الأم وكتاباهما مشتقان من المسند.
قال الحجري: وإنني لأستغرب ممن لم يرق لهم اعتماد هذه الدراسة في تفسير لغة النقوش على ضوء القواميس العربية دون الرجوع إلى مصادر أخرى للمستشرقين قد فصلت الحديث عن العلاقة بين لغة النقوش وبقية اللغات السامية باعتبار أن لغة النقوش واحدة منها. وأقول لهؤلاء: أن لا علاقة للغة النقوش ببقية اللغات السامية إلا كعلاقة تلك اللغات بالفصحى وبأدلة وجيهة وثابتة وأساسية:
أولاً: أن اللغة الفصحى، ولغة المسند هما لغة الضاد وحدهما ما لم يوجد في غيرهما.
ثانياً: تميزهما عن بقية اللغات السامية بالظاهرة الصرفية القائمة على قواعد ثابتة وشاملة مما لم يوجد في غيرهما.
ثالثاً: أن المفردات اللغوية للفصحى، والمسند لا يوجد تحريف في حروف مفرداتها اللغوية كما هو حاصل ببقية اللغات السامية.
رابعاً: أن هذه الدراسة قد قامت على أساس معرفة العلاقة بين لغة الضاد بخط المسند مع لغة الضاد بخط الجزم، معتمدة في ذلك حقيقة أن ما من علاقة لبقية اللغات السامية باللغة الفصحى هي العلاقة نفسها بلغة المسند.
ونخلص إلى القول: وعليه فالاعتماد على تفسير لغة النقوش على ضوء القواميس العربية هو الوجه الأصوب انطلاقاً من حقيقة أن موروث الأبناء لابد أن يكون هو الإرث من الآباء في كل ما جاء بتلك القواميس العربية.
إذ كل ما جاء بتلك القواميس هو مجموع الإرث اللغوي خلفاً عن سلف للأمة العربية أرضاً وإنساناً بين القديم والأقدم. (الواقع أن القواميس هذه لم تضم كل الموروث الحضاري واللغوي والثقافي للأمة لأنها أهملت الكثير من المفردات والألفاظ والمصطلحات اليمنية وبالذات تلك التي تمت إلى الأعمال الزراعية والصناعية وأعمال البناء والتشييد ومشاريع الري والطرق والعلوم، وهذا هو النقص الخطير الذي نشكو منه!!.
كما أن علماء اللغة العربية هم الأولى بثقتنا فهم الأكثر دراية بلغتهم وبالذات الأمانة بالقياس إلى المستشرقين ذوي الميولات والأهواء المعروفة، فكان الأولى بالاستغراب، إذا ما انتهجت العكس إنصافاً للحقيقة وللتاريخ، وبما أن خط الجزم قد كان ولا يزال مثار تساؤل العلماء والمؤرخين والمفكرين حول زمن ومكان نشأته، فإنه قد تناوله من وجهة نظره ومعاييره الموضوعية واللغوية التي وضعها هو ونؤيده في ذلك.
كيف؟ ومتى؟ وأين نشأ خط الجزم؟
تناول الحجري هذا الموضوع الهام كما أشرت من وجهة نظره القائمة على أساس تغليب الجانب اللغوي والموضوعي وفي ضوء معطيات القرآن والتاريخ اليمني، وفي الإطار التام لبحثه أو نظريته القائلة بأن الخط المسند هو خط لغة الضاد وأن خط الجزم اشتق منه. وبالتالي فإن القرآن قد كتب بخط يماني لا غبار عليه، وقد كنت سبقته إلى هذا في المجلد الأول من مؤلفي (هذا هو تاريخ اليمن الإرهاص) وهو ما أنا مقتنع به، وأعمل على بلورته وترسيخه على أسس علمية وتاريخية وفي ضوء الحقائق الموضوعية. قال الحجري تحت عنوان خط الجزم وخط المسند يبدو أن خط الجزم بدايته غامضة، وأكثر ما قيل عنه كأثر مادي أنه وجد على قبر الملك امرئ القيس بن عمرو في النمارى (النمارة) بحوران سوريا وبحروف مقطعة تاريخه 328م. ذكر هذا في كتاب تاريخ اليمن القديم ل(ندلف نلنس) وقد أورده الدكتور يوسف محمد عبد الله في كتابه (الأوراق) .
ومن المنقول كما جاء في المزهر للسيوطي ص329ج1/ وفي رواية معنعنة إلى ابن عباس بقوله: إن قريشاً تعلمت خط الجزم من طارئ طرأ عليهم من اليمن من كندة، وثمة رواية أخرى تؤيد ذلك كما جاء في كتاب الأوراق آنف الذكر ص42 عما يروى أن رجلاً من دومة الجندل من كندة يَمُنّ على قريش أن أخاه بشراً علمهم خط الجزم بقوله شعراً:
فلا تجحدوا نعماء بشر عليكمو
فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتما
من المال ما قد كان منه مبعثرا
وأنفقتمو ما كان بالمال مهملا
وطامنتمو ما كان منه منظرا
فأجريتم الأقلام غدا وبدية
وظاهيتموا كتاب كسرى وقيصرى
وأغنيتموا عن مسند الحي حمير
وما زبرت في الصحف أقيال حميرا
وهذه الأبيات قد جاءت في أكثر من مرجع قديم وبالذات في مقدمة ابن خلدون وبروايات مختلفة زيادة ونقصاناً.
وعلق على الأبيات قائلاً: والملاحظ في البيت الأخير بقوله: وأغنيتموا أي استغنيتم بخط الجزم عن خط المسند الدليل الواضح أن خط قريش قديماً كان المسند مثلها مثل بقية المناطق للجزيرة العربية الأخرى جنوباً وشمالاً، كما لا صحة لقول القائل أن خط المسند هو حكر على الجنوب دون الشمال بدليل أن النقوش المسندية قد وجدت بالشمال وبالكثافة نفسها في الجنوب، كما أنها قد وجدت بالشمال النقوش الثمودية حتى صحراء سيناء كما جاء في كتاب تاريخ اليمن القديم المذكور آنفاً ما لم يوجد بمثلها في الجنوب.
وعليه فيصح القول: أن خط المسند أصله شمالي قبل أن يكون جنوبياً، كما أن التحول من خط المسند إلى الجزم لم يكن قد بدأ في قريش. لقد سبقه في اليمن وبحسب قول ابن عباس (أن قريشاً تعلمته من طارئ طرأ عليهم من اليمن، وأن الخطين كانا قد تعايشاً معاً على الأقل لفترة قبل الإسلام إلى أن تغلب الأخير على الأول في ظل الدولة الناشئة الرسالية والتي جعلت خطها الرسمي هو خط الجزم، وإذا كانت قد تغيرت الحروف الأبجدية لقد ظلت القواعد الكتابية لخط المسند معمولاً بها بخط الجزم من حيث إسقاط عوامل حركة الممدود كما هي بخط المسند، ففي حالة التجريد نأتي بالمسند كما هي بالقواميس العربية.
ويواصل: وفي حالة الاشتقاق مثل إسقاط مدة الأفعال على وزن (أقام، وفاعل تفاعل- يفاعل - يتفاعل) ففي خط الجزم من المعلوم أن أقرب كتابة لخط المسند هي كتابة القرآن الكريم بالمصحف العثماني، أي المنسوب إلى الخليفة عثمان بن عفان المعتمدة لقراءة حفص حتى الآن، لقد جاءت كتابة الأوزان المذكورة بإسقاط الألف مماثلاً لإسقاطه بخط المسند من دون نظر إلى ألف صغير بخط الجزم الذي كان قد أحدثه مؤخراً أبو الأسود الدؤلي دونما تغيير للكتابة القديمة، أي بدون الألف كما جرت عليه العادة قبل أبي الأسود، وكأنهم يشترطون عليه أن يقوم بمهمة استكمال النواقص بخط الجزم دون التعرض للشكل كما سبق العُرْف عليه.
فقد أمره الخليفة أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه بقوله: ضع لهم حرفاً هكذا نص الرواية الصحيحة. ضع لهم حرفاً تمثل هذا الحرف بالألف الصغير يوضع بين يدي الحرف الممدود لتمييزه من الحرف غير الممدود مثل قوله تعالى في سورة آل عمران 16 «الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار» وبمثله في سورة المنافقين 61 «ولكن المنافقين لا يفقهون» أي فترى أن المنافقين والمنافقين قد جاءا على شكل واحد إلا من وجود ألف صغير في المنافقين ابتدعه أبو الأسود. ومثل: (فقضاهن سبع سماوات) أي فقضاهن لولا الألف الصغير لا شتبهت بالقضى لا بالقضاء.
وهكذا نجد في القرآن الكريم مئات الأمثلة كلفظي الجلالة (الرحمن، الله)...إلخ.
إن من ضمن القضايا اللغوية الشائكة التي كانت ولا تزال مثار جدل كبير بين علماء اللغات والمؤرخين والأدباء ويتناولها القاضي الحجري بجرأة وجدية قضية النقاط في الكتابة العربية إذ يؤكد أنها كانت موجودة قبل نزول القرآن وأن أبا الأسود الدؤلي لم يكلف من قبل الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا بوضع (حرف المد) (على حد تعبيره) (ضع لهم حرفاً) ولم يقل نقاطاً، فمهمة أبي الأسود هي التمييز، والتفريق بينهما وهو بيت القصيد لأمر الخليفة ضع لهم حرفاً وليس كما قالوا: أن المراد بقوله ضع لهم حرفاً هو الشكل الإعرابي ونقط الحروف. وكأن الحروف المنقوطة قبل أبي الأسود كانت غير منقوطة.
فبالنسبة للشكل ما كان العرب الأوائل في ضرورة إلى من يعرفهم بالمرفوع والمنصوب والمجرور. لقد كانوا في غير ضرورة لها لما جبلت عليه سليقتهم وسلامة ألسنتهم، ولعل ما جاء بالخصائص لابن جني اعتبار لذلك في إصرار العربي البدوي سليم اللسان في قراءة (طوبى) (طيبى بالياء كقاعدة صرفية سليمة، فالأصل طاب يطيب: مثل باع يبيع وليس ببوع. وأن مجيئها بالقرآن الكريم هو من باب الإعلال لا القياس الصرفي. وفي الإعراب قال (ابن جني) أنه حاول مع أعرابي بدوي رفع المنصوب ونصب المرفوع ولم يفلح نتيجة أن هؤلاء الأعراب وبحسب سليقتهم يعرفون مواقع الإعراب بدون شكل، وقراءتنا للصامت ممدودة مثل: هذا، أولئك، وهؤلاء ونحوه بمدات، وهي ليست ممدودة على الظاهر.
أما شأن الحروف المتشابهة بالقول أنها كانت قبل أبي الأسود غير منقوطة لا يقره عقل لأسباب كثيرة منها:
أولاً: أن الحروف غير المنقوطة المتشابهة مع غيرها ستصبح بلا حروف إذ سيلغى حرف الضاد لأنه صاد، وحرف (غ) لأنه (ع)، وحرف (ذ) لأنه (د)، وحرف (ز) لأنه (ر)، وحرف (ظ) لأنه (ط)، وحرفا (ج ،خ) لأنهما (ح)، وحروف (ب وت وث) ستلغى جميعها لأنها بلا نقاط، ومثلها القاف والفاء، والنون والياء، وغيرها، وستكون النتيجة أن الأبجدية لخط الجزم في الفصحى(13) حرفاً فقط، وخمسة عشر حرفاً لا وجود لها لأنها غير منقوطة، وهذا ما لا يمكن وقوعه قديماً؛ إذ لا وجود للغة العربية إلا بوجودها ونراه يعطي أهمية كبيرة لأمر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأبي الأسود مركزاً على اللفظ: (ضع لهم حرفاً) فيقول:
ثانياً: الرواية عن أمير المؤمنين (علي) لأبي الأسود الدؤلي هي: (ضع لهم حرفاً) وفي رواية أخرى: (اجعل لهم حرفاً) فهو لم يقل: ضع لهم نقاطاً، إنما حرفاً، والمراد بالحرف الحرف الصغير علامة المدة واو أو ياء أو ألف.
ثالثاً: كان قد انتشر القرآن الكريم من البداية رواية وكتابة بكامل حروفه ونقاطه، والدليل على ذلك وهو الأهم وجود كتاب الوحي أمثال
علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت. ولا أدل على ذلك أن زيداً هذا عندما كلفه الخليفة عثمان بجمع القرآن كان قد عمد إلى كل ما قد كتب منه في سعف النخيل، والجلود، وغيرها حسب رواية المؤرخين في ذلك، وأن القرآن الكريم كان مكتوباً بكامل حروفه ونقطه من البداية، وإنما اختلت الموازين كما ذكرت، ولعل علماءنا الأفاضل بدءاً بالخليل بن أحمد صاحب رواية النقاط لم يتفهموا هذا الجانب المهم... وحسب الرواية المنسوبة لأبي الأسود كما جاء في مراتب النحويين ص1: أن أبا الأسود عندما أراد أن يشكل الحروف اتخذ كاتباً من عبد القيس، وطلب إليه أن يضع نقطاً وفق قراءته قائلاً: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه من أعلا فإن ضممت فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعلها تحت. يتأمل أن هذه الرواية تدل على الشكل، وليس نقاط الحروف المتشابهة بقوله فإن ضممت فإن فتحت فإن كسرت، ومعروف أن النقاط الشكل.
ويضيف: والحقيقة أن توصية أمير المؤمنين علي لأبي الأسود صريحة وواضحة وهو قوله: (ضع لهم حرفاً) والمراد بالحرف هي عوامل الحركة الألف والواو والياء. ففي الألف لأسباب مجيء الرسم القرآني بأوزان فاعل وتفاعل ونحوهما وبدونها تكون قراءة القرآن بالصورة الصحيحة قبل ابتداع أبي الأسود غير ممكنة. وكان ذلك مراد أمير المؤمنين (علي) رضي الله عنه. أما الشكل فالعرب الأوائل لم يكونوا في حاجة لا إلى الشكل ولا إلى الألف الصغير (المد) لسلامة ألسنتهم.
لقد جاء خط الجزم بالرسم القرآني مقلداً للقاعدة بالخط المسند في إسقاط تلك العوامل. وهي وإن كانت بخط المسند مطلقة فإنها بالقرآن الكريم كثيرة.
ويعلق على هذا قائلاً: والذي تجب معرفته أن هذه الأوزان بخط المسند لا علامة للمدة لها مقارنة بالفصحى بالعلامة (ألف صغير) كان ابتدعه أبو الأسود، أما من قبله فكان وضعها كوضع خط المسند حيث نعرف من خلال السياق والموضوع، لكن بعد الإسلام وانتشار القرآن خارج بلاد العرب اضطروا لوضع علامة تفادياً من اللحن والمحافظة على النص القرآني .
إن كلام الحجري كان قد سبقه كلام للدكتور جواد علي عن الحركات والإعجام في اللغة العربية قديماً كما تناوله غيره ولكن بأساليب ورؤى تختلف عن رؤية الحجري التي اعتبرها أكثر صوابية وأقرب إلى العلمية. ولأهمية مما أورده صاحب المفصل ولإشباع هذا الموضوع الهام نقتبس ما أمكن مما أورده. قال الدكتور جواد تحت عنوان «الإعجام والحركات» :
لابد لي هنا من التعرض لمسألتين مهمتين من نواحي تطور الخطوط عند العرب هما: الإعجام، والحركات.
ويراد بالإعجام تنقيط الحروف المرسومة بشكل متقارب أو بشكل واحد لتمييزها بعضها عن بعض، وذلك لأن هذه الحروف مثل: الباء، والتاء، والثاء، والجيم، والحاء، والخاء، والدال، والراء، والسين، والشين، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والعين، والغين، والفاء، والقاف، إذا كتبت من غير نقط صار من الصعب على الإنسان التمييز بينها لأنها تكتب بشكل واحد فيلزم على القارئ عندئذ الرجوع إلى علمه في اللغة وسليقته في الفهم لإدراك المعنى لأنها بشكل ورسم واحد. فالباء، والتاء، والثاء بل وحرفا النون، والياء أيضاً إذا كتبت في الكلمة. ولا سيما في الوسط بغير نقط صار من الصعب تمييز هذه الحروف بعضها عن بعض، وإدراك المعاني الصحيحة، والمراد من الكتابة نتيجة لذلك.
فللتغلب على هذه المشكلة أعجم علماء الخطوط بعض هذه الحروف بوضع نقط فوقها أو تحتها لتمييزها بعضها عن بعض، وعرف هذا التنقيط بالإعجام .
إلا أنه هنا يختلف مع الحجري كما أختلف معه أنا أيضاً فيما يتصل بزمن وواضعي هذه النقاط، كما أنه يتناقض مع نفسه حين يقول أنه يصعب قبل الإعجام قراءة أي شيء وهذا أمر بدهي. فلو أخليت الكلمات الآن من الإعجام (النقط) وقدم موضوع حتى من صفحة واحدة إلى أحد كبار الأدباء لما تمكن من قراءته إلا بصعوبة بالغة وبعد مضي أضعاف الوقت الذي يمكن أن يقضيه في قراءتها فيما لو أعجمت!!
قال د. (علي): وقد وقع الإعجام في الإسلام على رأي أكثر العلماء بعمل أبي الأسود الدؤلي، والخليل بن أحمد الفراهيدي وآخرين في قصص لا علاقة لها لذكره في هذا المكان. وهو مكان خصص لأقلام الجاهلية. أما بالنسبة إلى الجاهلية فإننا لا نملك وثيقة معجمة. ونقش (حران اللجا) المكتوب بعربية شمالية مشوبة بالنبطية ، خال من الإعجام أيضاً (لكن الإعجام كان في اليمن) وكذلك النقوش الأخرى المكتوبة بالنبطية المتأثرة بالعربية الشمالية (كيف تكون متأثرة بالعربية الشمالية في حين أن البعض يقول: إنها لغة القرآن أو أن القرآن كتب بخطها، في حين أن لا لغة شمالية ولا نبطية وإنما لغة عربية يمنية وخط يمني واحد كانا يسودان كل الجزيرة العربية وما حولها!!.
ويضيف: ولهذا فإني لا أستطيع الادعاء بأن الإعجام كان معروفاً بالقلم العربي المكي الجاهلي ولا بغيره من الأقلام العربية الجاهلية .
ويأتي برأي آخر -نقيض- يتفق مع ما نراه وهو منسوب لابن عباس فيقول: غير أن هناك رواية تنسب لابن عباس: تزعم أن ثلاثة من بولان من طيء ومن أهل الأنبار لما وضعوا الحروف وضعوها مقطعة، وموصولة ثم وضع أحدهم وهو (عامر (الإعجام) أي أن العرب وضعوا الإعجام في الوقت الذي اخترعوا فيه قلمهم العربي، وجاء في كتاب (النشر في القراءات العشر): ثم إن الصحابة رضي الله عنهم لما كتبوا تلك المصاحف جردوها من النقط، والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما أخلوا المصاحف من النقط، والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين.
ويعلق على هذا قائلاً: وفي هذا الخبر دلالة على معرفة الصحابة بالنقط والشكل أي أن النقط والشكل كانت معروفة عند العرب قبل نزول القرآن وهذا ما نرجحه.
ويروي خبراً آخر عن ابن مسعود ينم عن أن العرب كانت تعرف الإعجام والنقط فيقول: وهناك خبر يرفع سنده إلى ابن (مسعود) يذكر أنه قال: (جودوا للقرآن ليربو فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم). وقد شرح الزمخشري ذلك بقوله: (أراد تجريده من النقط والفواتح، والعشور لئلا ينشأ نشء فيرى أنها من القرآن.
فيفهم من هذا الخبر أن التنقيط كان معروفاً، وأن (ابن مسعود عرفه، وأنه رأى تجريد القرآن من النقط ليصرف الصغير همه في فهمه فهماً عميقاً، وفي إدراكه إدراكاً صحيحاً عن دراسة، لأن تجريده يحمل الطالب على بذل الجهد في فهم غامضه، ومشكله، ومعناه؛ فيرسخ فهمه في عقله. أما إذا كانت الحروف مع?مة ومشكلة، فلا يجد الطالب ما يحمله على بذل الجهد وإجهاد نفسه لفهم القرآن فتفتر همته عن فهمه، ولا يبذل نفسه بذلاً مرضياً في تعلم كتاب الله .
ويورد رواية ثالثة للتدليل على أن الإعجام والنقط كانت معروفة لدى العرب فقال: (وخبر آخر يدل على وجود الإعجام عند العرب، رواه (سفيان بن عيينة) يفيد أن زيداً بن ثابت نقط بعض الحروف.
وورد أن بعض الباحثين عن الكتابات الإسلامية القديمة عثروا على آثار للنقط في بعض الوثائق القديمة. فقد ذكر الدكتور (جروهمن) أنه وجد في وثيقة من وثائق البردي المدونة بالعربية واليونانية ويعود تاريخها إلى سنة (22) للهجرة حروفاً منقطة. وهذا التنقيط إن صح وثبت فإنه يدل على وجود التنقيط في هذا العهد، كذلك ذكر (مايس): أنه وجد حروفاً منقوطة في كتابة عثر عليها قرب الطائف يعود عهدها إلى سنة 58 للهجرة. وإذا صح أن هذه النقط قديمة قدم الخط العربي؛ فإن معنى هذا أن الكتابة على الحجر استخدمت التنقيط .
ويأتي ابن خلكان برأي بعيد نوعاً ما نظراً لتشعب وجهات نظر العلماء وتشتتهم واختلافهم في مفهومي الإعجام والنقط، فبعضهم كان يفصل بينهما على أساس أن الإعجام يعني العلامات والنقط هي تلك الرموز الصغيرة التي تفرق بين الأحرف المتشابهة ، بينما العلامات أخذت وظائف أهم اعتمدت عليها القواعد النحوية في الرفع والنصب والجر والجزم ....إلخ.
(ونسب بعض أهل الأخبار الإعجام إلى أبي الأسود الدؤلي كما نسبوا إليه النقط.
وهو وهم وقعوا فيه من عدم إدراكهم للعمل الذي قام به (أبو الأسود) فظنوا أنه استعمل النقط في الحالتين: في النقط الذي هو الشكل، وفي النقط الذي هو الإعجام. والذي عليه الجمهور أن الإعجام كان من عمل (نصر بن عاصم .
أما ابن خلكان فيقول: فلما كثر الخطأ في قراءة القرآن بسبب عدم تمييزهم بين الحروف المتشابهة وتفشى وباء الجهل بعدم التمييز في القراءة بين الحروف المتشاكلة (فزع الحجاج إلى كُتابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الأحرف المتشابهة علامات تميزها بعضها من بعض فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفراداً وأزواجاً، وخالف بين أماكنها بتوقيع بعضها فوق الحروف وبعضها تحت الحروف، فاضطر الناس بذلك زماناً لا يكتبون إلا منقوطاً فكان التصحيف مع استعمال النقط أيضاً يقع فأحدثوا الإعجام فكانوا يتبعون النقط بالإعجام .
وذكر أن (نصر بن عاصم) و(يحيى بن يعمر) -وكانا ممن أخذ العلم عن أبي الأسود الدؤلي- نقط الإعجام بنفس المداد الذي كان يكتب به الكلام حتى لا يختلط بنقط أستاذهما أبي الأسود التي كانت بمداد يخالف المداد الذي كتب به الكلام.
وقد انتشرت تلك الطريقة وأضاف إليها الناس علامة التنوين. فكانت نقطتين الواحدة فوق المشدد المفتوح، وتحت المكسور، وعن يسار المضموم، ووضعوا نقطة الفتحة داخل القوس، والكسرة تحت حدبته، والضمة على شماله، ثم استغنوا عن النقطة وقلبوا القوس مع الضمة والكسرة، وأبقوه على أصله مع الفتحة، وزاد أهل البصرة السكون فجعلوه جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه.
ولنتساءل الآن هل كان الإعجام كافياً للغة العربية؟!! أم أن مشكلات أخرى ظلت معلقة تتطلب حلاً؟! أو بمعنى آخر ما الوظائف التي أدتها علامات الإعجام في سبيل تذليل وتصحيح النطق بالكلمة نطقاً صحيحاً حسب موقعها في سياق الكلام (موقعها من الإعراب؟ .
يقول جواد علي: (والمشكلة الثانية في العربية هي مشكلة الحركات، أي كيفية النطق بحروف الكلمة وبأواخر الكلم ليظهر المعنى حسب موقع الكلم من الإعراب.
والعربية من اللغات العالمية التي احتفظت بخاصية الإعراب بينما تركتها لغات أخرى كانت لغات معربة في الأصل؛ لأن إهمال الحركات فيها يؤدي إلى وقوع أخطاء كبيرة في فهم معنى الكلام؛ لذلك وجب التغلب على هذه المشكلة بوضع علامات تعبر عن الحركات.
أما سبب وجود هذه المشكلة في رأيه فإنه يتمثل في أن أقلام العربية القديمة هي مثل الأقلام السامية الأخرى مؤلفة من حروف صامتة فقط، ولا توجد فيها حروف تمثل الحركات تكتب في الكلمة كما هو الحال في اليونانية وفي اللاتينية، وفي الأبجديات الغربية الأخرى المشتقة منهما، فيقرأ الإنسان الكلمة صحيحة بغير خطأ لوجود حروف الحركات مع الحروف الصامتة. ويكتب كتابة صحيحة لأنه حين يكتب الكلمة ويلفظها يكتبها بحروف صامتة وبحروف الحركات.
ويعتقد بعض اللغويين أن العرب في عهد ما قبل الإسلام بطبعهم وفطرتهم وسليقتهم وحدّة ذكائهم لم يكونوا بحاجة إلى الإعجام، (الشكل أو النقط) وأنهم كانوا يقرأون خطوطهم سواء (المسند) وهو ليس بحاجة إلى الإعجام، أو الجزم وهو الذي تطلّب الإعجام أو ما تفرعت من المسند من خطوط في عموم الجزيرة والشام والعراق.
فلما جاء الإسلام ودخل الأعاجم بكثرة فيه واختلطوا بالعرب واختلط العرب بهم فشا اللحن في الكلام، وظهرت الحاجة إلى تقويم الألسنة فوضع أبو الأسود الدؤلي مبادئ النحو والشكل أي علامات الحركات، وسلك الناس طريقته، ووسع من جاء بعده جادة هذا العلم حتى صار من أهم العلوم عند العرب .
وقد كان الغرض من التنقيط عند العرب توضيح الحروف بمعنى تعيينها وتحديدها وتثبيتها، وتمييز كل حرف عن الآخر المشابه له. بينما الغرض منه في اللغات السامية الأخرى للتعبير عن الحركات؛ حيث يعبر عن النقاط في بعض هذه اللغات عن الحركات (فالحركات في بعض اللغات السامية يعبر عنها بنقاط توضع فوق الحرف أو تحته كما استعملت الخطوط المستقيمة، وما يشبه الضمة للتعبير عن الحركات عند بعض لغات أخرى، ولم يستعمل الإعجام أي التنقيط لتمييز حرف عن حرف آخر مشابهة له) إلا في القليل.
وقد عرف اليهود التنقيط في التوراة لتسهل عليهم قراءتها كما عرف في إنجيل (متى) أيضاً، وربما عرفت في كتب سماوية أخرى من الكتب التي نزلت على الرسل والأنبياء في اليمن. فكون اليمنيين قد أسلموا من بعد نوح وهود ومن بعدهما واطلعوا على كتبهم، كما أشار إلى هذا وهب بن منبه الذي كان يعتنق اليهودية من أنه اطلع على 99 كتاباً من كتب الله العظيم التي أنزلها على رسله وأنبيائه، وفي رواية أنه اطلع على 160 كتاباً، فإن هذا يدعم الاتجاه إلى القول بأن اليمنيين كانوا قد عرفوا النقط والإعجام قبل نزول القرآن بزمن طويل، وأنهم نقلوه إلى مكة وغيرها من المدن والمناطق العربية.
ويرى الدكتور جواد علي أنه لا يمكن البت في مسألة النقط والإعجام إلا بعد إجراء أبحاث ميدانية علمية آثارية لفترتي ما قبل الإسلام وما بعده، والحصول على وثائق تدعم هذا الرأي أو ذاك فيما له صلة بتحديد صوابية هذا الرأي أو ذاك عن أقدميتهما أو أحدهما على الإسلام وعن مكان نشوئهما. إلا أن ما سبق أن أوردنا من قرائن وأدلة عن وجودهما قبل الإسلام وأنهما كانا في اليمن مهد الخطوط السامية ومنبت أهمها وأخطرها (المسند) الذي اشتق منه خط الجزم (الذي كتب به القرآن الكريم ونكتب به الآن) على أن ابن النديم قد أشار إلى مجموعة من المؤلفات عن التنقيط والشكل منها: كتاب الخليل في النقط، وكتاب محمد بن عيسى في النقط، وكتاب اليزيدي في النقط، وكتاب الأنباري في النقط والشكل، وكتاب أبي حاتم السجستاني في النقط والشكل بجداول ودارات، وكتاب الدينوري في النقط والشكل) والدكتور جواد يعتبر أن الأبحاث التي قد أنجزت عن الخط العربي ليست كافية، بل لا تزال في مراحلها الأولى ونطالب بالمزيد منها.
كما يعتقد أن الباحثين قد يعثرون على خطوط مختلفة في أشكالها ومضامينها وفي أقدميتها،فجزيرة العرب (مهد الساميين، ومنبت العروبة) مليئة وزاخرة بالمفاجآت قال:
والأبحاث التي قام بها الباحثون عن الخط العربي قبل الإسلام، لا تزال في مراحلها الأولى، ولا يمكن في نظري نضج هذه الأبحاث، والوصول إلى نتائج علمية مرضية إلا إذا قام المتخصصون بالتنقيب تنقيباً علمياً في جزيرة العرب كلها، وهذا ما يستغرق بالطبع وقتاً طويلاً، ولا يستبعد أن يتوصل المنقبون إلى معرفة أبجديات وأقلام قد تكون أقدم عهداً من هذه الأقلام التي تحدثت عنها، وقد يجدون أقلاماً أخرى جديدة تسمى بأسماء جديدة، قد تغير من هذه النظريات العلمية التي تلوكها ألسن العلماء في هذا اليوم. فقد عثر على نصوص يظهر أنها بقلم ثمودي في موضع (ينبع النخل الذي يبعد مسافة أربعين كيلو متراً عن (ينبع) كما وجدت كتابات بخطوط جاهلية، وبخط عربي من صدر الإسلام في (جبل سلع) عند المدينة، وفي (وادي العقيق) الذي لا يبعد كثيراً عن المدينة، وكذلك في (وادي رانونا) الواقع جنوب المدينة على مسافة ثمانية كم. حيث وجدت نقوش وصور حيوانات كذلك وهو ينكر على أولئك الذين يظنون أن خط الجزم كان قد انتقل من مكة أول ما انتقل إلى غيرها من المدن والنواحي، وإنما يرى العكس إذ يعتقد أنه قد يكون نشأ في مكان آخر وما من شك أنه اليمن) فالكُتاب في يثرب أكثر من كُتاب مكة؛ لذلك فقد كانوا يكتبون للرسول صلى الله عليه وسلم ويكتبون عقودهم ومواثيقهم. هذا (وأعود فأقول: إن من الخطأ مجاراة أهل الأخبار رأيهم في أن الكتابة العربية كانت قد نقلت أول ما نقلت إلى (مكة) ثم انتشرت منها إلى (يثرب) وإلى الأماكن الأخرى؛ إذ يروي أهل الأخبار أنفسهم أنه كان بيثرب قبل الإسلام رجال كانوا يقرأون، ويكتبون بهذا القلم، ومنهم من كتب للرسول. وأما ما ذكروه من أن الرسول طلب من أسرى (بدر) ممن لم يكن يستطيع فداء نفسه تعليم عشرة أطفال من أهل يثرب القراءة والكتابة في مقابل فك أسرهم، فليس فيه دليل على عدم وجود قارئين كاتبين بها وإنما فعل النبي ذلك لتكثير الكتابة فيها، ولنشر التعليم بين المسلمين) ويدعم رأيه هذا بما ورد في حديث تدوين القرآن عن أحد الخليفتين عمر أو عثمان رضي الله عنهما أنه قال: اجعلوا المملي من قريش، أو من هذيل) والكاتب من ثقيف بقوله: (وهو حديث لا صلة له بقلة أو بكثرة انتشار الكتابة في مكان ... ويضيف: ونحن لو أحصينا عدد من كان يكتب من أهل يثرب من الصحابة لما وجدناه يقل عن عدد كتاب الطائف قبل الإسلام بل هو فوقه كثير كما رأينا فيما سلف) ويؤكد ثقته بأن قلم الجزم قد وجد في اليمن رغم عدم وجود دليل مادي (كما يقول) حتى الآن إلا أنه يؤكد وجوده بقوله: (ولم يصل إلى علمي أن أحداً من الباحثين قد تمكن حتى الآن من الحصول على كتابات في العربية مدونة بهذا القلم الذي يكتب به، ولكن هذا لا يمكن أن يكون دليلاً على عدم استعمال أهل تلك البلاد له، فقد يجوز أن يكونوا قد استعملوه في أمورهم التجارية، وفي مراسلاتهم وأعمالهم الأخرى استعمال أهل مكة ويثرب له، إلا أنه لم تبق منه بقية بسبب كونه قد كتب على الأدم والمواد الأخرى السريعة التلف، فلم تبق منه بقية شأن كتابات أهل مكة ويثرب المكتوبة على هذه المواد؛ إذ لا يعقل عدم وصول هذا القلم إلى نجران، وإلى صنعاء، وإلى الأماكن التي وجدت النصرانية سبيلاً لها بينها، وقد كان النصارى يكتبون به، وهم من أهم العناصر التي أدخلته إلى جزيرة العرب .
ورغم أن القلم (الجزم) الذي دون به الوحي قد صار القلم الرسمي للعرب، ولعدد كبير من الشعوب الإسلامية، إلا أن المؤلف يرى أن هذا الخط لا يزال كغيره من الخطوط السامية يعاني من بعض نقاط الضعف ويعتوره القصور، بل إنه يفضل أن لو ظل المسند خط العرب إلى اليوم،فيقول: لم يعرف المسند الإعجام، ولو كتب له أن يكون قلم المسلمين ليسر لنا اليوم وقتاً ومالاً في موضوع الطباعة به .
والخلاصة أن القرآن الكريم قد كتب بخط (المسند) المطور الذي انبثق عنه خط الجزم، أو أن خط الجزم هذا الذي نكتب به اليوم وكتب به القرآن ما هو إلا امتداد لخط المسند وكلاهما اختراع عربي يمني. وأن القول بأن القرآن قد كتب بالخط النبطي أو الآرمي أو القرشي أو الشمالي ما هو إلا هراء وسفسطة ما له من سند علمي أو موضوعي، وإنما كان ذلك بهدف المكايدات والمماحكات الطائفية والسياسية ، التي كانت تسود الأجواء آنذاك!!.
أخيراً لا يصح إلا الصحيح!
وقبل أن نأتي على ذكر بعض النصوص والشواهد الدامغة وما أكثرها على عربية اليمن وعن عربية لغة اليمن وأنها لغة العرب أجمعين بل هي لغة القرآن وليس غير ذلك شيء.
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ها هو الدكتور جواد علي ذلك العالم الجليل الذي جمع ما لم يجمع غيره من تاريخ العرب قبل، بحس العالم، وأسلوب الناقد، وإدراك الفاحص الدقيق الأمين الذي لا يهمه سوى إظهار الحقيقة وتبيين سبيل الرشاد. قال:
وأما ما زعموه وحكوه عن أدوار تهذيب اللغة من انفتاق العربية بلسان إسماعيل إلى اختتامها بالدور العكاظي وهو آخر أدوار التهذيب اللغوي فأقول: إنها أقوال بنيت على أخبار صنعتها العواطف والمشاعر للعصبية الضيقة التي ظهرت بأجلى مظاهرها في صدر الإسلام، عصبية قبلية قديمة كانت بين يثرب ومكة، أو بين اليمن ومكة ازدادت شدة وقوة في الإسلام بسبب استيلاء قريش على الحكم، فاستغلت العواطف الدينية لتأييد هذه العصبية السياسية. يجعل قريش تاجرة جزيرة العربية وزعيمتها في اللغة ومواطن الفصاحة والبلاغة، ويجمع علماء اللغة الذين كانوا يأخذون ويعطون ويقررون كل ما هو سلس من الكلم، وما هو بليغ وفصيح، حتى جعلوا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين لسان قريش، والله تعالى يقول: «قُرْآنًا عَرَبِيًّا» ولم يقل قرشياً، والعربية عربية العرب جميعاً من أنصار ومهاجرين أهل بادية وقرى وقال الأزهري: وجعل الله عز وجل: القرآن المنزل على النبي المرسل (محمد صلى الله عليه وسلم) عربياً لأنه نسبة إلى العرب الذين أنزله بلسانهم وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صبغت لسانهم لغة العرب في باديتها وقراها العربية وجعل النبي صلى الله عليه وسلم عربياً لأنه من صريح العرب.
فلسان القرآن لسان العرب جميعاً من مهاجرين وأنصار لا لسان قريش خاصة، والنبي وإن كان من قريش لكنه كان عربياً من صريح العرب. ودعوته لم تكن دعوة ضيقة خاصة بقريش إنما كانت دعوة عامة جاءت إلى كل العرب قوم النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا جاء بلسانهم وبهذا جاءت الآية: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ» ثم إلى الناس عامة لحديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) ويفند الزعم بأن قريشاً قامت بتخير وانتقاء أفضل لغات العرب فقال: وأما ما زعموه من تخير قريش وانتقائها أفضل لغات العرب، حتى صار لسانها أعرب الألسنة فزعم بني على تحيّز (روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب دارا، وأحسنه جوارا، وأعربه ألسنة). وعلى خبر ينسب إلى قتادة نصه: كانت قريش تجتبي أي تختار أفضل لغات العرب حتى صار أفضل لغاتها لغتها. فنزل القرآن بها). وهو خبر لا زال يردد ويكرر ويوضع بين أقواس تارة، وبغير أقواس تارة أخرى، استشهاداً به، حتى وكأنه صار آية نزلت من السماء مع كون (قتادة) من الضعفاء، وقد تحدث عن (ابن عباس) مع أنه لم يلتق به، ونسب له أقوالاً شاعت بين الناس مع أنه لم يره ولم يسمع منه، فهل يؤخذ بعد بقوله على أنه حجة. أو كأنه آية نزلت من السماء؟ وهل نقبل خبره عن اجتباء قريش أفضل لغات العرب على أنه حجة نستدل بها على أدوار التهذيب؟!! ويضيف: ثم إن ما ذكروه من صفاء لهجة قريش ومن فصاحتها يعارضه قولهم بوجود (غمغمة) في لغتها. فقد قالوا: الغمغمة الكلام الذي لا يبين ومنه صفة قريش فيهم غمغمة.
كما يعارضه قولهم بوجود التضجيع في لغة قريش
غير أن الأمانة العلمية تقتضي منه أن يتابع الجديد في مسألة اللغة الفصحى وخطها الجميل الذي رست عليه فيقول: ورابني أن القول الجزم في أصل قلم أهل مكة هل هو من العراق أو من بلاد الشام يجب أن تكون للكتابات، فمتى عثرنا على كتابات مدونة بالعربية بالحيرة أو بالأنبار أو بالأماكن الأخرى من العراق تعود إلى الجاهلية وإلى صدر الإسلام، وعلى كتابات مثلها من حيث الزمن يعثر عليها في بلاد الشام وفي الحجاز، أو نجد أو أي مكان آخر من جزيرة العرب وقارناها بعضها ببعض، وطابقنا فيما بين خطوطها ورسم حروفها وما شاكل ذلك جاز لنا حينئذ القول بأصل قلم مكة والأقلام الأخرى المشابهة له، وبأصل اللغة التي دونت به ومزاياها، والأماكن التي كانت تتكلم بها. وعندئذ تحل مشكلة أصل اللغة العربية الفصحى أيضاً، وهي من أهم مشكلات تاريخ الأدب الجاهلي ولاشك.
وأما جمهرة المستشرقين المعاصرين الذين عنوا بدراسة تطور الخطوط السامية ومنشأ الخطوط العربية، فقد رأوا أن الخط العربي الذي دون به القرآن الكريم أخذ من الخط النبطي المتأخر الذي كان يستعمله النبط، وهو خط تولد من القلم الآرمي المتفرع من الفينيقية على رأي المستشرق (هومل) وقد استعمل في تيماء وبين النبط الذين كانوا يقيمون في أعالي الحجاز وفي سيناء. وقد عثر على كتابات دونت به في مواضع مختلفة من الحجاز واليمن .
وهنا نحاول أن نسقط حجة بل أساساً كبيراً من أسس أولئك الذين بنوا قلاعهم اللغوية وكانت لحمتها من الأوهام وسداها من خيوط العنكبوت، ونعني هنا بعد سقوط الأسطورة المتعلقة بكلمة (ثب) ومعناها المزدوج، والتي كانت دليلهم على عدم فصاحة لغة حمير ... إلخ. وبعد إسقاط ما له علاقة بأداة التعريف (أل) وأنها قد جاءت من اليمن لأنها وردت في النقوش اليمنية، كما رأينا بعض نقوش (قرية) المعروفة بقرية الفاو عاصمة كندة، ونعني هنا تلك الحجة الباقية ذات الصلة بأبجدية خط القرآن الكريم المعروف ب(خط الجزم). وفي البدء نقول: إن الجزم يعني القطع وقد سمي الجزم لأنه جزم (قطع من الخط المسند) ولكن هناك ما هو أهم فسنقوم بعرض حروف الخطوط الثلاثة: المسند، والآرامي، والنبطي في القرن الرابع بعد الميلاد، وهو القرن الذي كتب فيه نقش النمارة الذي اعتبره البعض خط الجزم هذا الذي كتب به القرآن الكريم والذي نكتب به اليوم، لنرى أيها أقرب إلى خط الجزم هذا، رغم أن لدينا أدلة أخرى تدل على أن هذا الخط أعني الجزم ما هو إلا نسخة مطورة لخط المسند، وأن اليمنيين هم الذين تفردوا بذلك سواء منهم من كان في اليمن أم أولئك الذين كانوا يعيشون في مدن الحجاز ونجد وغيرها شرقاً وغرباً وفي تخوم الشام والعراق ومصر!!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.