قراءة تحليلية من ابعاد وزوايا مختلفة لنص أحمد سيف حاشد "قادة وقوادون" المنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر"، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. الكلمة في مواجهة الفساد والاستبداد – نص «قادة وقوادين» للبرلماني أحمد سيف حاشد يأتي في سياق تطور طبيعي لمشروعه الفكري والإنساني، الذي ظلّ منذ بداياته يشتبك مع قضايا السلطة والضمير والكرامة، ويمزج في خطابه بين الوعي النقدي والالتزام الأخلاقي. – "حاشد" منذ كتاباته المبكرة في الصحافة، مرورًا بتجربته البرلمانية والحقوقية، ظلّ وفيًّا لخطٍّ واحدٍ لا يحيد عنه وهو مقاومة الفساد والاستبداد بالكلمة والفعل، وتفكيك بنية الخضوع التي تُفرغ الإنسان من حريته. – النص لم يعد مجرد صوت احتجاجي غاضب، بل أصبح صوتًا تأمليًا يقرأ المأساة في جذورها الوجودية والأخلاقية. – تتبلور في نص «قادة وقوادين» فلسفة "حاشد" في الكتابة؛ وهي إن النص لا يكون صادقًا إلا إذا كان شاهدًا ومقاومًا في آنٍ واحد.. – الكلمة هنا هي سلاحًا معرفيًا، يُعرّي به "حاشد" فساد الواقع، ويبحث في الوقت نفسه عن إمكان الخلاص عبر الإنسان ووعيه. – النص في جوهره بيان ضد التزييف السلطوي، وضد انقلاب المعاني الذي يجعل من "القوّاد" قائداً، ومن الانتهازية منهجاً للترقي. وهو بذلك يشترك مع خطاب المفكرين الذين درسوا كيف تُفسد السلطة الأخلاق والوعي. – نص «قادة وقوادين» يندرج في تراث النقد الأخلاقي للسلطة، لكنه يحمل بصمة يمنية وعربية خاصة.. هو لا يستعير خطاب الفلاسفة بل يعيد إنتاجه في سياق واقعي قاسٍ، حيث الفساد ليس فكرة بل حياة يومية. – من حيث اللغة، يواصل "حاشد" ما بدأه في نصوصه السابقة من تفجير اللغة اليومية وإعلائها إلى مستوى الخطاب الوجودي.. لغته لا تهادن، ولا تبحث عن الزخرف، بل تنبع من صدق التجربة ومن احتكاكها بالواقع السياسي والاجتماعي القاسي. – النص يمثّل حلقة مركزية في مشروع "الكتابة المقاومة" عند حاشد، المشروع الذي يجعل من الأدب شاهدًا على الانتهاك ومُنذرًا بالكارثة. – حاشد لا يكتب من موقع المراقب، بل من قلب الجرح، حيث تختلط التجربة الشخصية بالهمّ الجمعي، وحيث تتحوّل الكتابة إلى فعل شهادة ومساءلة ومسؤولية تاريخية. – يمكن النظر إلى نص «قادة وقوادين» لا كقطعة نثرية فحسب، بل كوثيقة فكرية وأدبية تنتمي إلى ما يمكن أن نسمّيه أدب المقاومة؛ الذي يُعيد تعريف القيادة، ويُذكّر بأن المجتمعات لا تنهض إلا حين يعلو صوت الوعي على ضجيج الولاء، وحين يُستعاد المعنى في زمنٍ تُهدر فيه القيم. *** وجع القيادة المفقودة في النص – يحمل نص "قادة وقوادون" نبرة وجودية حادة، خاصة عندما يصف مصير القادة المخلصين الذين "حطمهم الفاشلون" وانتهوا إلى "الجنون والضياع"، ليتركوا عالماً "من الفاشلين". هذه النبرة السوداوية "تجاه فشل النماذج النبيلة تذكر ببعض أفكار الوجودية التي تتناول العبثية. – يهاجم "حاشد" في النص منظومة الفساد بجرأة نادرة وبلغة قاسية لا تعرف المواربة. – النص شهادة أدبية وفكرية صادقة على أزمة القيادة والفساد في واقع الكاتب. – قوة النص تكمن في صدقه العاطفي، وبلاغته اللغوية، وجرأته في المواجهة. – من الناحية الأسلوبية، يجمع نص حاشد بين الذاتية العاطفية والقسوة النقدية. فهو ليس مقالاً صحفياً تقليدياً، بل هو أشبه ب"مدونة ثائرة" يمزج فيها بين تداعياته الشخصية ونقده السياسي. – هذا النوع من النصوص يقترب من الأسلوب اللاذع والشعبي الذي استخدمه بعض الكتاب المعاصرين للنقد، ولكنه يتفوق عليهم في عمق الشعور بالمسؤولية الأخلاقية التي يدفعها الكاتب ثمناً باهظاً. – النص مكتوب بلغة صريحة ومباشرة تنبع من عمق التجربة، وتعبّر بصدق عن مشاعر الغضب والإحباط، لكنها لا تخلو من ومضات أمل. – هذا الصدق العاطفي يمنح النص قوته وصداه الإنساني، ويجعله قريبًا من القارئ الذي يشارك الكاتب وجعه وتجربته وموقفه. – من الناحية الأسلوبية، يوظّف الكاتب لغة جزلة وعميقة، ثرية بالصور البلاغية والتشبيهات القوية التي تنقل حالته الشعورية بوضوح، وتضاعف التأثير النفسي والمعنوي للنص المليء بالمفردات التي تعكس شدة انفعاله وغضبه، ويخلق هذا التعبير المشحون حالة من التعاطف أو الصدمة لدى القارئ، ويسلط الضوء على عمق المشكلة. – اختيار حاشد أو استدعائه لشخصيات مثل أحمد صالح عليوة وعبد الرقيب ثابت كنماذج للقائد النزيه يضفي على النص بعدًا واقعيًا وملموسًا، ويؤكد أن الكاتب لا يتحدث عن المثاليات المجردة، بل عن قيم وتجارب متجسّدة في أشخاص عاشوا هذه المبادئ. – نص «قادة وقوادين» لا يكتفي بوصف المأساة، بل يقدّم مشروعًا ضمنيًا لإعادة تعريف القيادة كقيمة إنسانية لا كأداة سلطة، مما يجعل النص وثيقة فكرية وأدبية تُعبّر عن نضج التجربة وامتدادها في فضاء الأدب المقاوم عربيًا وإنسانيًا. *** مقاربات فكرية مع النص الكاتب والبرلماني أحمد سيف حاشد يجمع في النص بين الروح الكواكبية في نقد الاستبداد، واللغة الأدبية الصادمة التي تقترب من أدب المقاومة والسرد الذاتي، والرؤية الأورويلية لطبيعة السلطة الفاسدة وآلياتها في تشويه الوعي. – يتموضع النص ضمن أدب النقد السياسي – الأخلاقي، والاجتماعي العميق الذي يجمع بين التجربة الشخصية والتأمل الفلسفي، ويقارب أزمة القيادة من زاوية أخلاقية ووجودية في آنٍ واحد. – هذا النمط يذكّر بكتابات جورج أورويل، وألبير كامو، وعبد الرحمن الكواكبي، ومالك بن نبي، حيث تتلاقى القضايا الأخلاقية بالسياسية، والفكر الوجودي بالمعاناة الواقعية. عربيا – في النص يتشابه موقف حاشد في وصفه لانتشار الفساد مع ما طرحه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد"، فالكاتبان يتفقان على أن الاستبداد والفساد لا يقتصران على الحاكم، بل يتحولان إلى منظومة متكاملة تُهلك أخلاق المجتمع وتقتل إرادته.. أما وجه الاختلاف هو أن أسلوب الكواكبي أكثر تحليلا، بينما نص حاشد يعبر عن تجربة شخصية مباشرة مع الفساد. – حاشد يصف الفساد بأنه "تيار جارف" و"منظومة قوية محمية بالسلطة"، وهي ذات النظرة الكواكبية التي ترى الاستبداد يتحول إلى حالة مرضية عامة، غير أن الاختلاف، إن نص حاشد يتميز بكونه انفعالا مريراً تجاه واقع معاصر، فيما الكواكبي يقدم تحليلاً تاريخياً وفلسفياً أعمق لآليات الاستعباد وتجذره. الكواكبي يكتب من موقع المفكر الإصلاحي الباحث في الأسباب، أما حاشد فيكتب من موقع الشاهد الميداني والفاعل السياسي، فيجعل اللغة أكثر حرارة وتجربةً واحتجاجاً. – الكواكبي يرى أن الاستبداد أصل كل فساد، وأن الأمة التي تطيع المستبد تفقد ضميرها ووعيها. وهذا ما يكرره حاشد بأسلوبه الخاص حين يصف كيف يُحوَّل المواطن إلى كائن منزوع الإرادة بفعل فسادٍ مُمأسس تحميه السلطة، غير أن حاشد يضيف بعدًا شخصيًا معاصرًا إلى فكرة الكواكبي، فيصف تجذّر الفساد في مفاصل الدولة الحديثة لا بوصفه طغيان الحاكم فحسب، بل تحالف السلطة والجهل والمصلحة في منظومة مغلقة. – التشابه مع طه حسين في كتابه "المعذبون في الأرض" يكمن في روح النقد الاجتماعي والسياسي والدفاع عن المظلومين. طه حسين يتحدث عن "المعذبين" بسبب البؤس والجهل، بينما نص حاشد يتحدث عن "المعذبين" بسبب الفساد والاستبداد، غير أن الاختلاف أن طه حسين كان ينتقد من موقع المثقف والأكاديمي، بينما حاشد يكتب من موقع البرلماني والمواطن الذي عاش داخل المؤسسة وبات شاهدا عليها من داخلها. – يتشابه نص حاشد مع مفهوم "أدب المقاومة" عند كنفاني حيث أن النص ليس مجرد وصف، بل هو فعل مقاومة بالكلمة ضد منظومة الفساد. اللغة الحادة والصور الصادمة. – يتشابه حاشد مع محمد الماغوط (في النثر الشعري) حيث يستخدم كلاهما لغة يومية ولكن في صياغة شعرية مليئة بالمفارقات والصور الكابوسية، غير أن الاختلاف سخرية الماغوط أكثر مرارة وانزياحاً، بينما سخرية حاشد مباشرة وغاضبة. عالميا: – يصور حاشد كيف تقوم "منظومة الفساد" ب "تحويلنا إلى قفازات، ودُمى بلا وعي ولا إرادة". هذا يتطابق تماماً مع تحليل نعوم تشومسكي (نقد الدعاية والسلطة) في كيفية استخدام السلطة ل "تصنيع الموافقة" وتسليع الإنسان وسلب إرادته. – الاختلاف هو أن تحليل تشومسكي أكاديمي وبارد، يعتمد على الوقائع والأمثلة التاريخية، بينما نص حاشد هو صرخة من قلب التجربة. – آلية إلقاء اللوم من الفاسد على المظلوم في نص "حاشد" هي ذاتها طريقة «التحكم في العقول» التي تحدّث عنها أورويل ب«الواقع المزدوج» و«اللامنطق» في عالمه الروائي. – الفرق الجوهري هو أن أورويل رسم رؤية مستقبلية متشائمة لنظام شمولي متخيَّل، بينما يصوّر حاشد هذا الاستبداد كواقع ملموس يعيشه في سياق عربي معاصر.. – أورويل يعبّر عن الانحدار السياسي عبر الرمز والأسطورة، بينما حاشد يستعمل لغة الواقع المباشر، بلغة جريحة وصريحة تنتمي إلى سيرة وطن أكثر من خيال رمزي. – يتقاطع نص حاشد مع رؤية جورج أورويل حيث تتحول الثورة إلى منظومة قهر جديدة، ويتبدل القادة إلى طغاة يشبهون من ثاروا عليهم. يُفكّك حاشد، مثل أورويل، آلية تحول السلطة إلى فسادٍ بنيويٍّ يلتهم القيم الثورية، غير أنه لا يكتفي بالسخرية كما فعل أورويل، بل يستدعي الأمل عبر استحضار نماذج القادة النزهاء، ليقول إن النقاء لم يمت بعد، وإنّ القيادة الأخلاقية ممكنة مهما كانت نادرة. – في نص حاشد تمرد مشابه في جوهره مع تمرد كامو في رفض السلطة التي تقتل المعنى والوعي، غير أن وجه الاختلاف أن تمرد كامو فلسفي وجودي ينبع من عبث الوجود، بينما تمرد حاشد واقعيّ اجتماعيّ ينبع من أخلاق المقاومة والتجربة السياسية اليومية. – مفهوم غرامشي للمثقف العضوي هو الذي ينخرط في واقعه ومجتمعه، ويقود بالوعي لا بالهيمنة، وحاشد يتفق مع غرامشي في مضمار الوعي. عند حاشد تتحوّل "القيادة الواعية" إلى فعل إنقاذ وطني ضد "قيادة القوادين"، وعند غرامشي هي فعل مقاومة ضد الهيمنة الثقافية للطبقة الحاكمة. – حاشد لا يبحث عن «المدينة الفاضلة» كما هي لدى إفلاطون، بل عن الفضيلة الممكنة في واقعٍ موبوءٍ بالفساد، أي أنه ينتقل من المثال إلى الواقع، ومن النظر إلى التجربة. فالقائد عنده ليس نبيًا ولا ملاكًا، بل إنسانٌ يخطئ ويصيب، لكنّ وعيه ونزاهته يمنعانه من السقوط في المستنقع الذي يغرق فيه الآخرون. – نص حاشد يبدو في كثير من عباراته نقدًا أخلاقيًا ضمنيًا لميكيافيلية العصر الحديث، إذ يرى أن الدولة التي تبنى على الفساد لا تحميها القوة بل تدمّرها من الداخل. فبينما ميكيافيلي يُبرّر الوسيلة بالغاية، يصرّ حاشد على أن الغاية لا تنفصل عن نقاء الوسيلة، وأن فساد الوسيلة يلوّث الغاية مهما بدت نبيلة. – الوعي في نص حاشد ليس مفهومًا فلسفيًا تجريديًا، بل فعل مقاومة، وموقف أخلاقي من العالم. إنه «التزام وجودي» بالمعنى السارتري، لكنه يكتسب في نصه روحًا عربية أصيلة تنبع من تجربة سياسية وشعبية وثورية. *** مقاربات تحليلية للنص – يرى الكواكبي أن الاستبداد أصل كل فساد، وأن الأمة التي تطيع المستبد تفقد ضميرها ووعيها. وهذا ما يكرره "حاشد" بأسلوبه الخاص حين يصف كيف يُحوَّل المواطن إلى كائن منزوع الإرادة بفعل فسادٍ مُمأسس تحميه السلطة، غير أن حاشد يضيف بعدًا شخصيًا معاصرًا إلى فكرة الكواكبي، فيصف تجذّر الفساد في مفاصل الدولة الحديثة لا بوصفه طغيان الحاكم فحسب، بل تحالف السلطة والجهل والمصلحة في منظومة مغلقة. – يقدِّم أحمد سيف حاشد في نصه «قادة وقوادين» تجربة نثرية تنطلق من الذات المفكرة إلى الفضاء العام، في مزيج من الاعتراف والتأمل والاحتجاج. – النص ليس مجرد توصيف لأزمة القيادة والفساد، بل هو بيان أخلاقي وفلسفي يتساءل من خلاله الكاتب عن جوهر القائد الحقيقي، وعن معنى السلطة حين تُفرغ من قيمها وتتحول إلى أداة استعباد. – في هذا النص تتجلّى روح الكاتب الثائرة التي لا تهادن الزيف، بل تضع نفسها في مواجهة القبح العام، وتبحث في الركام عن شظايا ضوء. – هذه النزعة تكشف عن وعي نقدي وجودي شبيه بما نجده لدى مفكرين من طينة جان بول سارتر وألبير كامو في نزعتهم إلى مساءلة السلطة والعبث، ولكن مع حضور محليٍّ نابض يخصّ اليمن ووجعها. – نص "حاشد" يبدأ من الذات الرافضة، تلك التي تقول: «لست من يعجب بقائده بسهولة»، لتعلن مبكرًا موقفًا ضد التقليد وضد الانقياد. هذا الافتتاح يقارب في روحه افتتاحيات نيتشه في «هكذا تكلّم زرادشت»؛ فكما دعا نيتشه إلى تجاوز الإنسان المطيع نحو الإنسان الأعلى، يدعو حاشد إلى تجاوز القائد المزيف نحو القائد الذي يستحق اسمه. غير أن حاشد لا ينطلق من فلسفة القوة النيتشوية، بل من أخلاق المقاومة والضمير، ومن تجربة واقعية تجرّحها الخيبات. – يتحوّل النص سريعًا من التأمل الفلسفي إلى لوحة اجتماعية قاتمة، يرسم فيها الكاتب مشهد السلطة الفاسدة التي صعدت على أكتاف الصمت. في عباراته مثل «يتم فرض الفاسدين علينا كقادة ورئاسة وإدارة» و«صار قوادو الفساد قادة» يتخذ الخطاب بُعدًا سياسيًا ساخرًا يذكّر بلغة جورج أورويل في روايته مزرعة الحيوان، حيث يتبدل موقع الخائن إلى زعيم، والضحية إلى متهم. لكن حاشد لا يلجأ إلى الرمزية الروائية، بل إلى نثر صريح متفجّر بالإدانة، يعتمد الإيقاع التكراري والجمل القصيرة المكثفة لتصوير الانهيار الأخلاقي. – في النص خصص الكاتب مكانًا واسعًا للذاكرة وللنموذج الإنساني النقي. في حديثه عن القائد أحمد صالح عليوة، يبدو النص أقرب إلى مرثية وطنية أو أنشودة للقيادة المفقودة. وهنا يتقاطع صوت حاشد مع ما نجده عند عبد الرحمن منيف في «الآن هنا» و«شرق المتوسط»، حيث يصبح القائد الشريف ضحية بنية الاستبداد، ويُنفى الضوء ليبقى العتمة هي الحاكمة. غير أن حاشد لا يكتفي بالرثاء، بل يوظّف التجربة الشخصية لفضح منظومة التدمير الممنهج للكفاءة في المجتمعات المأزومة بالفساد والولاء الأعمى. – هنا تتبدّى ملامح الفكر الإنساني الذي نلمحه في كتابات أنطونيو غرامشي عن "المثقف العضوي"، المثقف الذي لا ينعزل في برجه، بل ينخرط في معركة الوعي ويعتبرها شكلًا من أشكال المقاومة. فالكاتب لا يتحدث عن القيادة كموقع في الهرم الإداري، بل كممارسة للوعي وكرامة للإنسان، وهو ما يمنح النص بُعدًا تربويًا وروحيًا يذكّر كذلك بمقولات مالك بن نبي حول "الإنسان الفعّال" و"القابلية للانحطاط". – أسلوب حاشد في هذا النص يجمع بين بلاغة الغضب وصدق الاعتراف. لغته كثيفة، تتناوب فيها الجملة الطويلة ذات النفس التأملي مع الجملة القصيرة الصادمة. – يكتب حاشد كما لو أنه في معركة مع اللغة نفسها، يريد منها أن تشتعل وتنفجر كي تعبّر عن اختناق الوجدان. وهذا ما يجعل النص أقرب إلى نثر احتجاجي – شعري، على نحو ما نقرأه عند محمود درويش أو أدونيس في مقاطعهم النثرية التي تجمع بين الوجع والحكمة. – في النهاية، يمكن القول إن «قادة وقوادين» هو نصّ يتقاطع فيه الفلسفي بالسياسي، والشخصي بالجماعي، ليؤسس لما يمكن أن نسمّيه أدب الوعي المقاوم. – إنه صرخة ضد تدهور المعنى، وتذكير بأن القيادة ليست سلطةً تُمارَس، بل مسؤولية أخلاقية تتجسّد في الإنسان حين يعلو على ذاته. في زمنٍ صار فيه الفساد "قدَرًا يشبه القدر"، كما يقول الكاتب، يصبح النص نفسه فعل تطهير ومقاومة ضد التلوث العام. – القائد من منظور كاتب النص ليس موقعًا في الهرم السياسي، بل حالة وعي ومسؤولية أخلاقية تُقاس بمدى قدرته على إحياء الإنسان في محيطه. ومن هنا، فإن أزمة القيادة التي يصوّرها النص ليست سياسية فحسب، بل هي أزمة وعي جمعي فقد بوصلته بين التبجيل الأعمى والرفض العدمي. – إنّ "قادة وقوادين" يُعيد طرح السؤال الجوهري الذي يشغل الفكر الإنساني منذ أفلاطون وحتى سارتر: من يستحق أن يقود؟ وكيف تتحول القيادة من فعل وعي إلى أداة فساد؟ – من خلال هذا التساؤل المفتوح، يضع حاشد نصَّه ضمن أدبٍ يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليصبح مرآةً نقدية لضمير الأمة، ودعوةً إلى إعادة بناء مفهوم القيادة على أسس الوعي والعدالة والكرامة الإنسانية. نص "قادة وقوادين" أحمد سيف حاشد لستُ من يعجب بقائده بسهولة.. أزدري منافقة القادة إلى حد بعيد.. لا اتملق ولا أشهد الزور.. لست من يحب قائده من أول وهلة.. أعيد النظر والتقييم مراراً.. أمقت المتملقين والانتهازيين والوصوليين .. لا أزجي المديح ولا أميل للإطراء، إلا بقدر ما يستحقه القائد، وما يثيره فيَّ من إعجاب ودهشة، وما لديه من مصداقية وتواضع ونكران ذات. لا أشطح ولا أبالغ ولا أبحث في القائد عن الكمال، ولكنني أبحث عن الأفضل الذي أجد فيه استحقاقاً أن يكون نموذجياً ومثالياً في حدود الممكن لا المستحيل. لا أبالغ في المثال الذي أبحث عنه.. أتفهم عيوب ونواقص البشر، وأعرف أن مقاربة الكمال أو المثال الخالص هو طلب أكبر من المستحيل، بل لا وجود له حتى وإن كان في صورة نبي أو ملاك. لست عدمياً فأنا أستطيع أو أحاول أن ألتمس الأعذار للآخرين، وأتفهم أسبابهم، وأحاول البحث حتى في الأشرار عن محاسن وفضائل وبقايا ضمير ربما لا يراها الكثيرون.. كل شيء يبدو لي نسبياً في هذا الوجود حتى الحقيقة بل والوجود ذاته. * * * ومع هذا نعيش اليوم ما هو أكثر سوءاً ورداءةً وكارثية.. يتم فرض الفاسدين علينا كقادة ورئاسة وإدارة.. يلقون بعقدهم وذاتيتهم ورغباتهم اللزجة في وجه نقائنا؛ وصدقنا وما نبحث عنه من عدالة.. يفرضون علينا بما يملكونه من سلطة وغلبة مخرجاتهم المنتنة، وفسادهم الأكثر نتانة، وجهلهم الأشد من الجهل نفسه. يتم توجيه ما يملكونه من غلبة وصلاحيات مغتصبة لابتزازنا وإذلالنا بحقوقنا, واستغلال حاجاتنا وعوزنا وفقرنا برغبة تحويلنا إلى قفازات, ودُمى بلا وعي ولا إرادة ولا حياة، ثم دون خجل ولا حياء يقذفوننا بالباطل والادعاء المفتري أننا من نبتزهم.. يا لهول ما نعاني. كل يوم وأنت تعيش حالاً متعفناً كهذا الذي نعيشه، وفساداً أشد فتكاً من الوباء والحرب.. يحاصرك من كل صوب واتجاه.. يسد في وجهك أبواب الله وسبل الهرب والنجاة.. يغلق عليك كل المنافذ والطرق، ويثقل كاهلك بما هو أشد ثقلاً من الجبال، ولا يترك لك حيلة إلا وصيّرها أمامك محالاً في محال.. حال كهذا وأنت تجمع أشتات صبرك من أقاصيه، قليل ودونه أن تتخيل نفسك وأنت تأكل شعر رأسك وإبطيك. * * * اليوم صار قوادو الفساد قادة.. ومن جاء خلفهم أسوأ بعشرة أضعاف من سابقة.. وبطولة الفساد جائحة.. لا يولّي الفاسد ويحميه إلا من هو أفسد وأكبر منه.. صار الفساد الكبير هو من يرسم السياسات ويفرضها, ويمنهج مراحلها خطوة بخطوة.. بات الفساد حاكماً ومُكرساً بإمعان أشد.. صار وسطاً ومحيطا وبيئة. كان الفساد يرتعد إذا ما وجهتَ اليه سبابتك.. يخجل إذا رميته برمش عينك.. أما اليوم فصار الفساد مهولاً ومرعباً وعريض الاجتياح.. إنه تيار جارف لا يُقاوم.. منظومة قوية محمية بالسلطة والغلبة والأمر الواقع. صار للفساد قادة أفذاذ، وصارت السلطة كلها بعضاً من يديه.. أينما توجه وجهك تجد الفساد العريض فاغراً فاه.. فك مفترس إن لم تأت إليه، هو يأتي إليك متوحشاً على أربع.. الخياران أسوأ وأمر من بعض.. صار الفساد في هذه البلاد ابتلاء يشبه القدر. منظومة الفساد باتت هي من تأمر وتؤمّر، ولها كلمة الفصل في الصغيرة والكبيرة.. صار الفساد المهول في هذه البلاد المنكوبة به وبقادته، مطلق السلطة, واليد والعنان.. استبداد وطغيان أكثر بطش وغلظة. * * * أكثر الذين أعجبت بهم في الكلية العسكرية، هو قائد الكلية أحمد صالح عليوة من محافظة شبوة.. وجدته قيادياً فذاً وممتلئاً وصادقاً، وعلى مستوى عالٍ من الوعي والمسؤولية، ولا يعمد إلى فرض شخصيته إلا بوعيه وحنكته وتواضعه، وتميّزه، وما لديه من حكمة ومصداقية وشجاعة، وحيوية ونشاط وألق وجاذبية. كان أحمد صالح عليوة قائداً عسكريا وتربويا محنكاً.. يمتلك شخصية قوية وجذابة تخطف إعجابنا وحبنا الكبير.. دأب يغرس في أعماقنا الاعتزاز بالنفس والثقة, والشجاعة وقوة الشخصية.. مازال صوته الجهوري حياً في مسمعي وهو يقول: "طالب اعتز بنفسك.. ارفع رأسك.. أنت قائد.." كنت معجباً به، بل وأرى أنه أجدر من يستحق أن يكون قائداً لجيش بلد تستحقه. كان يمتلك قدرة قيادية فذة ومؤثرة، ويحظى باحترام وتقدير من يقودهم.. سمعت بعد سنوات أنهم أهملوه وحطموا ذلك القائد الفذ.. حطمه الفاشلون.. قالوا إنه أصيب بحالة نفسية، ثم رحل ليترك عالماً من الفاشلين.. آه يا بلد.. رجالك المخلصون والقادرون ينتهون إلى الجنون والضياع، أو إلى ركام وحطام، فيما كثيرون من التافهين ومن لا يستحقون يعترشون مواقع المسؤولية الرفيعة قد استبدوا وقادوك إلى الحروب والضياع والمآسي العراض. * * * كانت فصيلتنا هي الأولى مشاة، إنها من قوام ثلاث فصائل مشاة، والمشرف على الفصيلة هو الملازم عبد الرقيب ثابت الذي يدربنا مادة التكتيك أيضاً، والحائز على المرتبة الأولى في دفعته الثامنة.. أردت أن أكون مثله الأول في دفعتي العاشرة.. أعجبت به لأنه كان يميل للإقناع والإفهام، ولا يذهب إلى طرق القسوة المُذلة التي تهتك المشاعر وتنتقص من كرامة الإنسان كما هو الحال لدى بعض أقرانه، وذلك على حساب صناعة الوعي والرفع من شأنه. اليوم هذا القائد لم أعد أسمع به، وإنما صرت أسمع عن قادة امّعات دون وعي, أو فكرة أو موقف أو ضمير أو انتماء للوطن.. قادة صغار أتباع منقادون, آخر حسابات لديهم هو الوطن الذي نبحث عنه. رفع الوعي هو الأمر الذي أتعلق به، وأقابله بتقدير واحترام .. التعالي سلوك لا يروقني من الضباط، بل أشعر أن صاحبه يعاني من عقد نفسية ومركبات نقص عصيّة.. أحب تواضع القادة دون أن أنال من حزمهم الذي أتفهم ضرورته في الحياة العسكرية.. وعي القائد وحزمه الواعي هو من يأسرني، وليس الحزم المهلهَل بالثقوب والعورات. روحي الثائرة والمتمردة لا تستكين للسلطة المستبدة التي تتغافل الوعي ورفع مستواه.. أتمرد على كل سلطة تتجاهلني، أو تقلل من شأني، أو تريد أن تلغيني، أو تستخف بعقلي، أو تصادر إرادتي وكينونتي.. القائد هو ذاك الذي يمارس الوعي ويرفع من شأنه، ويمتلك الصفات التي تؤهله وترفعه وتجعل منه قائداً بجدارة واستحقاق. * * *