- د. عبد الله علي الكميم .. تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.وسأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن. وقال ابن كثير: وأنه (أي: إسماعيل) أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة. وكان قد تعلمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم بمكة من جرهم والعماليق وأهل اليمن من الأمم المتقدمة من العرب قبل الخليل. وقال الدكتور جواد علي: (والطبقة الثالثة من طبقات العرب على رأي أهل الأخبار هم العرب المستعربة (المتعربة)، ويقال لهم العدنانيون أو النزاريون أو المعديون وهم من صلب إسماعيل بن إبراهيم وامرأته (رملة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي) قيل لهم (العرب المستعربة) إلا أنهم انضموا إلى العرب العاربة، وأخذوا العربية منهم، ومنهم تعلم إسماعيل الجد الأكبر للعرب المستعربة العربية، فصار نسلهم من ثم من العرب، واندمجوا فيهم، وموطنهم الأول (مكة) على ما يستنبط من كلام الإخباريين، فيها تعلم إسماعيل العربية، وفيها ولد أولاده. فهي إذن المهد الأول للإسماعيليين). وقال في موضع آخر: (وأما ما زعموه وحكوه عن أدوار تهذيب اللغة ومن انفتاق العربية بلسان إسماعيل إلى اختتامها بالدور العكاظي. وهو أحد أدوار التهذيب اللغوي فأقول: إنها أقوال بنيت على أخبار صبغتها العواطف والمشاعر العصبية الضيقة، التي ظهرت بأجلى مظاهرها في صدر الإسلام قضية قبلية قديمة، كانت بين يثرب ومكة أو بين اليمن ومكة، ازدادت شدة وقوة في الإسلام بسبب استيلاء قريش على الحكم، فاشتعلت العواطف الدينية لتأييد هذه القضية السياسية بجعل قريش تاجرة جزيرة العرب وزعيمتها في اللغة وموطن الفصاحة والبلاغة، ومجمع علماء اللغة الذين كانوا يأخذون ويعطون ويقررون كل ما هو سلس من الكلم وما هو بليغ وفصيح، حتى جعلوا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين. لسان قريش، والله تعالى يقول: (قرآناً عربياً) ولم يقل قرشياً. - الباب الثاني عن نشأة الكتابة العربية الفصل الأول عن الكتابة العربية والتدوين بدأ التاريخ الحقيقي للإنسان حينما بدأ يفكر في نقل اللغة المنطوقة إلى رموز ذات دلالات تسطر على الحجر أو الشجر أو الجلود أو أي مادة أخرى. وقد كان لهذا الاختراع العبقري بعد استعمال النار واستنبات النباتات واستئناس الحيوانات أكبر الأثر في مجريات أموره، وفي مجال تقدمه في شتى المجالات، ولكن ما الذي دعا الإنسان إلى التفكير في ابتداع الكتابة؟ وأين تمت أولى هذه المحاولات؟ وهل كان هناك خط واحد اشتقت منه جميع الخطوط؟ أم أن كل مجتمع قد حاول بدوره أن يخترع خطه ترجمة للغته وخدمة لأغراضه وانسجاماً مع ظروفه؟ لا شك أن أكثر من دافع قد ساعد الإنسان على التفكير في اختراع الحرف، ولعل أهمها تطوره الفكري والحضاري وحاجته إلى تسجيل وتخليد أفكاره وخلجات نفسه وحاجاته ومتطلباته الحياتية. ولا شك أنها قد بدأت في الأماكن التي تواجد فيها الإنسان الأكثر تحضراً ونضجاً من غيره. وهنا تكتسب الحكمة المشهورة (الحاجة أم الاختراع) مدلولها الحقيقي بأجلى معانيه. أما فيما إذا كانت الخطوط، قد تفرعت من خط واحد هو الأب لكل الخطوط؟ أم أنها قد تفرعت من عدد من الخطوط كل منها كان يمثل مجموعة منحازة على حد تعبير البعض كالخطوط السامية التي انبثقت من خط واحد قد يكون (خط المسند) وهكذا. والأرجح أنها (أي خطوط اليوم) ما هي إلا نتيجة لخطوط تعود إلى القدم، والتي قد تكون بدورها ترجع إلى أب واحد لا نعرف متى بدأ ولا أين نشأ ولا كيف؟ إلا أننا نرجح أن يكون (المسند) هو الأقدم منها جميعاً لأسباب سبق ذكرها ومناقشتها هنا تأتي الإجابة على السؤال المطروح أمام المؤرخين والمفكرين والأدباء العرب جميعاً وهو السؤال المطروح والأبدي والذي لا يزال جوابه حائراً قلقاً ومقلقاً تقض مضاجع الكل!! فأقول: إنه من خلال المقدمات التي طرحت للعلماء الذين اشتغلوا في موضوع نشوء الخط عند البشر، والقلم الأول الذي تفرعت منه سائر الأقلام نظريات في تاريخ الكتابة وظهورها، وفي المراحل التي مرت عليها من أول عهد مرت فيه هو عهد الكتابة الصورية (Pictogaphy) إلى وصولها إلى مرحلة الحروف. وهذه النظريات مع أنها مرت بمناقشات وبحوث وتجددت حتى أصبحت معروفة عند علماء الخطوط لم تستقر حتى الآن، إلا أن ما وصل إلينا من نماذج كتابية أثرية لا يكفي لإبداء رأي مقبول أو رأي قاطع في أصل الخط، وفي منشئه، وفي الأمة التي أوجدته، ولا أعتقد أن في إمكان أحد القطع في ذلك ما لم يعثر المنقبون في المستقبل على نماذج عادية غير معروفة تكون كافية لإبداء رأي علمي في هذا الموضوع). ويعتقد الدكتور جواد: أن (اختراع الكتابة من الاختراعات الكبرى التي غيرت مجرى البشر، وهو اختراع لا تقل أهميته عن أعظم الاختراعات الكبرى التي غيرت مجرى البشر وهو اختراع لا يقل أهمية عن أعظم الاختراعات والاكتشافات والمغامرات التي قام بها الإنسان منذ يومه الأول حتى هذا اليوم. ومنها هروب الإنسان من أحضان أمه الأرض وعقوقه بحثها والتبطر بها، وذهابه إلى القمر ثم إلى ما وراء القمر من عوالم سابحة راقصة في هذا الذي نسميه السماء، ونحن لا نحفل اليوم بموضوع أهمية اختراع الكتابة بالنسبة إلى تقدم العقل البشري، ولا يعرف معظم الناس عنه أي شيء، ولا يحفلون به لأنه صار من القديم البائد، وكل قديم بائد يكتب عليه النسيان، وسيأتي يوم ولا شك ينسى فيه الجاؤون من بعدنا بمئات وبآلاف السنين. ويضيف: ولعلي لا أخطئ إذا قلت أن الإنسان قد فكر في الكتابة منذ أيامه الأولى أي منذ شعر بنفسه وصار يعبر عما في ذاته. فكر بها لأنه في حاجة إلى تسجيل أعماله، ومعاملاته وكلامه ليتمكن من تذكرها عند الحاجة وإلى مراجعتها، كما فكر في تسجيل حوادثه وشعوره وتأثره بالمرئيات الجميلة أو المحزنة، وبالخواطر التي كانت تمر عليه، وبكل إحساسه وعواطفه. وكان كلما تقدم عقله وتوسعت مداركه شعر بحاجته إلى تدوين أعماله وأحاسيسه فعمد إلى الطرق البدائية في التدوين، ثم طورها تدريجياً حتى وصل إلى مرتبة الكتابة الصورية. أي أنه استخدم الصور في مقام الألفاظ بأن يرسم صورة، فإذا رآها أحد عرفها وسماها باسمها، وعرفت هذه الطريقة بالكتابة الصورية. غير أن هذه الطريقة وإن عبرت بعض التعبير عن مشاعر الكاتب إلا أنها كانت عاجزة عن التعبير عن الأمور الروحية، وعن الألفاظ المعنوية، وعن الأمور الحسابية وغير ذلك) . وهو يرى أن الإنسان لم يقنع حينما وصل إلى هذا المستوى، بل استمر يطور من هذا المخترع العبقري. (لذلك لم يقنع بها بل أخذ يشحذ ذهنه لإيجاد طريقة أخرى مختصرة وبسيطة، ولها قابلية على رسم المعاني والأحاسيس، فأوجد من الكتابة الصورية اختزالاً نسميه: الكتابة المقطعية. أي أنه اختزل الصور وجزأها إلى مقاطع، وأخذ منها مقاطعها الأولى فسماها بأسمائها الأصلية، فوصل بذلك إلى مرحلة المقاطع، وتمكن بسليقته وبذكائه من تحليل الأسماء والألفاظ التي أراد تدوينها إلى مقاطع، وتدوين أي كلمة بمقاطعها التي تتألف منها. وقد سهلت هذه المرحلة عليه كتابة الكلمات التي تعبر عن الآراء، ومن تسجيل جمل وصفحات فيها ألفاظ مادية محسوسة،وألفاظ ليست بمسميات لأشياء مادية، وإنما هي تعبير عن معانٍ وإحساس، مثل: موت وحياة، ورأي وما شاكل ذلك، إلا أنه وجد أن هذه الطريقة لا تزال طريقة صعبة عسيرة، وأن على الإنسان أن يحفظ صور مئات من العلامات التي تعبر عن المقاطع، لتدوين رسالة، لذلك فكر في اختزالها أيضاً وفي غربلتها. وجزم المقاطع للوصول إلى الجذور الأساسية للألفاظ، وقد نجح في عمله هذا فتوصل إلى إيجاد الحروف، فبلغ بذلك النهاية وهي المرحلة الحقيقية للكتابة، وبذلك استطاع أن يدون كل ما يدور بخلده من آراء بحروف يضعها بعضها إلى بعض، ليولد منها الألفاظ التي يدون بعضها إلى بعض لتعبر عما يريد الكاتب تدوينه. وما ذكرته يمثل مجمل رأي العلماء في تطور الكتابة من الرموز والعلامات البدائية إلى بلوغها مرحلة الكمال والتمام. وقد أخذوا رأيهم هذا من الصور والنقوش التي عثر عليها في الكهوف، وعلى الصخور، وفي المقابر في مختلف أنحاء العالم، ولكن رأيهم هذا يتشعب ويتضارب عندما يتعرض للأصل الذي أوجد الحروف، والمكان الذي صار له شرف إيجاد الكتابة، وحل المشكلة المستعصية التي دوخت الإنسان، مشكلة تدوين ما يدور بخلده بيسر وسهولة. إذن فالكتابة من أعظم المبتكرات الحضارية في تاريخ الإنسان، وهي الوسيلة التي نقلت المجتمعات الإنسانية القديمة من ظروف عصور ما قبل التاريخ إلى عصور فجره المشرق، الذي لا يزال شعاعه ينير لنا الدروب في وقتنا الحاضر. وما الحضارة القائمة إلا ثمرة من ثمار ذلك الإبداع العظيم (ومما لاشك فيه أن الحروف الأبجدية لم تظهر مرة واحدة إلى الوجود، وإنما مرت بمراحل تطويرية، ولم يكن الفضل في تكاملها وتطورها يرجع إلى إنسان واحد، وإنما يعود إلى مجموعة من الناس تضافرت جهودهم عبر أجيال. وأن الكتابة التي نكتبها اليوم لم تخلق أو توجد لأول وهلة كما هي اليوم، بل إنها كانت ثمرة جهود مضنية ودؤوبة لأجيال من البشر، الذين يقدرون ويشكرون على إيصالها إلينا بهذه الصورة البديعة، وكان لاختراع الكتابة واختراع استعمال الورق أثر عظيم في رفع مستوى الجنس الإنساني أكثر من أي شيء آخر).وتحت عنوان فرعي الخط العربي قال الدكتور جواد علي: والعرب من الشعوب التي عرفت الكتابة ومارستها قبل الإسلام بزمان طويل كذلك، بل عرفوا الكتابة قبل الميلاد ببضع مئات من السنين، وقد عثر في مواضع من جزيرة العرب على كتابات دونت باليونانية وبلغات أخرى، وتبين من دراسة النصوص الجاهلية، أن العرب كانوا يدونون (ق.س) بقلم ظهر في اليمن بصورة خاصة، وهو القلم الذي أطلق عليه أهل الأخبار (القلم المسند) أو (قلم حمير). وهو قلم يباين القلم الذي نكتب به الآن، ثم تبين أنهم صاروا يكتبون في الميلاد بقلم آخر، أسهل وألين في الكتابة من القلم المسند أخذوه من القلم النبطي المتأخر، وذلك قبيل الإسلام على ما يظهر. ويسترسل: كما تبين أن النبط وعرب العراق وعرب بلاد الشام كانوا يكتبون أمورهم بالآرامية وبالنبطية، وذلك لشيوع هذين القلمين بين الناس حتى بين من لم يكن من (بني إرم) ولا من النبط كالعبرانيين الذين كتبوا بقلم أرمي إلى جانب القلم العبراني ولاختلاط العرب الشماليين ببني إرم. واحتكاكهم بهم، مما جعلهم يتأثرون بهم ثقافياً. فبان هذا الأثر في الكتابات القليلة التي وصلت إلينا مدونة بنبطية متأثرة بالعربية. والدكتور جواد لا يسلم من الوقوع في التناقض عند معالجته هذا الموضوع الخطير !! (ويظهر من عثور الباحثين على كتابات مدونة بالمسند في مواضع متعددة من جزيرة العرب ومنها سواحل الخليج العربي. بعض منها قديم وبعض منها قريب من الإسلام. إن قلم المسند كان هو القلم العربي الأصيل والأول عند العرب، وقد كتب به كل أهل الجزيرة، غير أن التبشير بالنصرانية الذي دخل جزيرة العرب، وانتشر في مختلف الأماكن أدخل معه القلم الآرامي المتأخر، قلم الكنائس الشرقية، وأخذ ينشره بين الناس، لأنه قلمه المقدس الذي به كان يكتب رجال الدين. ولما كان هذا القلم أسهل في الكتابة من المسند وجد له أشياعاً وأتباعاً بين من دخل في النصرانية وبين الوثنيين أيضاً لسهولته في الكتابة. غير أنه لم يتمكن مع ذلك من القضاء على المسند، إذ بقي الناس يكتبون به، ولما جاء الإسلام، وكتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم صار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين (وما هو قلم مكة هذا إذا لم يكن المسند؟!!). وحكم على المسند بالموت عندئذ فمات (الله يرحمه) ونسيه العرب إلى أن بعثه المستشرقون!! (لقد كان معروفاً لدى اليمنيين قبل أن يعرفه المستشرقون، ولا يزال البعض يقرأونه في بعض المناطق إلى اليوم!!). فأعادوه إلى الوجود مرة أخرى ليترجم لنا الكتابات العادية التي دونت به.وماذا عن كتابة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل اليمن بالمسند كما تشير رسالته التي أوردنا لها صورة في المقدمة؟!. ويستمر في سرد بعض العبارات المتناقضة فيقول: وهناك أقلام عثر عليها المستشرقون في أعالي الحجاز تشبه القلم المسند شبهاً كبيراً، لذلك رأى الباحثون أنها من صلب ذلك القلم ومن فروعه للشبه المذكور، ولأنها متأخرة بالنسبة له فلا يمكن أن تكون هي الأم. وقد سمي قلم منها بالقلم الثمودي نسبة إلى قوم ثمود، وسمي قلم آخر بالقلم اللحياني نسبة إلى لحيان، وعرف القلم الثالث ب(الكتابة الصفوية) نسبة إلى أرض (الصفاة) الأرض التي عثر بها على أول كتابة مكتوبة بهذا القلم. ويضيف د.جواد: وقد عرف علماء العربية القلم المسند، ومنهم حصل هذا القلم على اسمه، ولكنهم لم يعرفوا من أمره شيئاً يذكر. وكل ما عرفوه عنه أنه خط أهل اليمن القديم، وأنه خط حمير، وأن قوماً من أهل اليمن بقوا أمداً يكتبون به في الإسلام ويقرأون نصوصه. كما عرفوا القلم الذي كتب به القرآن الكريم، ودعوه (القلم العربي) أو (الخط العربي) حيناً و(الكتاب العربي) أو (الكتابة العربية) حيناً آخر تمييزاً له عن المسند. ولم يشيروا إلى أسماء خطوط جاهلية أخرى). (هذا هو الاعتراف وهو عين الحقيقة والصواب). وسأضطر إلى حشد الكثير من النصوص التي أوردها المرحوم (جواد علي) بكل ما فيها من تناقضات، كي أناقشها بعد استعراض بقية الآراء والنصوص الواردة في المراجع المتوفرة، في ضوء القرآن، وما كشفته الأبحاث والتنقيبات والدراسات الحديثة، وفي ضوء العقل والمنطق التطوري للإنسان. قال جواد علي: وقد تكلم (الهمداني) ومشايخه من قبله عن المسند كما أشار إليه (ابن النديم) وذكر أن نماذج منه كانت في خزانة (المأمون) غير أن علمهم به لم يكن مقنعاً على ما يظهر من نقولهم عنه، كما تحدثت عن ذلك في أثناء كلامي عن (الهمداني) ولم يكن لهم إدراك عن كيفية تطوره، وقد دعوه بالخط الحميري، وعرفوه بأنه خط مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال (أبو حاتم): هو في أيديهم إلى اليوم (باليمن). هذا ولم أجد في المؤلفات الإسلامية المعروفة في هذا اليوم ما يفيد بأن أحداً من العرب الإسلاميين كان له علم متقن بالعربيات الجنوبية، أو كان له علم بتاريخ العربية الجنوبية القديم، وفي الذي ذكره عن الخط المسند وعن لغات العرب الجنوبيين، وتاريخهم تأييد لما أقوله. ويواصل قائلاً: والعرب تسمي (الكتاب العربي) أي خطنا: (الجزم)، وذكروا أنه إنما سمي جزماً لأنه جزم من المسند، أي قطع منه، وهو خط حمير في أيام ملكهم، ولا أستبعد احتمال كون كلمة (الجزم) تسمية ذلك القلم في الجاهلية، وأما تفسير أهل الأخبار لسبب التسمية، فهو من نوع التفاسير المعروفة المألوفة عن أهل الأخبار، يضعونها حينما يجابههم شخص يريد معرفة سبب تسمية شيء بالاسم الذي عرف به. ودليل ذلك ما ذكره (البطليوسي) من أن أهل الأنبار كانوا يكتبون (المشتق) وأن أهل الحيرة كانوا يكتبون (خط الجزم) وهو خطهم، وهو الذي صار خط المصاحف والمشتق في تفسير علماء العربية من حروف الكتابة، ومعنى هذا أن خط أهل الأنبار كان متصل الحروف ممدودها، بينما غلب على القلم الحيري الشكل التربيعي الجاف ذو الزوايا للحروف. وقد تحدث الجاحظ عن الخط فقال: (وليس في الأرض أمة بها طرق أو لها مسكة، ولا جيل لهم قبض وبسط إلا ولهم خط. فأما أصحاب الملك والملكة والسلطان والجباية، والديانة، والعبادة، فهناك الكتاب المتقن والحساب المحكم، ولا يخرج الخط من الجزم والمسند المنمنم كذا كيف كان قال ذلك الهيثم بن عدي وابن الكلبي. فالخط العربي الجاهلي قلمان: جزم، ومسند، ولا ثالث لهما. المسند خط العربية الجنوبية، وخط من كتب بهذا القلم من بقية أنحاء جزيرة العرب، والجزم خط أهل مكة والمدينة وعرب العراق وغيرهم من العرب الشماليين. ويعتقد أن عرب العراق وكذا الآراميين قد استعملوا قلمين هما ما أسماهما (بالسطر نجيلي) أو الرهاوي، وكان النصارى يستعملونه أكثر، أما أهل الأنبار وأهل الحيرة فقد استعملوا إضافة إلى السطر نجيلي القلم الحيري وهو الجزم. والعلامة جواد علي لا ينسى أن يذكر ملخصاً لآراء ونظريات العلماء المسلمين في منشأ الخط فيقول: وللعلماء المسلمين مؤلفات في تاريخ الخط العربي وتطوره، ولهم نظريات وآراء في منشأ الخط، ومنها آراء تنسب إلى (ابن الكلبي) وهو في مقدمة علماء الأخبار في هذا الباب، وإليه يرجع أكثر من جاء بعده في رواية أخباره عن منشأ الخط، وعن كيفية تطوره حتى بلغ مبلغه هذا في الإسلام، ومنها آراء تنسب إلى غيره كابن عباس. ونستطيع تلخيص وجهات نظرهم عن منشأ الخط العربي في الملخصات الآتية: 1- كان منشأ الخط في اليمن ثم انتقل منها إلى العراق، حيث تعلمه أهل الحيرة، ومنهم تعلمه أهل الأنبار، ومنهم تعلمه جماعة نقلوه إلى الحجاز. فالأصل على رأي هؤلاء، هو القلم المسند، وكان كما يقولون بالغاً مبلغ الإتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف. 2- أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ، وكانوا قبل ذلك يكتبون بالمسند (المسند ما هو؟ إنه أبو الخطوط العربية كلها) سمي بذلك لأنهم كانوا يسندونه إلى (هود) عليه السلام. 3- أول ما ظهرت الكتابة العربية بمكة من قبل (حرب بن أمية) وقد أخذها من طارئ طرأ على مكة من اليمن، وقد أخذ ذلك الطارئ علمه بالكتابة من كاتب الوحي لهود. 4- أول من كتب بالعربية إسماعيل كتب على لفظه ومنطقه موصولاً حتى فرق بينها ولده هميسع وقيذر. 5- أول من وضع الكتاب العربي نفيس، ونضر، وتيماء، ودومة هؤلاء ولد إسماعيل، وضعوه موصولاً، وفرقه قادور بن هميسع بن قادور. 6- إن نفيس، ونضر، وتيماء، ودومة، بني إسماعيل، وضعوا كتاباً واحداً وجعلوه سطراً واحداً غير متفرق، موصول الحروف كلها ثم فرقه نبت، وهميسع، وقيذار، وفرقوا الحروف، وجعلوا الأشباه والنظائر. 7- كان قلم الجزم في نظر بعض العلماء أساس القلم العربي، وقد سمي بالجزم، لأن مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن حدرة، وهم من طي من بولان، سكنوا الأنبار واجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة، فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام. وقد اقتطع مرامر من الخط المسند خط الجزم لأنه جزم أي اقتطع ولذلك قيل له الجزم قبل وجود الكوفة فتعلمه منهم أهل الأنبار، وتعلمه منهم أهل الحيرة وسائر عرب العراق، وتعلمه من أهل الحيرة بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق، فتعلم حرب منه الكتابة، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتعلم منه جماعة من أهلها فلهذا أكثر الكتاب من قريش. 8- أول من وضع الخط العربي (أبجد وهوز وحطي وكلمن، وسعفص، وقرشت) وهم قوم من الجبلة الأخيرة، وقيل: إنهم بنو المحصن بن جندل ابن مصعب بن مدين، وكانوا نزولاً مع عدنان بن أد، فكان (أبجد) ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكلمن، وسعفص، وقرشت، ملوك بمدين، وقيل ببلاد مصر، فوضعوا الكتاب على أسمائهم، ثم وجدوا بعد ذلك حروفاً ليست من أسمائهم، وهي الثاء والخاء، والذال والظاء، والضاد، والعين، فسموها الروادف.