في زمنٍ يتسابق فيه المؤثرون ليعتلوا منصات القدوة، نجد أنفسنا أمام حقيقة مُرّة. ففي كتابه اللاذع "نظام التفاهة"، يطرح الكاتب الكندي آلان دونو تشخيصاً قاسياً لواقعنا، قد يُفسر هذا التحول: إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام. لقد تغيَّر الزمن؛ زمن الحق والقيم. ذلك أن التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم.. فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقاً وأخلاقاً وقيماً.. إنه زمن الصعاليك الهابط. أليست هذه هي الحقيقة التي نعيشها؟ ومن بوسعه أصلاً أن يُنكر هذا التدهور الذوقي والأخلاقي؟ هل حُسمت المعركة فعلاً لصالح "التافهين"؟ من هم التافهون؟ "التافهون" جمع "تافه"، وهو الحقير الذي لا قيمة له ولا وزن. يقال: إنسان تافه، أي: إنسان وضيع، مستغرق في القشور، لا يستحق اهتماماً جاداً. لننظر إلى نموذج "متابعي الموضة" على سبيل المثال: لقد نذروا حياتهم وكرسوها فقط في سبيل الموضة ومتابعة أخبارها أولاً بأول، واستجلاب كل جديدٍ يأتي من عالمها. تجدهم لا يُبالون بما يجري حولهم من نوازل وكوارث وأحداث مصيرية، أو ما يعانيه الناس في محيطهم من مشاكل وهموم وجودية. كارثة الكوارث ونازلة النوازل عندهم هي أن يفوت عليهم نبأ آخر صيحة أو آخر إصدار نزل في عالم الأزياء! لكن المشكلة ليست فيهم وحدهم. الكارثة الحقيقية هي أن كل ما يأتون به تجده، وبقوة غريبة، يسري وينتشر في مجتمعاتنا كما تسري النار في الهشيم! * فإن جاؤوا ب "قَصَّة شعر" غريبة، لا تمر أيام قليلة حتى نجد أبناءنا وشبابنا قد افتتنوا بها وسارعوا إلى تقليدها والتشبه بها. * وإن جاؤوا ب "بنطلونات" ممزقة أو مشقوقة الركبتين والأرداف، سرعان ما نرى الإقبال على مثل هكذا أنواع من اللباس. هكذا نجد أنفسنا، وبدون وعي، قد أسلمنا وسلمنا أبناءنا وشبابنا لهذا الصنف من التافهين ليصبحوا القدوة والموجّه. هنا، وفي هذه اللحظة، يتم حسم المعركة لصالحهم! تهافت الجماهير: ميزان جديد للقيمة تتضح هيمنتهم أكثر في ميدان الشعبية والانتشار. لنقم بتجربة تخيلية: ضعوا "ممثلة" أو "مغنية" في أحد الميادين، ثم ضعوا في ميدانٍ مجاورٍ أو مقابلٍ أحد كبار الرموز العلمية أو الثقافية أو السياسية ذوي الأثر الحقيقي. ثم انظروا أي الميادين ستهوي إليه أفئدة الناس، وأي الميادين سيتزاحم عليه الجمهور أكثر. النتيجة معروفة ومحسومة سلفاً. وإذا أضفتم على الميدان الأول "راقصة" أو "مؤثرًا فارغ المحتوى"، فالأمر بلاشك محسوم وغير قابل للنقاش. لذلك، لا تستغربوا أن أغنية هابطة ورخيصة تحصد في فترة قياسية على اليوتيوب أكثر من ثلاثمائة مليون مشاهدة، بينما قصيدة لشاعر عملاق مثل البردوني أو الجواهري أو شوقي أو عمر أبو ريشة أو حتى المتنبي لا تحصد طوال سنوات أكثر من خمسين إلى مائة ألف مشاهدة في أحسن الأحوال! لا تستغربوا أن رأيتم الناس اليوم يُعلُونَ من قدر وشأن بعض اللصوص ومصاصي دماء البشر، في الوقت الذي تجدهم لا يضعون أي اعتبار أو يُقيمون وزناً للأتقياء والصادقين والمخلصين من أصحاب القيم والأخلاق. لا تستغربوا... فنحن في زمن التفاهة! زمان حسم فيه التافهون المعركة، وصدق فيه الشاعر عبدالله البردوني حين قال ذات يوم في وصف هذا الانهيار: | زمانٌ بلا نوعية جرَّ ويلَهُ | متاخيم يقتاتون أفئدة الجوعى..! |