ليس من نافلة القول إن الأوطان تُبنى بسواعد الرجال على ترابها، لا ببدلات الدبلوماسيين في صالات الاستقبال الفارهة. لكن الواقع المرير الذي نعيشه اليوم في اليمن، وتحديداً في ثغر اليمن الباسم "عدن" والمناطق التي يُفترض أنها "محررة"، يجعلنا نتساءل: هل نحن أمام "دولة" تسعى لاستعادة سيادتها، أم أمام "شركة تعهدات" تُدير عقارات وموانئ لصالح أجندات عابرة للحدود؟. السيادة في مهب "الأجندة الصهيونية" لقد حذرنا سابقاً في كتابنا "الشرق الأوسط الجديد بأجندة صهيونية" من أن مشروع تفتيت المنطقة لا يعتمد دائماً على الغزو العسكري المباشر، بل يعتمد على صناعة "نخب وظيفية" تقايض الجغرافيا بالبقاء السياسي. وما نراه اليوم من تحويل جزرنا وموانئنا الاستراتيجية إلى "منح وعطايا" لغير اليمنيين، ليس إلا فصلاً من فصول تلك الأجندة التي تهدف إلى تجريد اليمن من مخالب قوته الاقتصادية والجيوسياسية، ولكن بأيدي "محلية" وبمباركة شرعية تسكن الفنادق. مجلس التفتيت.. أجندة "الممول" وتفكيك الهوية وفي عمق هذا المشهد، يبرز الدور المشبوه لما يسمى "المجلس الرئاسي"، الذي تحول في كنف التمويل الإماراتي إلى أداة لتنفيذ مخططات الانفصال تحت غطاء الشرعية. إن التماهي الفاضح لهذا المجلس مع المشاريع التمزقية، وصمته المخزي عن رفع "أعلام التشطير" فوق مؤسسات الدولة، ليس مجرد عجز، بل هو تنفيذ ممنهج لمهمة أوكلت إليه لتفكيك عرى الوحدة الوطنية. إنها مفارقة تاريخية أن يقود "مجلس رئاسي" مشروعاً لهدم الجمهورية التي أقسم على حمايتها، ليحول المحافظات الجنوبية إلى إقطاعيات تخدم مطامع الممول وتكرس واقع الانفصال بالتقسيط. عدن.. من عاصمة اقتصادية إلى "استراحة مسافر" من المحزن أن تتحول عدن، رئة اليمن الاقتصادية، إلى ساحة ل "نظام السيادة اللاسلكية". المسؤول هناك لا يملك من أمره إلا ما يُملى عليه عبر "أجهزة اللاسلكي" الموجهة من غرف العمليات الإقليمية. لقد استبدلوا العقد الاجتماعي ب "حجز فندقي"، وأصبح القرار الوطني مرهوناً بمدى الرضا الذي يبديه "الكفيل". إنها "شرعية الروم سيرفس" التي تخشى المطالبة باستعادة الموانئ والمنشآت السيادية، خوفاً من أن تُسحب من تحتها السجادة الحمراء، أو يُقطع عنها شاحن الدعم السياسي! الميليشيات.. جيوش تحت الطلب وفي مشهد يكتمل فيه العبث، نجد أن "الجيش" الذي يفترض أن يأتمر بأمر الدولة قد تم استبداله ب "متعهدي حفلات عسكرية". لم يعد الولاء للعلم أو للجمهورية اليمنية، بل ل "الممول" الذي يمنح الرتبة والراتب. إن تحويل الشباب اليمني إلى أدوات في سوق "الحراج" العسكري هو الجريمة الكبرى في حق المستقبل؛ فمن يبيع بندقيته لغير وطنه اليوم، سيبيع قراره غداً لمن يدفع أكثر، وهذا ما يتجسد اليوم بكل أسى تحت مسميات واهية. وطن للبيع بالتقسيط! إننا أمام مشهد "تصفية نهائية" للوطن. الخارج يخطط، والداخل ينفذ بنظام "التعهيد". التاريخ لن يرحم أولئك الذين وقفوا صامتين بينما تُباع الجزر وتُقسّم الأرض تحت مسميات "إعادة الهيكلة" أو "التحالف". إن الجمهورية ليست مجرد يافطة، والسيادة ليست رصيداً يُشحن وينتهي؛ إنها كرامة شعب تأبى الانحناء. فهل يستفيق "نزلاء الفنادق" قبل أن يجدوا أنفسهم بلا وطن يعودون إليه، وبلا تاريخ يشفع لهم؟ إن الوطن باقٍ، والوكلاء إلى زوال، ولن يصح في النهاية إلا الصحيح.. وواهمٌ من ظن أن "جمهورية الجنوب" المزعومة ستحقق كرامة، وهي تُبنى على أنقاض السيادة المنهوبة.