قراءات تحليلية متنوعة لنص أحمد سيف حاشد "احتجاج على الجوع" المنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر"، من أبعاد وزوايا واتجاهات متعددة، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. مقاربات – نص الأستاذ أحمد سيف حاشد "احتجاج على الجوع" يجسد صوت المتمرد الوجودي (كامو)، والجسد المستعمر الذي يطالب بحقه (فانون)، والناقد الذي يكشف تناقضات الأيديولوجيا (أورويل)، والثوري الذي لا يهدأ (جيفارا)، والبطل التراجيدي الذي يتحدى السلطة (برومثيوس وأنتيغون)، والمناضل الذي يستعيد المعنى الحقيقي للصراع الطبقي (ماركس). هذا الحوار الخفي مع هؤلاء المفكرين يمنح النص عمقاً وقوة تجعله خالداً وعالمياً. – الجوع في نص "حاشد" يشبه الخواء الوجودي عند غسان كنفاني؛ فكلاهما يربط الجوع بالكرامة والخذلان الجماعي.. غير أن شخصيات كنفاني "رجال في الشمس" تموت صامتة داخل الخزان، بينما "حاشد" يرفض الصمت ويواصل الاحتجاج.. كنفاني يركّز على المأساة الفلسطينية بوصفها قدرًا جمعيًا، في حين حاشد يحوّل الحدث الفردي إلى رمز للوعي الاجتماعي المحلي.. نص حاشد أكثر تأملًا وفلسفة، بينما نصوص كنفاني أكثر درامية وحوارية. – وفي إطار المقارنة مع أدب السيرة الذاتية الوجودية العالمية.. نجد سارتر يكتب سيرة فكرية عقلانية، أما حاشد فيكتب سيرة وجدانية نضالية.. حاشد يربط التجربة بالهمّ الجماعي، بينما سارتر يركّز على تكوين الذات الفردية المفكرة. – جيفارا وحاشد كلاهما يرى التمرد ليس كخيار، بل كضرورة وجودية، كحالة دائمة من عدم الرضا والمحرك الوحيد للتغيير. قول الكاتب حاشد في النص "أعاود الكرّة مرتين وثلاثاً" يعكس نفس العزيمة التي جعلت جيفارا يواصل النضال بعد كل نكسة. – جورج أورويل وحاشد كلاهما يكتبان بلغة صادقة بلا تجميل، فيما الاختلاف أن أورويل يعرض الجوع في سياق نقد الرأسمالية، أما حاشد فيعرضه في سياق نقد السلطة الثورية. نص أورويل واقعي اجتماعي، فيما نص حاشد رمزي وفلسفي في آن واحد. – مقارنة نص حاشد "احتجاج على الجوع" مع فرانز كافكا في (رسالة إلى والده) نجد كلا النصين يقوما على مواجهة السلطة الأبوية: كافكا يواجه سلطة الأب الرمزية، وحاشد يواجه السلطة السياسية/الأبوية التي "تلبس ثوب الأب أو المعلم أو القديس". في كلا النصين هناك تمرد وجودي ضد التسلّط باسم المحبة أو التربية أو النظام، غير أن الاختلاف: أن كافكا يغرق في العجز واليأس، بينما حاشد يحوّل التمرد إلى فعل إيجابي ومقاومة جماعية.. حاشد أكثر انخراطًا في الواقع، وأقل ميلًا إلى الرمزية الميتافيزيقية الكافكوية. *** إيجاز تحليلي – نص "احتجاج على الجوع" للحقوقي والبرلماني أحمد سيف حاشد ليس مجرد سيرة ذاتية مبكرة، بل هو تأمل فلسفي في ماهية التمرد والحرية. – النص يربط التجربة اليومية (الجوع) بأسئلة كبرى عن العدالة والسلطة والضمير، وهو ما يمنح النص بعدًا فكريًا يتجاوز السرد الشخصي. – يمتاز النص بقدرته على ربط الخاص بالعام، والمحلي بالإنساني. – استدعاء رموز مثل "سيزيف" وإبليس يمنح النص بعدًا فلسفيًا، حيث يتحول التمرد إلى قيمة كونية ترتبط بالحرية والقدر والوعي. – في نص "احتجاج على الجوع" يعيد حاشد تعريف العصيان بوصفه بحثًا عن العدل لا رفضًا للرب أو المجتمع، ما يعكس جرأة فكرية وتجاوزًا للتابو الثقافي. – تبرز في النص ثنائية الفرد مقابل القطيع كموضوع مركزي.. والكاتب يؤكد على "روحه غير القطيعية" ويحتقر الخاضعين والخائفين. – في النص يبدو حاشد "الفرد" الذي يدفع ثمن تمسكه بمبادئه، لكنه يظل متمسكاً باستقلاليته الأخلاقية. هذه الثنائية تجعل من النص بياناً عن قيمة الفرد في مواجهة جماعة تذوب في الخوف والتبعية. – «احتجاج على الجوع» يعكس بوضوح تجذر الوعي التمردي في تجربة أحمد سيف حاشد الشخصية والسياسية. – النص ينبع من تجربة معيشة، لا من تنظير فكري. يكتب حاشد بضمير محتج، لا بلسان مفسّر. – من منظور نقدي، يُعد «احتجاج على الجوع» نصًا ناضجًا في صدق الموقف وعمق الرؤية وجرأة الفكرة، ويعكس تمازجًا فريدًا بين الأدب والسياسة. – النص ينتمي إلى أدب الوعي والمقاومة، حيث يتحول الجوع من تجربة جسدية إلى موقف إنساني وفلسفي، وهو شاهدًا على تبلور الضمير الثوري والإنساني عند أحمد سيف حاشد منذ بداياته الأولى. – يرسم الكاتب صورة واضحة لشخصيته المتطورة من المراهق المعجب ب "المجانين" المتحدين، إلى الشاب الذي يشارك في قيادة الاحتجاج، إلى الراشد الذي يحلل الحدث برؤية ناضجة. هذا القوس الدرامي يمنح القصة عمقاً ويمكن القارئ من متابعة رحلة تبلور الوعي. *** قراءة تذوقية لغوية نصٌّ "احتجاج على الجوع" إنسانيٌّ عميق، مكتوب بنَفَسٍ نضاليٍّ صادق، ينبع من روحٍ ثائرة لا تهادن الظلم ولا تصالح الجوع. وفي يعبّر أحمد سيف حاشد عن ذاته بوصفها ضميراً يقظاً، يقاوم الفساد والفقر والاستبداد، ويعلن احتجاجه الدائم على كل ما ينتقص من كرامة الإنسان. لا يروي النص مجرد ذكرى طلابية، بل يسجّل ولادة الوعي الثوري والاحتجاج الشعبي من رحم الجوع. جمالية الفكرة والموضوع يبدأ النص من التجربة الذاتية وينتهي إلى الوعي الجمعي. فالفقر والجوع ليسا حالتين شخصيتين بل صراخ إنساني ضد الظلم. والفكرة الرئيسة تتجلى في أن التمرد على الجوع هو تمرد على القهر بكل أشكاله، وأن الصمت على الظلم خيانة للإنسانية. الجانب الوجداني النص مشحون بعاطفة الرفض والتحدي والقلق الوجودي. والكاتب يعترف بتعبه أحياناً، لكنه يعود كل مرة إلى المواجهة — "أستريح قليلاً… ثم أعود إلى إعلان الرفض". في عباراته نسمع أنين الضمير ووجع الإنسان الحر الذي لا يطيق الذل ولا يتصالح مع القهر. جماليات الأسلوب واللغة لغة النص قوية وصادقة، تجمع بين الفصاحة والحميمية. تتنوع الجمل بين الطول التأملي ("روحي لا تهدأ ولا تستكين…") والاختصار الحاد ("لم أعتد الظلم"). ويستخدم حاشد صوراً بلاغية مدهشة: تشبيه الضمير ب "حمار وحشي يرفسني من الداخل" – صورة حية تعبّر عن العذاب الداخلي المتواصل. تشبيه نفسه ب "سيزيف" يجرّ صخرته الأبدية – رمز الإصرار والتمرد رغم الألم. واللغة هنا ليست مجرد أداة، بل صوت احتجاج وصرخة وجدان. البنية السردية والفنية ينتقل حاشد من التأمل الذاتي إلى السرد الواقعي بلغة حيوية، تمزج بين السيرة الذاتية والوثيقة التاريخية. فالفقرة الأولى تهيئ القارئ لفهم دوافع الشخصية الثائرة، ثم يأتي السرد ليحكي أول تجربة احتجاجية، فيتّحد الوعي الشخصي بالحدث الجماعي. الرسالة الإنسانية والجمالية النص يزرع في القارئ شعوراً بالكرامة والعزيمة، ويذكّره بأن الاحتجاج ليس فوضى بل دفاع عن الحق في الحياة. إنه نشيد ضد الخضوع، واحتفاء بالروح الحرة التي تقول "لا" في وجه الجوع والاستبداد. خلاصة تذوقية نص "احتجاج على الجوع" لوحة إنسانية مفعمة بالصدق، يرسمها أحمد سيف حاشد بلغة تنزف وجعاً وشرفاً. إنه نص يُقرأ بالقلب قبل العقل، لأنه يُوقظ فينا ما نحاول نسيانه: أن الجوع ليس قدراً، وأن الصمت أمام الظلم هو موت بطيء. *** البعد السياسي في النص النص يرتكز على فكرة الرفض والمقاومة والاحتجاج ضد سلطة القهر والفساد. إطار عام النص لا يتحدث فقط عن تجربة شخصية مع الجوع، بل يصوّر صداماً بين المواطن البسيط والسلطة السياسية في زمنٍ كانت فيه الشعارات الثورية تُستخدم لتبرير القمع والتناقض الاجتماعي. إنه نصّ سياسي بامتياز، يُلبِس السياسة ثوب التجربة الإنسانية اليومية — من "وجبة رديئة" إلى "نظام ظالم". الموقف من السلطة منذ البداية يعبّر أحمد سيف حاشد عن عدائه الواضح للاستبداد بكل صوره، قائلاً: «يستفزني الاستبداد بكل صنوفه حتى وإن لبس ثوب الأب أو المعلم أو القائد، أو القديس أو الكاهن». هذه العبارة تُبرز رفض الكاتب لأي سلطة متغطرسة مهما كان مظهرها، فهي رؤية سياسية تتجاوز حدود السياسة الحزبية إلى موقف أخلاقي وإنساني شامل. حاشد لا يرى في السلطة رمزاً للنظام فحسب، بل مصدر خطر على العدالة والحرية عندما تنحرف عن أهدافها. الاحتجاج كفعل سياسي الحدث المحوري في النص — إضراب الطلاب وقطع الطريق — يُجسّد أول ممارسة سياسية للكاتب في حياته. كان احتجاجهم على "رداءة الغذاء" عملاً بسيطاً في ظاهره، لكنه اختراقٌ لخطٍّ أحمر سياسي في نظامٍ اشتراكي مركزي. «كان عملاً جريئاً ومقداماً بكل المقاييس… لأن أي احتجاج من هذا القبيل كان يُصنف ثورة مضادة». وهنا يبرز حاشد الطابع القمعي للنظام السياسي الذي يرى في أي اعتراض تهديداً وجودياً له، ويكشف كيف يتحوّل الحق الاجتماعي (في الغذاء) إلى قضية سياسية تمس السلطة مباشرة. في نقد النظام السياسي عندما يقول حاشد: «أن يندلع عمل احتجاجي في مدرسة تحمل اسماً عظيماً في دولة تدّعي أنها تتبنى نظرية الاشتراكية العلمية… عمل ربما يكشف هشاشة بعض من ذلك الادعاء». وهنا يمارس نقداً سياسياً ساخراً للنظام، إذ يفضح تناقضه بين الشعار والواقع: دولة تدّعي العدالة الاجتماعية بينما طلابها جائعون. إنه يعبّر عن سقوط الخطاب السياسي الثوري الزائف أمام الواقع المعيشي القاسي. الوعي السياسي والتمرد المبكر النص يقدّم تجربة حاشد بوصفها بداية لتشكل الوعي السياسي المقاوم: الرفض للجوع تحوّل إلى رمز لرفض الظلم السياسي. والمشاركة في الاحتجاج كانت تدريباً مبكراً على ممارسة الحرية والمطالبة بالحقوق. هذا الوعي السياسي لم يتوقف عند حدود المدرسة، بل أصبح سلوكاً ثابتاً في حياة حاشد كما يوحي به النص كله. الصوت السياسي والرسالة العامة من خلال لغته وموقفه، يحمل النص رسالة سياسية واضحة، وهي أن الصمت على الظلم مشاركة فيه. وأن السلطة التي تخاف من صوت الجائع سلطة غير شرعية. وأن التغيير يبدأ من الوعي الشعبي البسيط، لا من قرارات النخبة. يُقدّم حاشد نموذج المثقف أو المواطن الذي يقاوم التهميش السياسي عبر الفعل والكلمة، ويؤكد أن المقاومة المدنية تبدأ من أصغر المواقف وأكثرها صدقاً. رؤية سياسية يمثل نص «احتجاج على الجوع» رؤية سياسية ناضجة ترى أن: الجوع فعل سياسي، لأن من يجوّع الناس يحكمهم بالحرمان. وان الاحتجاج واجب أخلاقي وسياسي، لأن الصمت يُكرّس الظلم. والحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بالصوت والموقف. إنه نصّ يربط بين السياسة والإنسانية، بين الفكر والفعل، ليؤكد أن الوعي السياسي الحقيقي يبدأ من الإحساس بالظلم والرغبة في تغييره. البعد النفسي في النص يُظهر النص شخصية أحمد سيف حاشد بوصفها نموذجاً للإنسان القَلِق، الثائر، الرافض للرضوخ. فالنص مكتوب من الداخل، من عمق التجربة الذاتية التي تتأرجح بين التمرد والخذلان، الأمل واليأس، الهدوء والعاصفة. 1. التمرد يعبّر حاشد عن نزعة تمرّد أصيلة فيه، لا يستطيع كبحها حتى عندما يصمت أو يتراجع مؤقتاً. يقول: «روحي لا تهدأ ولا تستكين، وتظل دوما متحفزة للتململ والتمرد والثورة». وهذا يعكس اضطراباً وجودياً إيجابياً، ناتجاً عن وعي حاد بالظلم، يجعل صاحبه في صراع دائم مع ذاته ومع العالم. 2. تأنيب الضمير والصراع الداخلي يتجلى الصراع النفسي في قوله: «تأنيب ضميري يظل يرفسني من الداخل كحمار وحشي». وهنا يستخدم حاشد صورة قوية تعكس قسوة الضمير الحيّ، فهو لا يهنأ بالراحة طالما يرى ظلماً قائماً. والضمير عنده يتحوّل إلى قوة دافعة للثورة لا إلى كابح أو مثبّط. 3. القلق الدائم النص مفعم بشعور القلق الوجودي: قلق من العالم، من الأقدار، ومن ذاته أحياناً. يقول: «ربما أبدو قلقاً على الدوام، وغير راضٍ على سير الأمور والأحوال». وهذا القلق ليس سلبياً، بل هو وقود الوعي والرفض، وهو ما يجعل شخصيته غير "قطيعية"، أي ترفض الانصياع للجموع. 4. الإصرار والتحدي رغم التعب والخذلان، يعود الكاتب مراراً إلى ساحة المواجهة: «ما إن أستريح قليلاً حتى أعاود الكرّة مرتين وثلاثاً». هذه العبارة تختصر نفسية المناضل الحقيقي الذي يتغذّى على الأمل، ولا يعرف الاستسلام. خلاصة حاشد يعيش صراع الضمير والعدالة، تتنازعه الحاجة للسكينة والإحساس بالمسؤولية تجاه المظلومين. إنّه نفسٌ متمرّدة على الظلم، قلقة من القبول، محكومة بالشعور بالواجب الأخلاقي، ومتّقدة بالشغف نحو التغيير. البعد الاجتماعي في النص النص ليس تجربة شخصية فقط، بل مرآة تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي اليمني في زمنه، بكل ما فيه من فقر وجوع وقهر واستبداد. 1. الفقر والجوع كمحرّك اجتماعي يبدأ الاحتجاج من وجبة طعام رديئة وانقطاع الكهرباء في مدرسة داخل نظام يدّعي العدالة الاشتراكية. هذه التفاصيل البسيطة تكشف تناقض الشعارات مع الواقع، وتظهر كيف يتحوّل الحرمان المعيشي إلى وعي ثوري مبكر. 2. السلطة والاستبداد يصف حاشد كيف كان أي احتجاج يُعدّ «ثورة مضادة»، وكيف كان النظام يستخدم الخوف لتكميم الأصوات. هنا يتجلّى قمع السلطة للطبقات الفقيرة، وغياب العدالة الاجتماعية التي يدّعيها النظام. 3. الوعي الجماعي وبداية التمرّد الطلاب من مناطق مختلفة (الضالع، ردفان، الصبيحة) توحّدوا في احتجاج واحد. هذه اللحظة تعبّر عن تشكل الوعي الجماعي ضد القهر، أي لحظة انتقال المجتمع من الخضوع إلى المقاومة. 4. المسؤولية الاجتماعية والتغيير حاشد يحمّل نفسه والمجتمع مسؤولية النهوض. يقول إنه اصطفّ دائماً مع "المضطهدين في قضاياهم العادلة"، ما يجعل النص بياناً أخلاقياً واجتماعياً ضد اللامبالاة. خلاصة النص يرسم صورة مجتمع يعيش تناقضاتٍ حادّة بين الشعارات الثورية والواقع المعيشي القاسي. وهو يعبّر عن انفجار الوعي الشعبي في وجه الجوع والظلم، ويكشف أن الاحتجاج فعل إنساني مشروع ضد سلطة لا تستمع إلا بعد الصراخ. تكامل يتكامل في هذا النص البعد النفسي مع البعد الاجتماعي، فالقلق الداخلي عند حاشد ليس عزلة نفسية، بل انفعال صادق بالواقع الاجتماعي. ومن ثمّ يصبح التمرّد على الجوع رمزاً لتحرر الإنسان من الخوف، ورفضاً لأي سلطة تسلبه حقه في الكرامة والعدالة. *** احتجاج على الجوع أحمد سيف حاشد كثيراً ما يستفزني الفقر والجوع والظلم والفساد.. يستفزني الاستبداد بكل صنوفه حتى وإن لبس ثوب الأب أو المعلم أو القائد، أو القديس أو الكاهن.. يستفزني أكثر غرور السلطة وعنادها وخواء التعالي والاستكبار في وجه الحق, والعدالة التي أحلم بها وأهتم بأمرها.. لم أعتد الظلم لأهوّن منه أو أتصالح معه مهما طالت سنينه.. لا أتسامح مع الظلم وأنا المجبول على النسيان، حتى يتم كسره أو إسقاطه أو التحرر من ربقته. روحي لا تهدأ ولا تستكين، وتظل دوما متحفزة للتململ والتمرد والثورة.. مسكون على الدوام بالقلق وعدم الرضى، حتى وإن لذتُ بالصمتِ قليلا، أو شعرت بخذلان مُحبط إلى حين، أو تعاميتُ مرغما عن الحق لبعض الوقت، أو حتى تواطأت لأسباب تخصّني، فإنني أعيش صراعاً داخلياً أقوى وأكثر احتداماً مع ضميري، وتأنيب ضميري يظل يرفسني من الداخل كحمار وحشي، حتى أعود إلى الصواب أو الصحيح ما أمكن. ربما هذه الروح غير القطيعية هي من كانت السبب في استبعادي من فرص متاحة اغتنمها غيري، وأهدرتها أنا بوعي وقناعة وزُهد، لأنني اعتبرتها في حقيقتها بل ومازالت، مجرد مصائد ومكائد، ومعتقلاً للاستعباد لا فكاك منه ولا مفر. أشعر أحياناً بالتعب والضنك، ولكن ما إن أستريح قليلاً أو أسترجع الأنفاس حتى أعاود الكرّة مرتين وثلاثاً.. أعود إلى إعلان الرفض، وفعل التمرد، والمقاومة حتى تستقيم الأمور، أو تنتهي إلى زوال. أخوض مع الواقع صراعاً صبوراً ك "سيزيف" رمز العذاب الأبدي مع الصخرة، أو كإبليس الذي شق عصا الجماعة، وعصى ربه منفرداً وشاذاً؛ لإنفاذ مشيئة ربه المكتوبة في لوحه المحفوظ، مقدماً إياها على أنانيته.. أحاول أن أوصل صوتي المضطهد إلى أقصى مدى ممكن، حتى وإن أكلت بعضه الدود، فإنني على الدوام أحاول أن أجد نفسي مصطفاً مع المضطهدين في قضاياهم العادلة، وفي مقاومة من يصنع ذلك الظلم والاضطهاد، بل والاستعباد أياً كان صاحبه. ربما أبدو قلقاً على الدوام، وغير راضٍ على سير الأمور والأحوال، بل وربما ساخطاً على هذا العالم الدامي، ونظامه المرتكز على الظلم والاستغلال، وثائراً في وجه الأقدار التي أشعر أنها غير عادلة.. كل ذلك أدركته اليوم ملياً، وما كنت أدركه فيما خلا، وكانت البداية في أول احتجاج أشارك فيه حالما كنت مراهقاً، أو في مطلع الشباب الباكر. * * * في مدرسة "البروليتاريا" وبسبب الجوع، واحتجاجاً على غياب التحسين في وجبات الغذاء، وانقطاع الكهرباء، أضرب عدد كبير من الطلاب عن الدراسة، وكنت واحداً منهم. امتنعنا عن الدراسة، وخرجنا للرصيف نحتج على رداءة الغذاء والمطالبة بتحسينه.. قطعنا الطريق بين لحجوعدنبالحجارة ومنعنا عبور السيارات، وهو عمل جريء في ذلك العهد، بل وشديد الحساسية؛ لأن أي عمل أو احتجاج من هذا القبيل، كان يصنّف باعتباره ثورة مضادة، ويذهب بعض السياسيين إلى تفسيره بأكثر الاحتمالات سوءاً وقبحاً، وبأسباب يفترضونها فوق ما نطيق ونحتمل، غير أن وجود طلاب محتجين من الضالع وردفان والصبيحة درأ عنّا كثيراً من تلك الاحتمالات والافتراضات ومنعت عنّا عواقبه. كثيرون هم الطلاب الذين التزموا الاحتجاج وامتنعوا عن الذهاب إلى الصفوف الدراسية، وبعضهم وهنوا بعد يوم أو بضع يوم، وبعضهم آثروا السلامة، وتحاشوا المشاركة في هذا العمل الاحتجاجي شديد الندرة والوقوع، إن لم يكن غير المسبوق. زميلي أحمد مسعد الشعيبي يصف ما حدث بأول انتفاضه طلابية عفوية ضد الحرمان من الحقوق الطبيعية المتمثلة في المأكل والمسكن… وقد أطلق شررها انقطاع التيار الكهربائي بسبب عدم سداد إدارة التربية فاتورة استهلاك الكهرباء، وقد انطلق الطلاب إلى الخط العام قاطعين الطريق العام التي تربط محافظة لحج بمحافظة عدن. كان الطلاب من أبناء الضالع في المدرسة هم طليعة المحتجين.. كنتُ معجباً بأولئك "المجانين" الذين رفضوا الظلام، ونازلوا الجوع، وتحدوا عواقبه. كنت أنظر لغير المحتجين نظرة سخط وازدراء، وأسأل نفسي: لماذا هؤلاء يتلبسهم الخوف ويركبهم الخذلان، ولا يسخطون على الجوع والقائمين عليه؟!! أعجبتُ بالطلاب الذين يجرؤون على الاحتجاج، ويحاولون أن يصلوا بصوت الجوع إلى أكبر مسؤول في البلاد. كان المسؤولون في المحافظة ولاسيما في التربية والتعليم الذين تتبع المدرسة مسؤوليتهم هلعين من انعكاسات وتأثير تلك الاحتجاجات عليهم، وعلى مناصبهم ووظائفهم. نزل المسؤولون عن التربية والتعليم في المحافظة ليجتمعوا بالطلاب ويسمعوا مطالب المحتجين ومناقشتهم فيها بعد فشلهم في إرعابهم وثنيهم عن مواصلة الاحتجاج، وإرجاعهم إلى فصولهم الدراسية. لم نهدأ ولم نكف عن الاحتجاج الا بعد حضور علي عنتر، والذي نجح في تهدئتنا عندما قال: "تروحوا أسبوع وترجعوا على أكل حسين ونظيف" وأمر بتحضير ناقلات "بوابير" لنقل الراغبين من المحتجين، والمتذمرين كُلا إلى مديريته والعودة إلى أسرهم في إجازة قصيرة، ريثما يتم تدبّر الأمور، وتحقيق مطالب المحتجين. العمل الاحتجاجي من هذا النوع وضد السلطة الثورية أو هكذا يفهم مثل هذا النوع من الاحتجاج وفي تلك الفترة شديدة الحساسية كان عملاً جريئاً ومقداماً بكل المقاييس. أن يندلع عمل احتجاجي في مدرسة تحمل اسماً عظيماً في دولة تدّعي أنها تتبني نظرية الاشتراكية العلمية، وتعمل من أجل إقامة دولة "البروليتاريا" عمل ربما يكشف هشاشة بعض من ذلك الادعاء. أسفر هذا الاحتجاج عن نتائج تحسين ملحوظة في التغذية، والنظافة والتنظيم واستعادة الكهرباء المقطوعة.. وكان هذا العمل هو أول إحتجاج أشارك فيه. * * *