يُعدّ الإعلام، في سياق الصراع اليمني المستمر، ساحة معركة لا تقل أهمية عن الجبهات العسكرية، خاصة في محافظاتجنوب وشرق اليمن. إن الآلة الإعلامية الضخمة التي تديرها وتغذيها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، عبر أذرعها المباشرة والوكيلة، لم تكن مجرد أداة لتغطية الأحداث، بل وسيلة فعالة لهندسة واقع مغاير يخدم مصالح النفوذ الإقليمي على حساب السيادة الوطنية والاستقرار. الإعلام كمهندس للاستقطاب والسيطرة إن الدور الإعلامي السعودي والإماراتي تجاوز مهمة التبرير إلى هندسة الانقسام، لضمان تفكيك اليمن والسيطرة على المناطق الحيوية الغنية بالموارد والمطلة على الممرات المائية، وخدمة أجندة مشبوهة. 1. استراتيجية تفتيت الخطاب وتوجيه البوصلة * تغليف التواجد ب "محاربة حكومة صنعاء": على الرغم من أن الهدف المعلن للتحالف هو "إنهاء الانقلاب"، إلا أن الإعلام في الجنوب والشرق يركز على تضخيم هذا الشعار كغطاء وحيد لتبرير التواجد العسكري وتوجيه بوصلة الصراع بعيداً عن أهداف التنمية أو إعادة بناء الدولة. هذا التبسيط يغفل تعقيدات الأزمة ويمنح الشرعية لعمليات بسط النفوذ على الموانئ والمواقع النفطية والغازية (مثل شبوةوحضرموت). * شرعنة الوكلاء وتهميش الدولة: يتم الترويج للمكونات المحلية المدعومة إقليمياً (كالمجلس الانتقالي الجنوبي أو التشكيلات المسلحة في الساحل الغربي) كالحامل الأمني والسياسي الوحيد في تلك المناطق. في المقابل، يُمارَس تهميش ممنهج للحكومة المعترف بها دولياً، حتى إعلامها الرسمي يتم تجميده أو تحجيمه خوفاً من أن يعكس خطاباً يتعارض مع مصالح أبو ظبي أو الرياض. * بناء سردية الانفصال: الإعلام الإماراتي تحديداً، عبر أدواته الممولة، يركز على تكريس الخطاب الانفصالي وتصويره كحل وحيد وناجز لمشكلات الجنوب، بينما يُصوّر أي دعوة للوحدة أو لتبني خطاب الحكومة المعترف بها على أنها محاولة لإعادة إنتاج الفشل. وهذا يعمق الشرخ الاجتماعي والسياسي. 1. تناقض الأذرع الإعلامية وانكشاف الخلافات الإقليمية تُظهر التغطية الإعلامية في الجنوب الشرقي انقساماً واضحاً يعكس التنافس الاستراتيجي بين السعودية والإمارات بعد الأحداث الأخيرة في المنطقة الأولى: * الإعلام السعودي (المتأرجح): يحاول التوفيق بين دعم الحكومة المعترف بها نظرياً ومنع سيطرة نفوذ إماراتي كامل، فيروج لتشكيلات بديلة أو موازية (كما حدث مع المجلس الحضرمي الوطني) كأداة للموازنة والنفوذ. * الإعلام الإماراتي (الدافع للانفصال): يتبنى بشكل شبه مطلق أجندة المجلس الانتقالي الجنوبي، مع ترويج مكثف لتشكيلات محلية موالية تضمن لها السيطرة على الشريط الساحلي والموانئ، خاصة في عدنوشبوة والمكلا والمهرة، مع إبراز أي تحرك للانتقالي كإنجاز أمني وخدمي. هذا التباين لا يُقدم حقيقة، بل يُنشئ واقعاً إعلامياً مفككاً يُربك الرأي العام المحلي ويزيد من صعوبة أي مصالحة يمنية مستقبلية. تداعيات التضليل: تغطية الفشل وتكريس الأجندة إن النتيجة المباشرة لهذا التضليل الإعلامي في جنوب وشرق اليمن هي صرف الانتباه وتغطية الانتهاكات والصراعات البينية التي تشهدها مناطق نفوذ التحالف: * تجاهل الصراعات الداخلية: يتم التقليل من الصراعات المسلحة المتكررة بين الفصائل التي يمولها التحالف نفسه (في أبينوشبوةوحضرموت) ك"أحداث أمنية عابرة"، بدلاً من إبرازها كدليل على فشل الأجندات الإقليمية في إحلال الاستقرار. * إخفاء السيطرة الاقتصادية: الإعلام يتغاضى عن أي نقاش جدي حول عقود تشغيل الموانئ أو إدارة الثروات النفطية والغازية في الجنوب والشرق، مقدماً سردية "التحرير" على أنها الهدف الأسمى، بينما الهدف الحقيقي هو السيطرة الاستراتيجية والاقتصادية لخلق واقع يخدم أجندة. * تعميق العداء للمجتمع المدني: يتم تهميش الأصوات المعارضة أو الصحفيين والناشطين المحليين الذين ينتقدون التواجد الإقليمي والانتهاكات، حيث يتم وصمهم إعلامياً بأي تهم جاهزة بهدف تكميم الأفواه وإبقاء الساحة الإعلامية تحت السيطرة. تفاقم التنافس الجيوسياسي: انعكاس أزمة الثقة على المشهد اليمني تُشير المستجدات إلى تصاعد أزمة الثقة والتنافس الجيوسياسي بين الرياض وأبو ظبي، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على جنوباليمن. حيث باتت التغطية الإعلامية المتناقضة مؤشراً على: * مرحلة جديدة من الصراع بالوكالة: تصعيد التوتر بين الوكلاء المحليين لكلتا الدولتين (المجلس الانتقالي من جهة، ومكونات مثل درع الوطن والمجالس المحلية الأخرى المدعومة سعودياً من جهة ثانية) بات وشيكاً في مناطق التماس مثل حضرموت والمهرة. * تعطيل الحل السياسي: إن تضارب الأجندات الإعلامية والسياسية يفاقم صعوبة تحقيق أي اختراق في مسار الحل السياسي الشامل، حيث أن كل طرف إقليمي يركز على تعزيز مكاسبه في مناطق نفوذه كورقة مساومة في أي تسوية قادمة. الخلاصة لقد تحول الإعلام السعودي والإماراتي في جنوب وشرق اليمن من أداة دعم للحكومة المعترف بها دولياً إلى أداة لإعادة ترسيم الخرائط السياسية والنفوذ الإقليمي. هذا التضليل المستمر، المدعوم بالموارد المالية الهائلة، يسعى لخلق واقع جديد يخدم مصالح النفوذ، مع إبقاء الجنوب والشرق في حالة من التشرذم والتناحر تحت غطاء شعارات فارغة، لا تخدم سوى تجميل الأجندة الخفية.