أن القيمة الأساسية لنجاح الأنسان لا تُقاس بالضرورة بمدى جماهيريته وشعبيته ولا بالشهرة التي يحظى بها بل إنه وفي أحيان كثيرة تجد الأنسان كلما تعمق في الإسفاف والابتذال كلما ازدادت جماهيرية وطغت شهرته وربما حظي بحفاوة واحترام كبير بين البشر، فميل الناس إلى الاحتفاء بالهشاشة والسطحية ليس جديداً او وليد اللحظة انما له تاريخ عريق وعهد قديم فثمة انتقادات لهذا الميل منذ زمن سقراط والفلاسفة المخضرمين في الزمن التليد لكنه للأمانة لم يحقق انتصاراً ساحقاً وواضحاً كما هو حاصل في عصرنا الراهن خصوصاً بعد اتحاد وسائل التواصل مع الرأسمالية التي للأسف دفعت بالتافهين والشواذ إلى أن يمسكوا بخطام المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي في واقعنا الحاضر المعاش، ينقل الصحافي (جان عزيز) أجزاء مهمة من كتاب نظام التفاهة للكندي (ألان دونو) والذي يخلص فيه إلى أن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم وانتصروا في هذا الزمن ويعطي أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية المخضرم (ألان دونو) نصيحة محبطة في بداية كتابه يقول فيها : «لا لزوم لهذه الكتب المعقدة..لا تكن فخوراً ولا روحانياً فهذا يظهرك متكبراً..لا تقدم أي فكرة جيدة، فستكون هنا عرضة للنقد..لا تحمل نظرة ثاقبة، فقط عليك أن تكون قابلاً للتعليب والتصدير بحسب الطلب.. لقد تغير الزمن ودارت عجلته..فالتافهون أمسكوا بزمام كل شيء» يرجع (دونو) ذلك إلى عدة أسباب منها تغيُّر المفاهيم في المجتمعات فيقول : «لقد صار الشأن العام تقنية استهلاكية لا منظومة قيم ومبادئ ومفاهيم عليا، واختلط مفهوم المصلحة العامة مع المصالح الخاصة للأفراد، فجامعات اليوم التي تموّلها الشركات صارت مصنعاً للخبراء لا للمثقفين، حتى أن رئيس جامعة كبرى قال ذات مرة : إن على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات فلا مكان للعقل النقدي، كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الضخمة إن وظيفته هي أن يبيع للمعلن الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين، فالأسوأ أن التفاهة غيّرت مفاهيم ومقاييس وطرق واساليب النجاح في حياتنا، فالنجاح أصبح اليوم يعني الشذوذ لا التميز والتفرد والإتقان، وصارت قاعدته الأولى هي أن تجيد «اللعبة» فلم يعد النجاح شأناً إنسانياً تحكمه الأخلاقيات بل هو مجرد «لعبة» لا تعني شيئاً عند البعض، لقد راجت العبارة في كل لغات العالم حتى أصبحت قانوناً يقول : «الذب تغلب به العب به». في فيلم (الكيف) يطلب (مزجنجي) الذي يصر على أن يكون مطرباً رغم صوته الأجش النشاز من أحد الشعراء أن يكتب له كلمات تافهة لا معنى او قيمة لها لأن الناس بحسب زعمه عايزة مثل هذا النوع من الطرب الذي يناسب اذواقها في زمن تعن العقول والأذواق حتى في الغناء، ورغم نجاح الأغنية التافهة وجماهيريتها وشعبيتها الجارفة إلاّ أنها علَّمتنا فائدة مهمة هي أن التفاهة تدمر الشعوب مثلما تفعل المخدرات وغيرها من الممنوعات والمحظورات وربما أكثر، فهذا هو أثر التفاهة على مجتمعاتنا في زمن التافهين، وربنا يعين الجميع على جور الرويبضات والتافهين، ولله في خلقه وتدبيره شؤون.