مقاربة قانونية وسياسية شهد الصراع الجنوبي اليمني منذ بداية ديسمبر هذا العام تحولات بنيوية عميقة أعادت طرح سؤال الدولة في الجنوب العربي بوصفه مسارًا سياسيًّا وقانونيًّا، لا مجرد مطلب عاطفي أو ظرفي. فقد أفضت التطورات الميدانية إلى بسط المجلس الانتقالي الجنوبي سيطرته الفعلية على ما يقارب 95 % من أراضي الجنوب السابق، بما في ذلك حضرموت والمهرة، وهو ما يمثل تحولًا نوعيًّا في موازين القوة ويؤسس لواقع سياسي جديد لم يعد من الممكن تجاهله.
في إطار القانون الدولي، لا يقوم تشكل الدول على الإعلانات السياسية وحدها، بل على توافر شروط موضوعية تراكمية. وتُعد اتفاقية مونتفيديو (1933) المرجعية الأساسية في هذا المجال، إذ تحدد أربعة معايير لقيام الدولة: وجود سكان دائمين، وإقليم محدد، وسلطة سياسية فعالة، وقدرة على إقامة علاقات دولية. وبإسقاط هذه المعايير على الحالة الجنوبية، يتبين وجود شعب ذي هوية سياسية وثقافية متمايزة، وحدود جغرافية معروفة تاريخيًّا قبل وحدة 1990، وسلطة انتقالية تفرض الأمن وتدير الشأن العام، إلى جانب انفتاح إقليمي متنامٍ، ما يجعل الجنوب أقرب إلى كيان سياسي مستوفٍ لشروط الدولة قيد التشكل.
يبقى الاعتراف الدولي الذي يظل مرتبطًا بالإطار المعياري الذي يحكم النظام الدولي وهناك أكثر من معيار يمكن إسقاطه على الوضع في الجنوب، وفي مقدمته ميثاق الأممالمتحدة، ولا سيما مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. وتكتسب هذه القاعدة أهمية خاصة حين يقترن مشروع الدولة الموحدة بأنماط مزمنة من التهميش والإقصاء، وهو ما يشكل، من منظور جنوبي واسع، جوهر التجربة منذ قيام الوحدة وما أعقبها من صراعات وحروب غير متكافئة.
سياسيًا، يبرز مسار الانفصال الواقعي بوصفه نتيجة لفشل الدولة المركزية في صنعاء أكثر من كونه خيارًا أيديولوجيًّا؛ فاليمن اليوم يعيش حالة تفكك فعلي، مع سيطرة الحوثيين على معظم الشمال الغربي، وتوزع بقية المناطق بين قوى متعددة في مأرب، تعز والمخا، ما يعكس انهيار حقيقة مشروع الدولة في صنعاء على نحو يجعل الواقع الميداني متقدمًا على أي صيغة قانونية جامعة.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل الحضور الشعبي الجنوبي الذي تجسد في مظاهرات واعتصامات واسعة في عدن ومدن الجنوب الأخرى، مطالبة باستعادة الدولة. ويكتسب هذا الحراك وزنًا إضافيًّا في ظل موقف إقليمي يتسم بالدعم الضمني أو عدم الاعتراض، وهو عامل حاسم في توفير حد أدنى من الاستقرار خلال مرحلة التحول.
أما خيار فك الارتباط، فيُطرح كمسار سلمي أقل كلفة بعد الإقرار بفشل مشروع الوحدة بين الجنوب واليمن، وقد شكّل اتفاق الرياض 2019 ومشاورات الرياض 2022 إقرارًا غير مباشر بازدواجية الكيانات السياسية في الجنوب واليمن عبر مبدأ المناصفة في الشرعية. غير أن تعثر التنفيذ، وعجز القوى اليمنية عن مواجهة الحوثي بجدية حربًا أو سلمًا، قاد إلى انهيار هذا المسار، ودفع الجنوب إلى خطوات أحادية تمثلت في بسط السيطرة على وادي حضرموت والمهرة وهي جزء تاريخي من ارض الدولة الجنوبية، بما يفتح الباب أمام إعادة التفكير في تسوية سياسية نهائية على أساس الدولتين.
في المحصلة، يتجه الجنوب العربي نحو انفصال واقعي تفرضه موازين القوة وفشل الدولة الموحدة، غير أن الانتقال من هذا الواقع إلى إعلان قانوني مكتمل يظل مشروطًا بتوافق دولي يضمن الاستقرار ويحد من مخاطر التفكك الإقليمي. وإذا ما تحقق هذا المسار، فقد يشكل الجنوب نموذجًا دالًا على تداخل القانون والسياسة والحقوق الوطنية للشعوب في إعادة تشكيل الدول في الشرق الأوسط.