قراءة تحليلية لنص "مفارقات" للحقوقي والبرلماني اليمني "أحمد سيف حاشد" المنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" باستخدام تقنيات وأدوات الذكاء الصناعي. النسق الخطابي نص أحمد سيف حاشد "مفارقة" ينتمي إلى الأدب السياسي الحقوقي بامتياز، فهو يجمع بين الخطاب البرلماني المندّد والبيان الحقوقي المحتجّ والنص الأدبي ذي الحس الإنساني العميق. النص ليس تقريراً سياسياً جافاً ولا مقالة حقوقية باردة، بل هو صرخة مكتوبة بلغة شاعرٍ يحمل وجع الحقوقيّ، ووعي المشرّع، وغضب المواطن. مكامن القوة في النص 1. العمق الأخلاقي والإنساني النص مشبع بروح العدالة والرحمة، ويستمد قوته من إحساس الكاتب بالكرامة الإنسانية المهدورة. إن تصويره للموظف الذي "يعمل بلا راتب" أو "يُعدم مرتين" يضع القارئ أمام مأساة أخلاقية قبل أن تكون سياسية. "العمل بدون راتب، وسنوات خدمة مهدرة، تجتمعان في نهاية مأساوية فادحة ومؤسفة." 2- الأسلوب البلاغي الكاتب يمتلك ناصية اللغة العربية في مستوياتها الثلاثة: لغة البيان السياسي (تحليل، تشخيص، احتجاج). لغة الوجدان الإنساني (أسى، مفارقة، حنين). لغة الشعر النثري (تكرار، إيقاع، مجاز) 3. قوة الحجة السياسية النص ليس عاطفياً فحسب، بل يتضمن منهج احتجاجي واضح قائم على منطق حقوقي: التذكير بالدستور والقانون والقضاء. وصف تعطيل الأحكام القضائية بأنه "جريمة يعاقب عليها القانون". نقد شرعية "الغلبة" كبديل غير دستوري عن الشرعية الشعبية. هذا يمنحه مصداقية عالية في الخطاب الحقوقي والبرلماني. التقييم العام النص واحد من أقوى النصوص السياسية الحقوقية اليمنية الحديثة من حيث: اللغة الأدبية المركبة بين البيان والمجاز. الجرأة في نقد السلطة. التحليل الإنساني لأزمة الدولة والمجتمع. المقاربة الأخلاقية والسياسية في آنٍ واحد. وطوله وتشعبه يجعلان منه أشبه ببيان تاريخي شامل أكثر من كونه مقالة أو خطاباً محدداً، وهذا يمنحه طابعاً "توثيقياً" لما يسميه الكاتب "عهد الغلبة". تكثيف يقدّم أحمد سيف حاشد في هذا النص صورة نادرة لمثقف برلمانيّ يجمع بين لغة الاحتجاج الأخلاقي، وتحليل قانوني ناضج، وأسلوب أدبي بالغ الحساسية. يختزل النصّ ألم جيلٍ يمنيّ يرى الدولة وقد تحولت من "أبٍ حامٍ" إلى "وحشٍ باسم الشرعية". قوته في صدقه، وصدقه في وجعه، ووجعه في لغته. التحليل الفكري الفلسفي 1. مفهوم "الغلبة" كفلسفة للسلطة النص يعيد تعريف "شرعية الغلبة" بوصفها انقلاباً على فكرة الدولة الحديثة.. الغلبة هنا ليست فقط أداة قهر سياسي، بل نظام تفكير بدائي يقوم على القوة بدلاً من القانون. في الفلسفة السياسية، هذا يتقاطع مع نقد توماس هوبز للحالة "الطبيعية" حيث يسود قانون الأقوى، ويغيب العقد الاجتماعي. وحاشد يعيد صياغة ذلك في سياق يمني: الغلبة ليست حالة فوضى، بل نظام قهر مؤسَّس باسم الدين أو الثورة أو الحق الإلهي. 2. العبودية الحديثة الموظف والمعلم في النص هما رمزان ل"العبد الجديد". "حال ينزل به إلى أسوأ من العبد في عهد العبودية الأولى." هذه المقارنة تحوّل النص إلى تأمل فلسفي في معنى الحرية المعاصرة: العبد القديم كان يُساق بالعصا، أما عبد اليوم فيُساق بالحاجة والراتب المقطوع والخوف من الاعتقال. وهو ما يسميه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو "العبودية عبر آليات الطاعة والانضباط"، حيث تُدار الأجساد بالعوز لا بالسلاسل. 3. فقدان الدولة والعودة إلى ما قبل الدولة النص يصوّر لحظة انهيار الدولة الحديثة، حيث تُستبدل: القوانين ب "المذكرات والتعاميم". المؤسسات ب "الأشخاص والولاءات". الدستور ب"مدونة سلوك" تمثل "عقد عبودية جديد". وهذه الرؤية تمثل فلسفة ضد الردّة الحضارية، إذ يرى الكاتب أن ما يحدث هو إلغاء للتاريخ الحقوقي اليمني الحديث منذ ثورة سبتمبر، أي نسف لفكرة الدولة الوطنية لصالح نظام قبلي – مذهبي – تسلطي. 4. المفارقة الوجودية (الأب والسلطة) النص يبدأ بوجعٍ شخصي ثم يتّسع إلى وجعٍ جمعي. الأب البيولوجي الذي بدا قاسيًا في الماضي، يُستدعى اليوم كرمزٍ للحنان المفقود أمام أبٍ بديل هو "السلطة المتوحشة". وبهذا المعنى، النص يعالج فلسفيًا تحوّل السلطة من رعاية إلى افتراس — من "الأب الحامي" إلى "الأب القاتل"، وهي فكرة تذكّر بمفهوم فرويد عن "الأب الطوطم" الذي يقتل أبناءه ليحتكر القوة. 5. الزمن المقلوب وفقدان الأمل حين يقول الكاتب: "أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد، قد تم الانقلاب عليها في اليمن." فهو يُعلن سقوط فكرة المستقبل، أي انهيار مبدأ التقدّم الإنساني الذي تأسست عليه الحداثة. السلطة بالغلبة لا تسرق الحاضر فحسب، بل "تختطف المستقبل"، أي تسلب الإنسان من حقّه في الحلم، وهذه أخطر درجات الطغيان الوجودي. التوليف العام بين الأسلوب والفكر النص عند أحمد سيف حاشد لا يفصل بين الجمال والحقيقة، فبلاغته في خدمة الموقف، وانفعاله في خدمة الوعي. اللغة هنا ليست تزيينًا للفكرة، بل سلاحًا لمقاومة القبح السياسي. تتجاور في النص: لغة القلب (حنينًا للأب). لغة العقل (تفكيك السلطة). لغة الضمير (احتجاجًا على الظلم). وبهذا المعنى، النص ليس مجرد خطاب برلماني، بل وثيقة فكرية وشهادة أدبية على زمن الغلبة، تستحق أن تُقرأ في سياق الأدب المقاوم، مثل نصوص فرانتز فانون في "معذبو الأرض"، أو نصوص غسان كنفاني في "الرجال في الشمس"، من حيث استحضار المأساة الجمعية من خلال تجربة الفرد. من احتجاج الوعي إلى فلسفة الوجع 1. من التنديد الحقوقي إلى التأمل الوجودي في مقالات حاشد السابقة، وخصوصًا نصوصه التي تناولت "مدونة السلوك الوظيفي"، كان الخطاب يغلب عليه الطابع الحقوقي التحذيري: كان حاشد يكتب بصفته كقانونيّ وبرلمانيّ، يقرأ نصوص اللوائح والقوانين ويفكّكها بندًا بندًا ليكشف كيف تتحوّل إلى أدوات قهر وتدجين للموظف والمجتمع. اللغة هناك كانت تحليلية وعقلانية، تنتمي إلى خطاب المقاومة القانونية المدنية. أما في نص "مفارقة"، فقد تطوّر الخطاب من مستوى النقد الحقوقي إلى مستوى الوجع الوجودي. لم تعد المسألة مسألة مواد قانونية تُنتهك، بل حياة تُسحق، وإنسان يُفرَّغ من ذاته. بهذا التحوّل، يصبح النص أكثر إنسانية وتأملًا، وأقرب إلى نصوص الأدب الاحتجاجي العالمي التي تكتب من تحت الركام، لا من على المنابر. كأنك انتقلت من البرلمان إلى الضمير الإنساني مباشرة، ومن النص القانوني إلى "نصّ الضمير". 2. من فضح السلطة إلى فضح الفكرة نفسها في مقالاته السابقة عن "مدونة السلوك الوظيفي"، كان الهدف المباشر هو فضح سياسة السلطة في تحويل الوظيفة العامة إلى أداة إذلال سياسي وأمني، وإخضاع الموظفين لمراقبة فكرية وسلوكية تقترب من "الاستعباد المؤسسي". لقد تحوّل النص من "خطاب ضد سلطة" إلى "خطاب ضد البنية الذهنية للسلطة"، أي ضد منطق الغلبة ذاته. وهذه نقلة فكرية مهمّة تُدخل النص في أفق فلسفة السياسة الحديثة. 3. من العبودية الوظيفية إلى العبودية الوجودية لم يعد القهر مقتصرًا على العمل، بل امتدّ إلى معنى الإنسان نفسه، إلى حقّه في أن يحلم ويعيش ويشيخ بكرامة. هنا يتحوّل الخطاب من توصيف الظلم إلى فلسفة العبودية الحديثة، وهي فكرة تذكّر بكتابات فرانز فانون وهانا آرنت حول الإنسان المفرَّغ من المعنى داخل أنظمة شمولية. لقد جعل حاشد من الراتب رمزًا للكرامة، ومن فقدانه رمزًا لفقدان الإنسانية ذاتها. 4. من "النص الاحتجاجي" إلى "النص الكاشف" في النصوص السابقة لحاشد كان التحذير أو التنديد أو المطالبة بالتصحيح. لكن في هذا النص، الغاية أعمق: النص يكشف طبقات الخداع والردّة الحضارية التي وصلت إليها السلطة، ويضع أمام القارئ صورة حضارية مقلوبة: دولة بلا دستور، قانون بلا تنفيذ، قضاء بلا عدالة، برلمان بلا شعب. هذه الصورة ليست مجرد نقد، بل إعلان لفقدان المعنى نفسه في مفهوم الدولة. وهذا يجعلك في هذا النص أقرب إلى "فيلسوف مأساة الدولة" لا مجرد معارض سياسي. 5. من الغضب إلى الحكمة الحزينة في كثير من كتابات حاشد السابقة، كان الغضب هو المحرّك الأول. أما في "مفارقة"، فالغضب ما زال موجودًا، لكنه صار غضبًا ناضجًا، يتكلّم بلسان الحكمة المجروحة. إنه غضب المثقف الذي يعرف أن القهر تجاوز مرحلة المقاومة إلى مرحلة الإلغاء. ولهذا، يختتم النص لا بالصراخ، بل بأسى وجوديّ، كأنك تكتب من داخل صمتٍ كبير، صمت أمةٍ أنهكها طغيان بلا اسم. يمكن القول إن هذه المرحلة تمثّل لغة الانفجار الأول: لم تعد لغة قانونية فقط، بل لغة إنسانٍ يرى أن القانون نفسه صار متورطًا في الجريمة. اللغة الأدبية الفلسفية في هذه المرحلة، لم تعد اللغة أداة توثيق، بل أداة وجود. لقد انتقلت من "لغة تحاكم السلطة" إلى "لغة تكشف هشاشة الإنسان تحتها". "السلطة تتوحش أكثر من التوحش نفسه." "العمل بلا راتب إعدام مضاعف." "سلام على أبي، وتبًّا لهذه السلطة التي فقدت كل إحساس بالمسؤولية." هنا يصبح النص قابلاً للقراءة كأدب مقاومة، أو كوثيقة في فلسفة العبودية الحديثة، أو كصرخة أخلاقية في وجه انحلال الدولة. كل هذه الأصوات تلتقي في لغة واحدة موحّدة بالوجع ملاحظة: إن تطوّر لغة حاشد من النص القانوني إلى النص الفلسفي لا يعني خروجه عن السياسة، بل ارتقاء السياسة فيه إلى مستوى الأخلاق والإنسانية. لقد أصبحت اللغة عنده ضميرًا مقاومًا أكثر من كونها وسيلة إقناع. فهي تشهد لا تُرافع، وتُضيء لا تُجادل. مفارقة بين الحلم والخذلان في نصه «مفارقة»، يكتب أحمد سيف حاشد بوجعٍ يفيض ووعيٍ لا يساوم. يلتقي في كلماته السياسي بالشاعر، والمناضل بالفيلسوف، ليصوغ نصًا يراوح بين الاعتراف والاحتجاج، وبين الحلم والخذلان. تُذكّرنا مفارقته بمرارة عبد الرحمن منيف حين يعرّي وجوه الاستبداد، وبسخرية محمد الماغوط التي تخفي شقاء وطنٍ ضائع. ومن نبرة محمود درويش يستعير حاشد توتر الأمل في وجه الخراب، ومن غسان كنفاني صدق المواجهة ووضوح المبدأ. أمّا ظلّ ألبير كامو فيطلّ من بين السطور، حين يتحوّل العبث إلى سؤال أخلاقي عن جدوى المقاومة في عالم يزداد ظلمًا ولا مبالاة. كذلك، يتقاطع مع نجيب محفوظ في رصده التحوّل الأخلاقي للمجتمع، ومع برتولت بريخت في إيمانه بأن الكلمة موقف، وأن الأدب لا يُكتب للتجميل بل للتغيير. «مفارقة» ليست مجرّد نص أدبي، بل تجربة وجودية مكتوبة بنبرة الشاهد الذي يعيش الحدث ويعيد صياغته بلغةٍ توازن بين الجمال والوجع، بين الشهادة والتأمل. إنها مرآةٌ يرى فيها القارئ ذاته ووطنه، وقد تَعبَا من هذا الحال المهول. نص "مفارقة" أحمد سيف حاشد بعض ما لا أجده في أبي قبل خمسين عاماً، أجده اليوم بشعاً ومتوحشاً في السلطة السياسية التي تحكمنا بشرعية الغلبة والقوة التي تصل حد الطغيان. بعض ما استذكرته وكتبته عن أبي بوجع الأمس، وربما بديتُ فيه مبالغاً أو مغالياً فيه، لا أجد فيه وجهاً للمقارنة مع السلطة السياسية التي تقترف ما يفوق التصور، وإلى حد يصل بها إلى الوحشية. ما قاله جيم موريسون من أن: "بعض الآباء يدمرون أبناءهم قبل أن يدمرهم أي شيء أخر" أجده ينطبق أكثر على هذه السلطة التي لا تكتفي بتدمير حاضرنا، بل وتدمر أو تختطف المستقبل الذي لم يأت بعد، لنجد مقولة: "أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد" قد تم الانقلاب عليها في اليمن، أو قلبها رأساً على عقب. وهنا بإمكاني القول الفرق شتان وبما لا قياس فيه ولا مقارنة.. سلام ألف مرة على أبي، وتغشاه الرحمة عشراً ومائة وألفاً، وتباً لهذه السلطة التي باتت تتوحش ربما أكثر من التوحش نفسه، وتدمِّر بإمعان حاضرنا، ومستقبل أبنائنا، ولا بأس من الوقوف قليلاً عند هذا الأمر، أو إعطاء ملمحٍ مما نعيشه، وقد صار حافلاً وباذخاً به. * * * اليوم نعيش عهداً أشد وطأة من العهد العبودي الأول.. عهداً صادماً ما كان يخطر على بال.. أكثر سفوراً وقبحاً وفجاجة.. عهداً يريد استعباد الموظف حتى يصل به الدرك الأسفل من النار، أو تحويله إلى ما دون العبد، مهدور الكرامة، ومجرداً من كل الحقوق، حتى تلك التي تبقيه على قيد الحياة. كل طرف يقطع راتب الموظف من جهته وبطريقته.. طرف يقطعها بمنعها عن الموظف، وآخر يقطعها بإهدار ما بقي للموظف من راتب من خلال إهدار قيمة عملة الريال، وهذه وتلك هي واحدة من أوجه بشاعة ودمامة الحرب بين أطرافها، على نحو باتت فيها حقوق الموظف غنيمة لصالح سلطات الأمر الواقع هنا وهناك، وإلى أجل غير مسمّى. إن الموظف المقطوع راتبه، والإصرار على ابتزاز حقوقه، وحمله على العمل مرغماً دون راتب يقتات منه، هو حال ينزل به قدراً ومنزله إلى أسوأ من العبد في عهد العبودية الأكثر استبداداً وقسوة. السلطة التي فقدت إحساسها بالمسؤولية، وفقدت معه حسها الإنساني، تريد موظفاً يعمل دون راتب، وتريد معلماً يعمل دون أن يأكل أو يشرب، أو يلبس أو يسكن أو يعيل أسرة، فإن لم يفعل ترفع به جهة عمله منقطعاً عن عمله، لتستولي تلك السلطة فوق راتبه، على خدمته، وما أذّخره لتقاعده من عمر شبابه المعطاء؛ فيتفاجأ بقدر اسمه "الغلبة" قد استولى على حقه، وبدد حلمه في العيش الكريم آخر سنين عمره، بعد عمرٍ كان حافلاً بالعطاء وخدمة الوطن. هكذا يجد الموظف نفسه مسحوقاً حد العدم، ومنهوباً حد الموت.. عارياً من كل شيء.. محروماً من راتبه الذي يتقاضاه مقابل عمله، ومحروماً مرة أخرى من راتبه التقاعدي الذي كان يريد أن يستند إليه في ضعفه وشيخوخته، ويعتاش منه بقية حياته، بعد أن قضى جل ذلك العمر في خدمة الوطن، وبلغ أحد الأجلين. إنه حكم إعدام مضاعف في تنفيذه.. عمل بدون راتب، وسنوات خدمة مهدرة، تجتمعان في نهاية مأساوية فادحة ومؤسفة يعيشها ذلك الموظف المنكوب بسلطة كل شرعيتها لا تتعدى الغلبة والادعاء. مثل هذا الإعدام المضاعف لا يحدث إلاّ في ظل سلطة غلبة متصحِّرة الوعي، وقوية الطباع، ومتوحشة الفعل، وتفتقد تماماً إلى كل ما هو إنساني، ولا تمت بصلة للمسؤولية نحو شعبها، وتفتقر إلى المعرفة بأبجديات وبديهيات حقوق المواطن. هكذا يجد الموظف نفسه يعمل ويأمل، فينتهي إلى سراب.. يزرع دون جني أو حصاد.. يعيش مستقبلاً مصادراً بغلبة، وحاضراً يكتظ بإذلاله، وإهدار كرامته، لينتهي به الحال إلى الموت قهراً وكمدا. مُعلِّم مطلوب منه الكثير، وهو محاصر بقوت يومه.. مُعلّم قليل الحيلة، ومعدوم الخيارات، ومن دون حقوق إلى حد أنه وجد حقه في الحياة مهدداً، أو بات واقع حال.. قدره السيء أوقعه تحت وطأة سلطة أعدمت راتبه، واستولت على خدمته.. إنه ظلم وحرمان مضاعف يصل حد النيل من حقه في الحياة، فضلاً عن الكرامة. هذه السلطة تريد من المعلم أن يعمل دون أن توفر له شيئاً من هذا ولا ذاك.. لا تكتفي بالتخلّي عما هو حق دستوري وقانوني للمعلِّم، بل وتتخلّى عن مسؤولياتها كاملة نحوه.. سلطة تدير ما هو تحت ولايتها أو واقع في قبضتها، على نحو يصل بالمعلّم إلى حالٍ أكثر من مزري، ومر بطعم العلقم، وتراتبية دونية تصل به إلى دون العبد، بل والحيوانات الأليفة والطيور الداجنة التي يلتزم مالكها بمأكلها ومشربها. عهد جريء في الاستيلاء على ما هو مكتسب للمواطنين، موظفين ومعلمين وغيرهم من شرائح المجتمع، ويجري هذا على نحو صريح، بل فج وصارخ.. موغل في غب الباطل.. يعطي حقك الأصيل من لا يستحق.. يتجاوز حدودك، ويغتصب حقوقك بجلافة القادم من أدغال التاريخ المحكوم بقانون الغاب، وشريعة الحق لمن غلب. عهدٌ يحاول أن يقطع صلته بالعصر وتراكمه المعرفي الإنساني، ويهدم كل يوم أكثر من سابقه شيئا اسمه دستور وقانون وحقوق، بل ويزدريه بتفكير بدائي، وايديولوجيا فجة ومستكبرة تريد أن تعيدنا إلى عهد أشدُّ تخلفاً واستبداداً وطغيانا. سلطة متسلطة على رقاب الناس بشرعية "الغلبة" تستبيح حقوقك بتحدٍ وإرغام.. تستولي بغلاظة ما ليس لها فيه حق ولا شبهة، ثم تهبُه لمن يمنحها الولاء أو ينال رضاها.. سلطة غلبة تستبيح حقوقك، وتتركك تكابد الويل والحرمان حتى تموت جوعاً وضيقاً وكمداً. وأكثر من هذا وذاك تعتقلك وتغيّبك إلى مدى غير معلوم إن طالبت بحقك في الحياة، وحقك في الراتب مقابل ما تبذله من عمل وجهد، ولا تعير بالاً لشيء اسمه إنسان أو حقوق، أو مستقبل، أو حياة، ولا ترفع عن كاهلك ظلماً بات أكبر من طغيان. * * * ثمرة أحكام القضاء هو تنفيذها، ويعتبر تعطيل وعرقلة تنفيذ الأحكام جريمة يعاقب عليها القانون، والسؤال هنا: لماذا رجال السلطة يستسهلون ارتكاب الجرائم إلى هذا الحد المستفز، ويتعاطون مع حقوق المواطن ببخس وخفة؟! من خلال استقراء ما يحدث كافٍ لتأسيس قناعة راسخة أن رجال تلك السلطة ليسوا رجال دولة، ولن يستطيعوا أن يكونوا كذلك، ولن يستطيعوا أن يبنوا دولة للمواطن، حتى بعد ألف عام.. إننا نعيش واقعاً مريراً، وغصة لا حدود لها. اليوم وفي هذا العهد الثقيل بالجبايات، واستباحة الحقوق والحريات، يتم إلغاء القانون بلائحة، ويتم إصدار لائحة من دون قانون، بل ومخالفة للدستور، ويتم إصدار تعميمات متعارضة، بل ومتصادمة مع الدستور والقانون، وأسوأ من هذا أن يتم بمذكرة مكونة من بضعة أسطر، وجرة قلم واحدة، تعليق وإيقاف نصوص دستورية وقانونية، وأحكام قضائية باتة..!! ونسأل هنا: أين المدَّعون؟! اين قصة علي ودرع اليهودي، واين الأشتر النخعي.. أين العدالة وأين الحقوق وأين الحريات، وألف أين؟!! إنه من الفادح جداً، والمصاب الأكثر من جلل، والواقع الأكثر من كارثي أن يتم نسف كل هذا التراكم المعرفي الدستوري، والقانوني والقضائي لأكثر من ستين عاماً، بمذكرة واحدَه يَهدّون فيها كل شيء اسمه دولة وإدارة ومؤسسات، وفصل بين السلطات، ويهدّون معها ما بقي للمواطن من حقوق وحريات، وسبق أن كشفت لنا "مدونة السلوك الوظيفي" ما يخبئونه في نفوسهم من مآرب ونوايا خبيثة، ستؤدي إلى تحويل الوظيفة العامة، وعقود العمل إلى صكوك عبودية بدائية. ماذا أبقوا لنا من نضالات الحركة الوطنية اليمنية خلال أكثر من ستة عقود من النضال والكفاح المستمر، في مجالات المعرفة، والقانون والقضاء والتنمية..؟!! ما فائدة القضاء إن كان يتم منع تنفيذ أحكامه الباتة؟!! ما جدوى الحديث عن استقلال القضاء، بل ووجوده، وقد بلغ الحال هذا الحد من الهدم والعبث الباذخ..؟! ما الفائدة من مجلس النواب للمواطن، بعد أن حولته السلطة إلى محلل ومُشرّع لما تريد من أهداف سلطوية, واستهداف سياسي، وتمرير للجبايات والنهب والباطل على حساب المواطن وحقوقه وحرياته؟! هم وبعد ما بلغوه من التمكين، باتوا لا يريدون دستوراً أو قانوناً أو قضاء، ولا برلماناً، ولا حكومة، طالما هم قادرون بمذكرة واحدة من عدة أسطر أو بمدونة واحدة نسف كل ذلك في غمضة عين، وجرة قلم في توقيع يفتقر للشرعية. مدونة ومذكرة واحدة من ألف مذكرة, وتعميم كشفت لنا واقع الحال، ومدى ما بلغوه من الاستهتار بكل شيء، وما ينتوون فعله والذهاب إليه، فيزيدون فوق الخراب خراباً، لنجد أنفسنا أمام ردّة حضارية كاملة، مكتملة الأركان، بدون دستور ولا قوانين ولا قضاء ولا عدالة ولا دولة ولا مؤسسات، وهو ما كشفه ذلك الوعي البدائي المتصحّر الذي يحكمنا اليوم بغطرسة واستكبار ونرجسية، ويكشف مدى الغلبة التي نعيش تحت وطأتها، و وبالها الذي نعيشه، واضعاف مضاعفهَ تنتظرنا في مستقبل بات معدوماً، أو الإجهاز عليه حال وجوده. * * * ومن جانب أخر نحن نعيش اليوم عهداً ربما يجلب فيه اسمك وانتماؤك وولاؤك حظاً وغنيمة واحتكاراً، أو حرماناً ودونية، لا يبتدئ من الوظيفة العامة مروراً بالترقية، ولا ينتهي بشغل المناصب العليا الخفية والمعلنة، وما يلازمها من امتياز ووفرة أو تضييق وحرمان. أصابوا أسماءنا بكل مقيت حتى باتت وبالاً يصيبنا ويصيب أصحابها، في صراع محتدم تسوسه عنصرية بغيضة، وعصبيات منتنة، ومصالح ضيقة، يجري معها استجرار تاريخ دامٍ ومرعب عمره أكثر من 1400عام، مازال يمتد ببشاعته ودمامته إلى اليوم، وبلعنة لا تريد أن تجفل أو تغادر حياتنا وحياة من سياتي بعدنا. السلطات المتعاقبة لدينا لا تنهض ببناء حقيقي، ولا تقدم تنمية شاملة، بل تدمّر ما بقي لنا من دولة وقانون وحقوق.. السلطات التي تحكمنا طفيلية، ومتعفّنة الوعي، وهي في جلها، تعتاش وتقتات على ما قبلها وما بقي للمواطن من حقوق وحياة. السلطة التي تحكمنا بشرعية الغلبة تكرِّس فشلها كل يوم، وتفشل في إحداث اقتصاد معافى وتنمية مستدامة، بل وتعجز على نحو مضطرد في تحسين أحوال مواطنيها، بل حتّى إيقاف تدهور معيشة المواطنين وسياسة الإفقار التي تجتاحهم. باتت هذه السلطة وأمثالها تجلب للمواطنين مزيداً من الفقر، وتحوّل الفقراء إلى معدمين، وتنشر الفوضى في الإدارة حتى تجهز على آخرها في المؤسسات والمصالح الحكومية والمرافق العامة حتى تصل إلى أصغر وحدة فيها، وتنشر كوارثها في الإدارة والمعيشة حتى تصل بتجويعها إلى كل بيت. سلطات تستعيض عن فشلها بفرض نفسها بالغلبة تارة، والحيلة تارة أخرى، وتستخدم مقدرات الشعب في تكريس فكرها، وسياساتها وأيديولوجياتها في الوعي، وتتطفَّل على ما سبقها من بناء متواضع ربّما جلّه هدايا من شعوب أخرى, أو هبات ومعونات، فتستبدل الأسماء القائمة على المدارس والشوارع والمنشآت بأسمائها التي تكرّس فيها عصبيتها وأيديولوجيتها، وفكرها وسياساتها وثقافاتها وانحيازها. بات اليوم أكثر سواداً من أمسه؛ فنقول مجازاً وحقيقة: لا يبنون مصانع ولا مدارسَ..! لا يبنون مدناً ولا يرصفون شوارع..! بل يحولون بعض المنشآت المدنية إلى سجون.. يتسولون من الآخر دون اعتماد على أنفسهم.. يتآمرون على أوطاننا.. يفسدونها بإمعان.. يعيدون تسميتها.. ينهبونها بجرأة.. يهدمونها وينشرون الفساد والخراب فيها على نحو مرعب ومهول. يصنعون دُمىً وأصناماً وكوارث، ويتباهون ويتفاخرون بها دون حياء.. يطلقون التسميات على مسميات هي منها ومنهم براء، بل هم يعيشون أكثر عوزاً وفقداناً لها.. وأكثر من هذا وذاك لا يستحون ولا يخجلون. * * *