مليشيا الحوثي تصعّد القمع.. مئات المختطفين في إب وذمار وسط صمت دولي مريب    إصلاح حضرموت يؤيد ميثاق قبائل حضرموت والمهرة ويثمّن موقفهم الوطني    عدن.. البنك المركزي يحذر من التصرف بممتلكات وعقارات البنوك في صنعاء    العفو الدولية تطالب بتحقيق في ضربة أمريكية على سجن في اليمن    أحمد سيف.. الذاكرة التي لا تغيب وصوت الدولة المدنية    عبد السلام وبرغ وشريم يبحثون في مسقط خارطة الطريق للسلام في اليمن وأزمة الموظفين الأمميين    الهيئة النسائية بأمانة العاصمة تدّشن فعاليات الذكرى السنوية للشهيد    شهيدان في قصف صهيوني شمالي قطاع غزة    أبناء مديرية الزيدية في الحديدة يؤكدون جهوزيتهم لمواجهة أي تهديدات    الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى يخفض سعر الفائدة بنسبة 0.25%    هيئة الاستثمار تناقش إعداد القوائم الاسترشادية لمدخلات الإنتاج الصناعي    مصر.. استعدادات وتشديدات أمنية قبيل افتتاح أكبر متحف آثار في العالم    السر في رغبة زوجته .. هاري كين يتخلى عن حلمه التاريخي في إنجلترا ويقرر الاستمرار مع بايرن ميونخ!    مكونات حضرمية بلا مبدأ: أحد قياداتهم سيقدم جماجم الحضارم دفاعا عن الوحدة    تنفيذية انتقالي شبوة تبحث المستجدات السياسية والتنظيمية بالمحافظة    قراءة في نص "غصة ندم وجودية" ل"أحمد سيف حاشد"    اكتشاف اثري في ذمار ..!    من دارفور إلى لندن: خيوط الحرب السودانية تمتد إلى مصانع السلاح البريطانية    الصحافي.. حينما تتحول السلطة الرابعة إلى شريحة مسحوقة!    لقاءات الرياض.. محاولات إنعاش في واقع يزداد اختناقاً    مصر.. حكم قضائي بحبس "ميدو" نجم الزمالك ومنتخب مصر السابق    رئيس نادي التلال: "مرحلة تصحيح شاملة لإعادة هيبة العميد.. والقادم أفضل بإذن الله"    بمشاركة اليمن.. اتحاد كأس الخليج يحدد الثلاثاء المقبل موعدا لقرعة بطولة المنتخبات الأولمبية    نابولي يهزم ليتشي ويعزز صدارته للدوري الإيطالي    إشهار برامج الدكتوراه لتسعة برامج أكاديمية طبية بجامعة 21 سبتمبر    أمين العاصمة يتفقد سير العمل بمشروعي صرف صحي في مديريتي الوحدة ومعين    محكمة أمريكية تصدر حكمًا بالسجن على يمني بتهمة تهريب مهاجرين إلى الولايات المتحدة    توقعات بموجة برد خلال الأيام القادمة.. وكتلة باردة جافة تسيطر على البلاد    فريق التوجيه والرقابة الرئاسي يبحث مع وزير الخدمة المدنية أوضاع الوظائف والتسويات بمحافظة لحج    الأجهزة الأمنية تطيح بمتهم متخصص في نشل جوالات النساء بمديرية المنصورة    فضيحة.. الاحهزة الامنية بتعز ترفض تامين محطة عصيفرة للكهرباء    مدير المواصفات يطلع على جناح الهيئة في معرض منتجات اليمن    منفذ الوديعة.. والإيرادات المفقودة    مدفعية العدو السعودي تستهدف القرى الحدودية في صعدة    أستاذ قانون دولي: أساتذة الجامعة في الجنوب براتب "جائع"    وقفة.. اللجنة الإعلامية لكرة القدم إلى أين؟    تعز.. توجيهات بتفعيل إلزامية التعليم الأساسي ومعاقبة أولياء الأمور المخالفين    غزة: 983 حالة وفاة بسبب منع السفر للعلاج خارج القطاع    4 قطع أثرية يمنية نادرة بمزاد أمريكي في نوفمبر القادم    إصابة "صعبة العلاج" تكبح 50% من قدرات لامين جمال في الملعب    فضيحة جديدة لمعمر الإرياني: 12 مليون دولار لموقع إلكتروني!    القوى الكبرى تصنع الأزمات لتملك القرار.. والحل في اليمن هو فك الارتباط السلمي    منظمة أمريكية: يجب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولية تفشي الكوليرا في اليمن    جزائية صعدة تصدر احكاما بقضايا مخدرات وتواجد غير مشروع باليمن    تعيين أمين عام للسياسي الاعلى بصنعاء واخر لمجلس الوزراء بعدن    قراءة تحليلية لنص "مراهقة" ل"أحمد سيف حاشد"    كأس المانيا: ضربات الترجيح تمنح بوروسيا دورتموند بطاقة التأهل على حساب اينتراخت فرانكفورت    رئيس هيئة الاستثمار يطلع على سير عمل مصنع شفاكو للصناعات الدوائية    الأسعار بين غياب الرقابة وطمع التجار    ثاني حادثة خلال أقل من شهر.. وفاة امرأة نتيجة خطأ طبي في محافظة إب    وداعا أبا اهشم    مرض الفشل الكلوي (25)    عن ظاهرة الكذب الجماعي في وسائل التواصل الاجتماعي    عندما تتحول الأغنية جريمة.. كيف قضى روفلات القومية على أحلام عدن؟    الأوقاف تحدد 30 رجب أخر موعد للتسجيل في موسم الحج للعام 1447ه    فلاحين بسطاء في سجون الحقد الأعمى    الآن حصحص الحق    أبشرك يا سالم .. الحال ماهو بسالم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في نص "غصة ندم وجودية" ل"أحمد سيف حاشد"
نشر في يمنات يوم 29 - 10 - 2025

قراءات تحليلية متنوعة لنص أحمد سيف حاشد "غصة ندم وجودية" المنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر"، من ابعاد وزوايا واتجاهات متعددة، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
مقاربات
– نص "غصّة ندم وجودية" للبرلماني والكاتب أحمد سيف حاشد من النصوص التي تُمثّل ذروة النضج الوجداني والفلسفي في تجربته.
– النص مشبع بتأملات وجودية عميقة في عالم فقد معناه، وفيه درجة عالية من الاعتراف الذاتي النادر في الثقافة العربية.
– في النص يواجه الكاتب نفسه وضميره كأب وإنسان، دون أقنعة أو شعارات.
– في إطار عربي مقارن عبّر فيه الماغوط وكنفاني ومنيف ومحفوظ عن سقوط الأمة أو الوطن، فيما عبّر "حاشد" في نصه عن سقوط الإنسان نفسه في فخ الوجود.
– نص "غصة ندم وجودية" لا يتفلسف فيه "حاشد" نظريًا، بل يعيش الفلسفة كألم.
– الندم في نص "حاشد" حالة شعورية وجودية تُسكب على الورق بدم القلب.
– يمكن القول إن "غصّة ندم وجودية" تمثل ذروة جديدة في الأدب العربي ما بعد الحرب، حيث يتحوّل الكاتب من حامل رسالة سياسية إلى ضمير وجودي ممزق يرى في الندم شهادة على ما تبقّى من إنسانية في عالمٍ لم يعد إنسانيًا.
– محمد الماغوط واجه هذا الخراب بالسخرية السوداء، محوّلًا المأساة إلى مفارقة لاذعة، فيما نص حاشد "غصّة ندم وجودية"، يقدمها عارية دون درع، وهو مايجعل نص "حاشد" أكثر قساوة وصدقًا إنسانيًا.
– الماغوط يرى في الهزيمة مادةً للضحك المر، أما "حاشد" فيراها خطيئةً تستحق الغفران المستحيل.
– الماغوط يواجه العدم بروح شاعر مشاكس، فيما "حاشد" يواجهه بضمير أبٍ مثقلٍ بالذنب.
– يمكن القول إن نص حاشد يمثل الوجه الجادّ والمأساوي لما سمّاه الماغوط "الخراب الجميل".
– غسان كنفاني يسأل عن المسؤول عن ضياع المعنى، عن ضياع الوطن، عن موت الأبناء في الصحراء؟ فيما "حاشد" يطرح سؤالًا على مستوى أعمق: من المسؤول عن جريمة الوجود ذاته؟ فهو لا يتحدث عن وطن ضاع، بل عن معنى الحياة الذي تبخّر في أتون الحرب.
– عبد الرحمن منيف يتعامل مع الخراب بطريقة تحليلية عبر رصد التحولات، أما "حاشد" لا يحلّله بل يعيشه، وكأن منيف يرسم الخريطة، فيما "حاشد" هو النقطة التي نزفت منها الخريطة.. والاثنان يشتركان في رؤية العالم كمكانٍ فقد إنسانيته، لكن منيف ما يزال مؤمنًا بفكرة الوعي التاريخي كأفق للخلاص، في حين "حاشد" قد تجاوز ذلك إلى منطقة الندم على الوعي نفسه.
– الندم عند منيف سياسي على الخيانة والخذلان، أما عند "حاشد" فهو وجودي صرف على المجيء إلى هذا العالم؛ ولهذا يخرج نص "حاشد" من حقل الأدب الواقعي إلى أفق الأدب الفلسفي التأملي الذي قلّما نراه في السرد العربي.
– عبّر أدونيس عن إحساسٍ مشابهٍ بالخراب الشامل والردّة الحضارية، لكنه جعل من الشعر وسيلةً للتحليق فوق الرماد. أما "حاشد" فيكتب من قاع الوجود الممزق، لا ليُنقذه بل ليشهَد عليه..
– لغة أدونيس رمزية ومجازية، بينما لغة "حاشد" مباشرة وشاهدة ومجروحة، تشبه شهادة في محكمة التاريخ..
– كنفاني يربط الندم والخسارة بمسارات سياسية ومجتمعية فيما "حاشد" يحمّل الندم طابعًا أعمق وأشدّ إدانة إذ يتهم الوجود ذاته بالخطيئة في ظلّ الدمار.
– نجيب محفوظ يكشف عن شعورٌ عميقٌ بانكسار الإنسان العربي في وجه العبث السياسي والوجودي، ولكنه ظلّ يؤمن بوجود نظام أخلاقي أو قدري خفي في الحياة، حتى حين بدا مظلمًا، أما في نص "حاشد"، فليس هناك قدرٌ ولا نظام، بل فراغ مطلق..
– محفوظ يسأل عن معنى الحياة، و" حاشد" يسأل عن جدوى الحياة نفسها.
– سيوران يندم لأنه موجود، وكامو يثور لأنه يرفض العدم، ودوستويفسكي يتطهر بالألم، أما "حاشد" فيندم لأنه أنجب في عالم لم يعد صالحا للحياة..
– "حاشد" ينتقد من موقع الأب الذي يشعر أنه خان أبناءه حين جلبهم إلى هذا الخراب. وهنا تتخذ الفلسفة بُعدًا إنسانيًا حميمًا يندر وجوده في الأدب العربي؛ ف"حاشد" لا يتكلم عن الوجود بل عن وجع العيش فيه، وبهذا، يتحول نص "غصة ندم وجودية" إلى اعتراف وجودي عربي فريد، يستعير عمق الفلسفة الغربية، لكنه يعيد تأصيلها في واقع عربي يلتهم أبناءه.
– إميل سيوران يكتب من برودة الفيلسوف الأوروبي المنعزل، بينما "حاشد" يكتب من قلب المأساة الإنسانية المشتعلة في حربٍ مفتوحة، والندم لديه نزيف شعوري نابع من ضمير الأب والإنسان.. سيوران يوجّه تأمّلًا فلسفيًا باردًا، بينما حاشد يقدّم شهادة نازفة.
– ألبير كامو يكتب في مناخٍ فلسفي غربي علماني، أما حاشد فيعيش انهيار المعنى الأخلاقي والإنساني في واقع حربٍ وحصارٍ ومأساةٍ جماعية.. نص حاشد يخرج من نطاق الفلسفة المجردة إلى تجسيد العبث في الجحيم العربي المعاصر.
– نص "حاشد" يشبه أدب الاعترافات الكلاسيكية مثل اعترافات روسو، مع فروق جوهرية. الاعترافات التقليدية غالباً ما تكون سيرة ذاتية مكتوبة وتهدف إلى البراءة أو التبرير، بينما اعتراف "حاشد" علني وجماعي ويهدف للمشاركة الوجدانية أكثر من تبرير الذات.
– حوار حاشد مع بناته يجعل الاعتراف تفاعلياً ودرامياً، بعكس الاعترافات الأحادية التي يحاور فيها الكاتب نفسه أو قارئاً مجهولاً.
موجز تحليلي
– يحمل نص "غصة ندم وجودية" ل"أحمد سيف حاشد" قوة اعترافية نادرة في الأدب العربي، تمنحه مصداقية أخلاقية، وفيه حول التجربة الفردية إلى قضية وجودية عامة.
– النص يلامس أوجاع كثير ممن يعيشون ظروف مشابهة.. إنه شهادة إنسانية قوية ومؤلمة، وقيمته تكمن في قدرته على التعبير عن صوت ملايين الأشخاص الذين يعيشون تحت وطأة الحروب والانهيار.
– يبدأ النص من مأساة جماعية (الحرب والخراب في اليمن)، لينحدر تدريجياً إلى المأساة الفردية (ندم الأب)، في حركة سردية معكوسة تُبرز تجسيد المأساة العامة في الذات الفردية، ما يمنحه طابعاً إنسانياً شاملاً.
– نص "حاشد" لا يذهب إلى الإحصاءات بل يصيغها في مشاعر، فيما يحول الأخبار إلى تجربة إنسانية حميمة. ما يجسد قدرة الكتابة الشخصية العميقة في نقل الحقيقة الإنسانية للكارثة، على نحو يفوق التقارير الإعلامية.
– "حاشد" استخدم أعمق مشاعر الأبوة والألم الشخصي (الندم على إنجاب سبعة أبناء) ليصبح أداة نقد لاذعة للواقع السياسي المنهار. وهذا النقد أشد تأثيراً من أي خطاب سياسي تقليدي، لأنه يجرّد الأزمة من الإحصائيات والأرقام ويحولها إلى مأساة أسرية مباشرة.
– نص "غصة ندم وجودية" وثيقة إنسانية فريدة تتجاوز حدود الاعتراف الشخصي لتصير مرآة تعكس الانهيار الشامل الذي تعيشه مجتمعات بأكملها في مناطق الصراع.
– تكمن القوة الأساسية للنص في جرأته على الجمع بين موضوعين حساسين الندم على الأبوة وانهيار الدولة.
– "حاشد" يرفض تبرير الوجود بالأمل الكاذب، ويستخدم مأساته العائلية كدليل إدانة قاطع ضد الواقع السياسي ("ردّة حضارية شاملة"). هذا الربط يحوّل النص من مجرد بوح فردي إلى نقد راديكالي للوضع العام.
– نجح نص "غصة ندم وجودية" في اختراق الوعي العام بفضل صدقه الوجودي وحميميته المؤلمة.
قراءة في البعد الإنساني للنص من منظور وجداني
هذا النص ليس مجرّد بوحٍ شخصيّ من كاتبٍ مثقلٍ بالحرب، بل هو صرخة إنسانٍ فقد إيمانه بالاستمرار في الوجود ذاته. إنّه ندم أبٍ يرى أبناءه يشيخون قبل أن يعيشوا، ويتحوّل حلمه القديم بالحياة الكريمة إلى لعنة وجودية تلاحقه كل يوم.
الإنسان محور النص
أحمد سيف حاشد لا يكتب هنا عن السياسة أو الحرب، بل عن الإنسان حين يُسحق في طاحونة التاريخ. عن تلك اللحظة التي يدرك فيها الأب أنّ أعظم ما منح الحياة — أي الإنجاب — قد صار في زمن الخراب جريمة غير مقصودة. فالغصّة التي يتحدث عنها "حاشد" ليست مجرّد تأنيب ضميرٍ عابر، بل وجعٌ وجوديّ يشبه ما وصفه "سيوران" حين رأى أن الندم على الوجود هو أعلى درجات الوعي بالمأساة الإنسانية.
عجز الأب وفقدان الحجة
في هذا النص، يتحوّل الندم إلى ميراثٍ ثقيل، تتوارثه الأجيال كما تُورّث الحروب. الأبناء أنفسهم صاروا يوجّهون الاتهام إلى أبيهم:
"لماذا أتيت بنا؟!"
وهنا تتجلّى المأساة بأشدّ صورها قسوة، حين يصبح الوجود نفسه تهمةً لا يُمكن تبريرها، وحين يعجز الأب عن الدفاع عن حُبّه لأنه فقد الحُجّة أمام الألم.
خيبة واعتذار
تتسرّب من النص لغة الخيبة العميقة، لغة إنسانٍ رأى أحلامه تتحطّم واحداً تلو الآخر، فصار يكتب لا ليعبّر، بل ليعتذر. اعتذار متأخّر عن إنجابٍ تمّ بحسن نية، في زمنٍ كان ما يزال يؤمن بالضوء. ولكن الحرب، كما يفهمها "حاشد"، لا تقتل الأجساد فقط، بل تقتل الإيمان بالمستقبل، وتحوّل الأبوة نفسها إلى عبءٍ أخلاقي.
الكاتب يصف واقعه وكأنه نفيٌ للحياة:
"نرزح تحت واقع تعس وبائس وثقيل، ومستقبل معدوم أو بحكم العدم…"
هذه ليست مبالغة، بل توصيف صادق لمجتمع فقد الأمل، وانقلبت فيه الأبسط قيم الإنسانية — كالعيش الكريم والزواج والأمان — إلى رفاهيات بعيدة المنال.
لسان حال أجيال
إنّ أحمد سيف حاشد في "غصّة ندم وجودية" لا يتحدث بلسان الفرد فقط، بل بلسان أجيالٍ عربيةٍ منكوبة، تشعر بأنّها وُلدت في الزمان الخطأ. فهو يعترف بخطيئةٍ لم يقترفها وحده، بل اقترفها جيل كامل صدّق وعود التقدّم والعدالة، فإذا به يجد نفسه في ظلامٍ دامس، بلا وطنٍ يحمي، ولا مستقبلٍ يُغري بالعيش.
شهادة وجع وجداني
في النهاية، هذا النص ليس دعوةً للتشاؤم، بل شهادة وجدانٍ مثقّب بالوجع، وصوت ضميرٍ يواجه أسئلة الوجود بشجاعة مؤلمة:
هل كان علينا أن نوجد؟
وهل في الحبّ والإنجاب خلاص، أم امتدادٌ للعذاب؟
هي صرخة الإنسان حين يرى أبناءه يدفعون ثمن أحلامه المجهضة.
صرخة لا تبحث عن عزاء، بل عن معنى في عالمٍ تآكل معناه.
قراءة اسلوبية جمالية لغوية
العنوان «غصّة ندم وجودية» ينهض منذ البداية بوظيفة كثيفة الإيحاء.
كلمة غصّة تحمل طابعًا حسّيًا خانقًا، يُحيل إلى ألمٍ داخليّ لا يُقال بل يُختنق به. أمّا ندم وجودية، فهي عبارة تتجاوز البُعد الأخلاقي للندم إلى عمقه الفلسفي.
وهنا لا يندم "حاشد" على فعل، بل على كينونة، على "الوجود" نفسه. بهذا العنوان القصير، يعلن النص منذ البدء عن تموضعه بين حدود الوجع الشخصي والسؤال الكوني عن جدوى الحياة.
اللغة: شعرية الاعتراف وبلاغة الانكسار
اللغة عند "حاشد" ليست تقريرية، بل تغتسل بالألم حتى تصير شعرًا ناثرًا.
يكتب كمن يبوح في ظلمة، يفتّش عن خلاصٍ لا يأتي، فيُغرق عباراته في صورٍ تفيض حزناً:
«الظلام الكثيف»،
«الوحشية التي تفترسنا كل يوم»،
«ندم ذابح»،
«سراب بعد لهث واكتظاظ ندم».
هذه الصور ليست مجازًا فنيًا فحسب، بل ترميزٌ لاحتضار المعنى الإنساني وسط حربٍ طاحنة. فالمجاز هنا أداة وجودية، يحوّل المعاناة إلى لغة كي لا تنكسر الروح بصمت.
كما أن الجمل الطويلة المتدفقة تُحاكي أنفاس الموجوع: تتكرر فيها التراكيب المتوازية، وكأن الكاتب يلهث من فرط الاعتراف.
وهذا الإيقاع البطيء الممتد يعكس الغرق في الزمن، وزمن النص نفسه يصبح مرآة لزمن الحرب الطويل الذي لا ينتهي.
البناء الخطابي: من الذنب الفردي إلى الخطيئة الجماعية
النص يبدأ من ضمير المتكلم الفردي:
«أشعر بغصّة ندم… ما كنتُ أنجبتُ أبناءً وبنات».
لكنّه سرعان ما يتّسع ليتحوّل إلى صوت جمعي يمثل أباً في هيئة وطنٍ مكلوم.
حين يقول:
«إننا نعيش ردّة حضارية شاملة»،
فهو ينقل الشعور الفردي إلى مستوى الضمير الجمعي، فيتحوّل النص إلى مرثية وطنٍ فقد إنسانيته.
وبهذا التدرج، ينتقل الخطاب من الخاص إلى العام، ومن البكاء على الذات إلى البكاء على أمةٍ بأكملها. وهذه الحركة من الداخل إلى الخارج تمنح النص عمقًا جماليًا، إذ يُحوّل التجربة الشخصية إلى رمزٍ إنسانيّ شامل.
الصورة الإنسانية: الأب كرمزٍ للإنسان المقهور
الأب في هذا النص ليس فقط أباً لأبنائه، بل صورة الإنسان الذي صدّق وعد المستقبل فخانته الحياة.
المشهد الذي تصرخ فيه بناته:
«لماذا أتيت بنا؟!»
هو مشهدٌ دراميّ مكثّف، يحمل قلب النص النابض. فهنا تتحوّل الأبوة من فعل حبّ إلى تهمة وجود، وتصبح الحياة نفسها موضع سؤال أخلاقي.
جمال الصورة يكمن في صدقها العاري: لا رمزية مصطنعة، بل وجع إنسانيّ مطلق.
المعجم الشعوري: بين الندم والعدم
يتكرّر في النص حقلٌ لغويّ قاتم: (الخراب – الدمار – الظلام – البؤس – النهايات – الخطيئة – العدم)،
في مقابل حضورٍ باهتٍ لحقل الأمل (أمل تلاشى، سراب، حلم تبخّر).
هذا التضاد يُنتج جمالية مأساوية، ويجعل النص يُضيء بظلامه.
إنّ التكرار المقصود لمفردات "الندم" و"الوجود" و"الخطيئة" يعمّق الأثر النفسي ويحوّل التجربة إلى تأملٍ ميتافيزيقي في معنى أن نوجد في زمنٍ بلا معنى.
الجماليات الأخلاقية: نبل الندم
ما يمنح النص سموّه الجمالي ليس اللغة فقط، بل الصدق الأخلاقي للبوح.
ف"حاشد" لا يندب نفسه، بل يُدينها بشجاعة. يعترف بخطيئة لم يقترفها بوعي، ويحوّل الندم إلى وعيٍ نقديّ بالحياة والإنجاب والمستقبل.
إنّه نصّ يواجه أزمة الوجود بأخلاقية الندم لا ببرود الفلاسفة، ولذلك يلمس القلب قبل أن يثير العقل.
الندم كأعلى أشكال الوعي
حين يستشهد حاشد بقول سيوران:
«أولئك الأبناء الذين لم أرغب في مجيئهم، ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها»،
فهو لا يقتبس لمجرد الزينة، بل يختم النص بتوقيعٍ فلسفيّ يربط المأساة الشخصية بقلق الوجود الإنسانيّ المطلق.
بهذا الاقتباس، يتحول النص إلى تأملٍ كونيّ في عبث الحياة، حيث يصبح الندم نوعًا من الإدراك العميق لحقيقة الزمن والوجع الإنسانيّ.
تكثيف جمالي
نص «غصّة ندم وجودية» عمل نثريّ عميق ذو نَفَسٍ شعريّ وتأمليّ، تتداخل فيه اللغة الوجدانية مع الفكر الوجودي، ويتجلّى جماله في:
صدق التجربة وبساطتها العارية من الزخرف.
بلاغة الحزن الناضج الذي لا يستعطف بل يواجه.
توازن نادر بين البوح الإنساني والتحليل الفلسفي.
إنه نصّ يُقرأ لا بالعقل وحده، بل بالقلب الذي جُرّب فيه الفقد، وبالوعي الذي يعرف أن الندم أحيانًا هو أصدق أشكال الحكمة.
قراءة في البعد السياسي والاجتماعي للنص
نص أحمد سيف حاشد «غصّة ندم وجودية»، يتجاوز النص الشخصي والوجداني ليعكس أزمة المجتمع والدولة في زمن الحرب.
1. الحرب كإطار سياسي للوجود
النص يبدأ من مأساة شخصية، لكنه سريعًا يكشف عن خلفية سياسية واسعة:
«بعد حرب طال أمدها، ونتائجها الكارثية…»
هذه الحرب ليست مجرد صراع عائلي أو محلي، بل إشارة إلى الحرب التي تنهك اليمن أو أي مجتمع منكوب بالصراع المسلح الطويل.
والحرب هنا تدمّر البنية الاقتصادية والاجتماعية: البطالة، تأخر الزواج، فقدان الأمن.
الحرب تجعل الأبوة نفسها عبئًا أخلاقيًا، كما لو أن الدولة والمجتمع فشلا في حماية أجياله.
والنص بهذا المعنى يحوّل الندم الشخصي إلى نقد ضمني لفشل الدولة والسلطة في تأمين حياة كريمة.
2. انهيار المؤسسات الاجتماعية
حين يصف حاشد معاناة أبنائه:
«يعانيان وقد تعديا الثلاثين من العمر دون زواج أو وظيفة تؤمّن لهما واقعًا بائسًا…»
وهذا الوصف يكشف أزمة المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية:
وتعكس البطالة المستشرية فشل السياسات الاقتصادية.
وغياب الضمان الاجتماعي والفرص يجعل من الأبناء فريسة لليأس، ويتحول إنجابهم إلى قرار محفوف بالخطر السياسي والاجتماعي.
النص بهذا يصبح قراءة سياسية ضمنية للسياسات المعيبة أو انعدام الدولة الفاعلة.
3. المجتمع تحت وطأة الصراع
النص يصف الواقع ب:
«واقع تعس وبائس وثقيل، ومستقبل معدوم…»
هذا ليس مجرد وصف وجداني، بل تحليل سياسي للمجتمع الذي انهارت فيه الحريات والحقوق الأساسية:
التراجع الحضاري الذي يشير إليه النص هو انعكاس لانهيار النظام السياسي والمجتمعي.
والظلام والكآبة تمثلان غياب الدولة العادلة والرقابة القانونية، حيث تصبح القوانين والحقوق عاجزة عن حماية الإنسان.
4. الأب كرمز للأجيال المحرومة
الأب في النص يمثل المواطن العادي في مواجهة السياسات الكارثية:
أوجاعه وندمه ليست شخصية فحسب، بل تجربة جيل بأكمله يتلقى آثار الحرب السياسية المباشرة وغير المباشرة.
سؤال بناته «لماذا أتيت بنا؟» يمكن قراءته على المستوى السياسي أيضًا ك سؤال عن المسؤولية العامة للدولة والمجتمع عن مصائر الأجيال الجديدة.
5. السياسة والوجود: العدم المؤسسي
النص يحتوي على تأملات فلسفية تتقاطع مع السياسة:
«مستقبل معدوم أو بحكم العدم على مدّ قريب ومنظور…»
وهذا يعكس إحساسًا بعدم الجدوى السياسية:
عدم القدرة على التخطيط، على الأمن والاستقرار، هو نتيجة مباشرة لفشل الدولة، الحروب المستمرة، الفساد، والانقسام السياسي.
والبعد السياسي هنا يتماهى مع البعد الوجودي: المواطن لا يندم على أخطائه وحده، بل على كون الدولة والمجتمع قد جردته من حماية مستقبل أطفاله.
6. نقد ضمني للسلطة والهياكل الحاكمة
النص لا يذكر اسم جهة سياسية أو حزب، لكنه يمارس نقدًا ضمنيًا للسلطة والفشل الإداري من خلال تصويره للمعاناة اليومية:
العجز عن الزواج والعمل وتأمين حياة كريمة ليس مشكلة فردية، بل دلالة على عجز المؤسسات عن أداء دورها.
المأساة الفردية تتحول إلى مرآة للفشل السياسي الوطني أو الإقليمي.
خلاصة
ومما سبق يمكنان نخلص إلى:
1. الحرب الطويلة والفشل المؤسسي هما الخلفية الأساسية لمعاناة الأب.
2. انهيار الدولة والمجتمع المدني يخلق أجيالاً بلا أمل.
3. النص يحوّل تجربة شخصية إلى مراجعة سياسية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
4. الأبوة هنا رمز للمواطن المحاصر بين سياسات خاطئة وواقع كارثي.
5. البعد السياسي متداخل مع البعد الوجودي: غياب الدولة والعدالة يخلق مأساة وجودية حقيقية.
***
غصة ندم وجودية
أحمد سيف حاشد
بعد حرب طال أمدُها، ونتائجها الكارثية أشعر بغصة ندم.. لو كنتُ اعلم اننا سنصل إلى هذا الوضع المعيشي الأكثر من مزرٍ، بل والكارثي ما كنت انجبتُ أبناء وبنات.
ما كنت أدري أن المستقبل سيكون مثقلاً بكل هذا الركام من الخراب والدمار المتسع، وهذا الظلام الكثيف، والوحشية التي تفترسنا كل يوم.. هذا الحال المريع الذي وصلنا إليه، ووصل إليه شعبنا.. إننا نعيش ردّة حضارية شاملة هي أشد علينا من الجحيم.
لقد ندمتُ وبت أندم كل يوم، بسبب وجود كنتُ أظنه زاهراً، فوجدته مقفراً ومتصحراً وشديداً على أمل تلاشى كما تلاشى سراب بعد لهث واكتظاظ ندم.. نادم على ما سببته لأبنائي وبناتي السبعة من وجود مثقل بالوجع والبؤس، ومتاعب لا تنتهي.
وجدنا أنفسنا نرزح تحت واقع تعس وبائس وثقيل، ومستقبل معدوم أو بحكم العدم على مدٍ قريب ومنظور، وندم استمر ويزيد، يخالجني معه شعور أنني ارتكبت حماقة مدوية، وخطيئة لا تنتهي.
مأساة وجود تسببت بها، في واقع جاء ولم أكن أتخيله، ولم أكن أعلم أن المستقبل الذي حلمتُ به وتمنيته يوماً، كان مفخخاً وملغوماً بهذا القدر المهول من الحروب والمآسي والويلات والنهايات الفادحة.
اشعر بغصة ندم ذابحة وأنا أرى ما أراه اليوم، وهو حال لم يكن يخطر على بال وحسبان.. ندم ثقيل وطويل أعيشه كل يوم، وتأنيب ضمير على حال استحال أن ننجو منه.
أتفطر وجعاً وندماً حالما أسمع واحدة من بناتي تؤازرها بعض أخواتها وهي تعاتبني العتاب المر على أنني سبب وجودهن، وما بلغن من مأساة وجود أثقل كواهلهن، ثم يتكرر العتاب المر في أكثر من واقعة ومناسبة بالقول:
هذه مسؤوليتك.. لماذا أتيت بنا..؟! لماذا وجدتنا..؟!
فأرد بما هو هش وخالٍ من أي حجة أو أساس من إقناع.. ثم تسندهم أمهم، ولا أجد في ردّي إلا ركاكة وفشلاً وخواء، ليس فيه ما يرتقي لمنطق أو حتّى تبرير يليق.. وينتهي الجدل إلى تبادل وتقاذف الاتهام مع أمهم.. ويبقى الواقع أشد وأكثر مرارة.
ثم أرى أولادي الاثنين يعانيان وقد تعديا الثلاثين من العمر دون زواج أو وظيفة تؤمّن لهما في واقع بائس, الحد الأدنى من حياة كريمة، ودخلاً ثابتاً يوفر لهم قدراً من العيش الكريم، أما زواجهما فما زال بعلم الغيب المثقل يأساً وكآبة في سماء ما زالت ملطخة بالدم وملبدة بمخاوف ما هو أسوأ، ولا أنصح بزواج إلا دون إنجاب، والإنجاب لا يكون إلا إذا ضمنوا مستقبلاً أفضل، ما زال إلى اليوم بعيداً أو يتباعد حد المستحيل.
النصح هو ما بقي لديّ من حكمة، وما أملكه بيدي لأطلقه لوقف الاستمرار في ارتكاب مزيد من الندم والشعور بالخطيئة.. أقولها بدافع الحرص أن لا يكرروا المأساة، وينتابني شعور مستمر أنني ارتكبت خطيئة سوف تتناسل إلى يوم يحشرون.
كل يوم يمر أجد نفسي في محيط من ندم, أستحضر فيها مقولة "إميل سيوران" «أولئك الأبناء الذين لم أرغب في مجيئهم، ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها».
* * *


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.