قراءات تحليلية متعددة من اوجه مختلفة لنص أحمد سيف حاشد "ولادة مارعة بالألم" والمنشورة في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر"، باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. مفتتح – النص هو عمل نثري مكثّف ومشحون بالرمزية والحمولة الوجودية والسياسية.. – يمزج النص بين السيرة الذاتية والتأمل الفلسفي والاحتجاج الوجودي في بنية لغوية عالية الحس الجمالي والتراجيدي. – النص من أقوى نصوص السيرة الوجدانية، كونه يشكل وحدة موضوعية، ملئ بالصور البلاغية المؤثرة، وبخطاب أخلاقي واضح. – التمرد في النص ليس نفياً للوجود بل إعادة توظيف للوجود كأداة مقاومة. وهذه الرسالة تجعل النص ذا قيمة مزدوجة أدبية وفكرية وسياسية. – الاحساس في النص فيه تشخيص وتكثيف، ويستخدم الرمزية العميقة، ما يعطيه قوة في التعبير عن الفكرة الفلسفية والوجودية والإحساس القسري بالوجود والتعبير عن غربة الذات الوجودية. – لغة النص قوية، والمفردات فيه شبعت النص بالحزن والأسى والضيق، ما جعل الجمل تتسم بالتدفق البطيء والثقيل، الذي يعكس الوهن والمعاناة، خاصة في وصف المشهد الأول. – استخدام طريقة السرد الذاتي المكثف بنى حالة من البؤس المتراكم منذ لحظة الميلاد وصولاً إلى العقد السادس من العمر، وشحن النص بالدلالة الاجتماعية والنقدية. – النص ينتقد البنية الذكورية والمجتمع التقليدي الذي يكرّس اللامساواة ويحتفل بالقهر والتمييز، ويقاوم الظلم الاجتماعي والسياسي حيث يربط الكاتب بين بؤسه الشخصي والظلم الأعم في المجتمع، ليتحول التمرد الوجودي إلى ثورة على الواقع السياسي والاجتماعي. – قوة التمرد والمواجهة ونبرة الثورة والرفض في نهاية النص، والتمسك بالموقف المبدئي، اعطى النص قوة تتجاوز الشكوى الذاتية إلى موقف مبدئي صلب.. – مزج النص بين الوصف الشعري المؤثر، والعمق الفلسفي الوجودي، والنقد الاجتماعي اللاذع، ونبرة التحدي والتمرد الثابتة التي تحول الخيبة الفردية إلى رفض للظلم الجماعي. قراءة تحليلية وجدانية فلسفية في البعد الوجودي والاجتماعي هذا النص المفعم بالألم والعناد الوجودي — "ولادة مترعة بالخيبة" – هو واحد من أكثر نصوص أحمد سيف حاشد اكتمالاً من حيث التوتر بين الاعتراف الشخصي والاحتجاج الإنساني. ويعد عنوان النص مفتاح دلالي كثيف — يختصر المأساة منذ لحظة الميلاد. الولادة التي يفترض أن تكون "بداية حياة" تتحول عند "حاشد" إلى عتبة الخيبة الأولى. والخيبة ليست حدثًا عابرًا، بل قدر وجودي يلاحق الإنسان منذ صرخته الأولى. البنية الشعورية النص سيرة داخلية أكثر من كونه سردًا واقعيًا. يتحدث "حاشد" إلى ذاته وإلى العالم بلغة تمتزج فيها المذكرات الذاتية ب التأمل الفلسفي. منذ الفقرة الأولى، يسود الظل والبرد والضوء الخافت، كأن الوجود نفسه مظلم منذ البدء. البيت الذي ولد فيه مظلم، الضوء باهت، والميلاد يأتي في "حجرة ميالة نحو العتمة". هنا، المكان ليس توصيفًا بل رمز للوجود المعتم والقدر الكئيب. ثيمة الوجود القسري "وجدت من أجل أن أموت" — هذه الجملة تلخص الهاجس الوجودي الذي يسيطر على النص كله. يرى "حاشد" الوجود فعل إكراه، ولادة بلا مشيئة، حياة بلا خيار، وموت بلا معنى. القدر عنده ليس غيبًا مقدسًا بل قيدًا خانقًا، مفروضًا على الإنسان الذي لم يُستشر في وجوده. هذا الوعي يولّد لديه شعورًا عميقًا بالاغتراب: "الغربة تلاحقني والويل يطلق وعده" الغربة هنا ليست مكانية بل أنطولوجية: اغتراب الإنسان عن نفسه وعن نظام الكون. الأقدار كخصم دائم كل ما في النص يشي بالصراع بين الإنسان والقدر: "تعاندني الأقدار، وأحياناً تتخاتل وتخادعني" الأقدار تتحول إلى كائن ماكر، متربص، يعيد إنتاج الفقد والمعاناة باستمرار. لكن هذا الوعي لا يقود إلى استسلام بل إلى تمردٍ واعٍ: "ولهذا أتمرد وأثور.. فيزداد جحيمي، ولا أستسلم" إنها صيحة الكائن المقهور الذي اختار أن يكون فاعلاً حتى داخل جحيمه. البعد الاجتماعي والسياسي هذا النص لا يعبر عن وجود فردي تعيس، بل عن إنسان مظلوم في مجتمع ظالم. "الحق مقموعٌ فيها، والحب ممنوع، والعشق غواية عقوبته الإعدام" بهذه الجملة يختزل حاشد صورة اليمن والعالم العربي: مجتمع قهرٍ مزدوج — سياسي وأخلاقي — يعاقب الحياة نفسها. إنه يربط الخيبة الفردية بالظلم الجمعي، ويجعل من معاناته رمزًا لمعاناة الكادحين والمقهورين. جدلية الوعي والتمرد كلما ازداد وعيه، ازداد عذابه، لكنه في الوقت ذاته لا يرى في الجهل خلاصًا. إنه يفضّل جحيم الوعي على نعيم الخضوع. "أمارس وجودي إلى أقصاه، ضد الظلم وضد القهر وتعسف هذا الإرغام" التمرد هنا جوهر الوجود لا مجرد موقف سياسي. "لا" التي يكررها في وجه الطغيان ليست فقط كلمة رفض، بل فعل إثبات للذات. الرمزية الكثيفة رمز "بطن الأفعى" من أكثر الصور تعبيرًا عن الوجود المأكول: "في بطن الأفعى أعيش وأموت.. تفح الأفعى بالسم والسم زعاف" الأفعى هنا رمز للحياة ذاتها — أو للسلطة — التي تلتهم الإنسان وتذوبه في حمضها. ومع ذلك، يظل يصرخ، يحتج، حتى وهو "مسلوق في بطن الأفعى". اللغة والأسلوب لغة النص مجازية غنية، مفعمة بالحركة الحسية: الضوء، الماء، العتمة، النار، البحر… تتجسد الأشياء ككائنات حية تشارك الشاعر وجعه. ويغلب على الأسلوب الإيقاع المتوتر، الذي يتنقل بين السرد والتأمل والتصوير الشعري. اللغة نفسها تمارس التمرد: تتمرّد على التوصيف البارد لتتحول إلى اعتراف وجودي. قراءة تحليلية لغوية جمالية نص "ولادة مترعة بالخيبة" ل"أحمد سيف حاشد" بوصفه نصًا سرديًا ينهض على رؤية وجودية وإنسانية متمردة، ويحوّل التجربة الفردية في الألم إلى بنية لغوية مفعمة بالشعرية والمقاومة. يقدّم "حاشد" في النص تجربة لغوية تتجاوز حدود السرد الواقعي، لتلامس تخوم الشعر والفلسفة. النص ليس مجرد استذكار لميلادٍ تعيس، بل هو تفكيك فلسفي لجذر الوجود الإنساني في بيئة قهرية. يمارس "حاشد" عبر اللغة فعل التمرّد، فيجعل منها وسيلته للاحتجاج على الأقدار، وعلى العالم الظالم الذي لم يختره. البنية اللغوية العامة لغة النص تنتمي إلى السرد الشعري المكثف، حيث تتجاور الجمل الطويلة الوصفية مع الجمل القصيرة المقطّعة. تميل الجمل إلى التوازي والتكرار، مما يمنح النص إيقاعًا داخليًا يعكس تردّد الذات وتموّجاتها النفسية. النصّ يقوم على تدفّق لغوي غير منقطع، يشي بحالة تيار الوعي، إذ تتلاحق العبارات كأنها انسياب داخلي لا يخضع لمنطق زمني صارم. اللغة هنا ذات بعد وجداني لا وصفي؛ فهي تصوّر العالم من داخل التجربة لا من خارجه. لذلك يغيب السرد التقليدي (بداية – ذروة – نهاية)، ليحل محلّه سرد تأملي يعبّر عن مأزق الوجود والوعي. الصورة الفنية والتشكيل الجمالي وتتجلّى جمالية النص في الصور المركّبة والمكثّفة، التي لا تُستخدم للزينة البلاغية بل لبناء الرؤية الفكرية. من أبرز الصور: "في حجرة حاسرة الضوء وميالة نحو العتمة" "الضوء يحبو وهو يقاوم عيَّه" "في بطن الأفعى أعيش وأموت" هذه الصور تستند إلى التشخيص (personification)؛ فالضوء يتحوّل إلى كائن ضعيف يحبو، والأفعى إلى رمز شامل للحياة القهرية. تُجسّد الصورة هنا العلاقة بين الذات والعالم: الذات واهنة، والعالم خانق. إنها صور وجودية تحمل في داخلها رمزية مزدوجة: العتمة = القهر، الجهل، القدر الجبري. الضوء = الوعي، المقاومة، الأمل الواهن. تبدو اللغة كأنها تتصارع بين هذين القطبين، لتخلق جمالًا نابعًا من التناقض بين الرغبة في الحياة والوعي بجحيمها. الإيقاع والتكرار وعلى الرغم من أن النص نثري، إلا أنه يحتفظ ب إيقاع داخلي قوي يعتمد على: 1- التكرار الصوتي والدلالي: "ولدتُ شقيًا… ولدتُ منهوكًا…" "أكرهت وجودًا وحياة…" 2- التقابل التركيبي: "أمارس وجودي إلى أقصاه، ضد الظلم وضد القهر وتعسف هذا الإرغام." الإيقاع هنا ليس تجميلاً لغويًا، بل تجسيد للتمرد والاحتجاج. فالتكرار يعبّر عن الإصرار، وعن المقاومة المستمرة للقدر. بهذا يصبح الإيقاع أداة لتفريغ الألم وتحويله إلى موسيقى داخلية نابضة. المعجم الدلالي يلاحظ أن النص يتأسس على حقلين دلاليين متضادين: الحقل الأول (القهر والظلمة) الحقل الثاني (الضوء والمقاومة) عتمة – وجع – بؤس – أفعى – سم – ضيق – جحيم- ضوء – صرخة – لا – تمرد – وجود – مقاومة والتضاد بين هذين الحقلين يمنح النص توترًا دلاليًا مستمرًا، ويخلق دينامية جمالية تنبع من الصراع ذاته. الأسلوب وبنية الجملة يميل الأسلوب إلى الانفعال والتقطيع، ويكثر فيه استخدام النقاط المتتالية (…) التي تمنح النص إيقاعًا مترددًا متقطعًا. هذا التقطيع يعكس الاضطراب الداخلي للذات، ويحوّل اللغة إلى صدى للوعي المتوتر. كما تتكرر أدوات الربط (الواو، الفاء) لتعبّر عن تواصل المعاناة وتراكمها دون فواصل زمنية أو نفسية. والجملة عند "حاشد" ليست بناءً نحوياً جامداً، بل نَفَس شعوري يمتدّ ويتقطّع تبعًا لحالة الكاتب النفسية. التناصّ الثقافي والفلسفي يستدعي "حاشد" في نصه أصواتًا فكرية وإنسانية عدّة: استحضار مقولة الفيلسوف: "وجدت نفسي مع العالم على غير وفاق"، في إحالة إلى النزعة العبثية–الوجودية. التلميح إلى محمود درويش: "المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم"، بما يربط التمرد الفردي بالنضال الجمعي. الإشارة إلى كتاب "الجنس البشري الملعون"، كرمز لاحتقار الإنسان في عالم ظالم. وهذه التناصّات منحت النص بعدًا فكريًا عالميًا، وأخرجت تجربة "حاشد" من إطارها المحلي إلى أفق إنساني كوني. الجمال المتولّد من القبح يكمن جوهر الجمال في هذا النص في قدرته على تحويل القبح إلى لغة مشعّة. و"حاشد" هنا لا يتجمّل على واقعه، بل يصوّره بكل قسوته، ويستخرج منه جمال الوعي. إنها شعرية الألم التي تجعل من الوجع طاقة جمالية، ومن الخيبة مادة فنية. فاللغة هنا لا تداوي الجرح، بل تمنحه شكلاً فنياً خلاقًا. ويُعدّ نص "ولادة مترعة بالخيبة" نموذجًا فريدًا لالتقاء اللغة الوجودية بالأسلوب الجمالي. وفي النص يحول "حاشد" المأساة الفردية إلى تجربة إنسانية شاملة، ويجعل من لغته أداة مقاومة لا مجرد وصف. وتظهر جمالية النص في: توتر اللغة بين الضوء والعتمة. إيقاع التكرار المتحدّي. الصورة الرمزية العميقة. صدق التجربة الداخلية. إنها كتابة تمارس التمرد الجمالي، حيث يصبح الحرف سلاحًا ضد العبث، واللغة بيتًا للوعي في مواجهة الوجود القسري. الرموز والدلالات في النص الحجرة المظلمة: تمثل بداية الوجود في عالم خانق، يفتقر للنور والحرية، وتتحول إلى رمز للواقع اليمني والعربي المقموع. الضوء الخافت: يرمز إلى الأمل الضئيل والمشوش، وإلى المعرفة التي تُحجب، فلا ترى إلا بعد معاناة وجهد بصري وبصيري. الأم المتوجعة: تمثل الأرض والوطن والأصل الذي يلد أبناءه في الألم، كما تمثل صورة الأم الكونية التي تمنح الحياة رغم المخاطر. الخروج من بطن الأم إلى بطن الأفعى هو الانتقال من رحم الحياة إلى رحم الموت الرمزي صورة قوية لواقع الوجود المأزوم بالاستبداد والعبث. الأفعى هنا ليست فقط رمزًا للشر، بل رمز للنظام القاهر الذي يبتلع الإنسان ويهضمه حتى الفناء. مقارنات نص أحمد سيف حاشد "ولادة مترعة بالخيبة" مزيج فريد يجمع بين القلق الوجودي الغربي والنبرة النضالية العربية، ليصبح بياناً أدبياً عن رفض الظلم منذ لحظة الولادة الأولى؛ فإذا ما اردنا مقارنة مختصرة لنص "حاشد مع وجودية سارتر وكامو وكافكا لقلنا: نص "حاشد" يتشارك معهم في الإحساس بالعبث والغربة ورفض المعنى الجاهز للوجود، فيما الاختلاف أن "حاشد" في نصه يتجاوز العدمية الغربية لينقل التمرد من المستوى الفلسفي المجرد إلى المواجهة السياسية والاجتماعية الملموسة ضد أنظمة القهر. "حاشد" في هذا النص يتشابه مع فرانز كافكا باستخدم نفس الأجواء الكابوسية حيث الفرد محاصر أمام قوة غامضة وساحقة، ولكن ينتهي أبطال كافكا إلى الاستسلام، فيما نص حاشد ينتهي بنبرة تمرد ورفض صريح مما يضيف أفقاً للمقاومة. "ولادة مترعة بالخيبة" يعبر فيه "حاشد" عن فقدان الحرية الأصلية التي تبدأ منذ الميلاد، فيتخذ الرفض والتمرد طريقًا للكرامة، والنص متشرب بفكر العدمية والتمرد الوجودي كما عند سارتر وكامو، لكنه يتجاوزه إلى تمرد أخلاقي وسياسي، فالتمرد هنا ليس رفضًا للحياة فحسب، بل إعلان للكرامة الإنسانية في وجه القهر، وهو ما يعكس روح الكاتب كمفكر ومناضل حقوقي. رغم العدمية الظاهرة، لا ينتهي نص "حاشد" إلى اليأس، بل إلى فعل مقاومة مستمر وهو مسك ختام يجعل النص نشيدًا للحرية أكثر منه مرثية للخيبة، والتحول في النص من عجز إلى التزام أخلاقي يعيد بناء معنى الإرادة الحرة داخل قيود قسرية تمثّل ذروة الرؤية الأخلاقية للنص. أما مقارنة نص "ولادة مترعة بالخيبة" في الأدب العربي مع عبدالرحمن منيف فنجد تشابه كلاهما في ربط المعاناة الشخصية بالمعاناة الجماعية، وكلاهما ينتقدان الاستبداد السياسي والاجتماعي، فيما الاختلاف إن أحمد سيف حاشد يغوص في المستوى الوجودي الأولي (لحظة الولادة ذاتها) مما يمنح نقده عمقاً فلسفياً أكثر إيلاماً. نص "ولادة مترعة بالخيبة" أحمد سيف حاشد في النصف الأول من ظهيرة نهار شتوي بارد، كان ميلادي ووجودي المنكوب بأقداري التعسة.. مسقط رأسي كان في دار منبعج من إحدى جهاته, في حجرة حاسرة الضوء، وميالة نحو العتمة. فيها كُوى خانقة للضوء، بالكاد تسمح بمرور بصيص منه.. ضوء باهت، بزاوية مكسورة.. يصل إلى قاع الحجرة وهناً يحبو وهو يقاوم عيَّهُ.. الضوء الخافت لا يكفي لترى ما تبحث عنه.. عليك أن تمعن نظرك وتجهد عينيك لترى أشياءك. الباب إن انفرج أو فُتح إلى أقصاه.. بالكاد يمر إليه قليل من ضوء محسور.. يتسلل من طابقنا العلوي.. يتكسر في درج الممشى إلى الأسفل.. يخطو ككهل بلغ من العمر عتياً، لا يقوى على السير، في طريق ملوي على قطب الدار، يصل إلى الحجرة عيّاً مجهداً. في قاع الحجرة هناك وعاء مملوء بالماء وأشياء أخرى، ومجمرة في زاوية منها تنفث طيباً وغموضاً، وتمتص بعضاً من وهن الضوء، وتزفر غماماً وضباباً تحجب رؤيا.. وفي الكوة مُرٌّ وحلتيتٌ ولبان عربي، وسُخام وسراج تحاول ذبالته المحترقة أن تنشر ضوءًا مرتعشاً بين السقف والجدران.. السقف من أعواد أشجار العاط، وخشب السدر المثقل بالطين، المطر إن كب على السطح بات قاع الحجرة أوعية وآوني تتلقّف نُطفِه. أمّي تتلوى ألماً.. تصرخ ولولة في لحظات مخاض، حبل مربوط إلى خشبة سقف الحجرة، يداها ممسكتان بعُقد الحبل بثبات أملاً في عبور جدار من وجع يصطك ببعضه، وألم يمتد ويتمدد، ووجس في النفس يدركها والخوف من الموت نفاس. خرجتُ من بطن الأم إلى ظهر الدنيا أصرخ ببكائي محتداً محتجاً على مجهول قدمتُ إليه دون إرادة.. ولدتُ شقيّا في ريف ناء صعب.. خرجتُ منهوكاً ووجهي مزدحم بوجوم وعبوس، وعيناي متورمتان بإحساس الغربة.. تسألني الغربة: "من أنت؟ ومن أين أتيت؟" فأجيب: لا أدري.. من مجهول إلى مجهول.. ضحية أمر واقع، ومجلوداً به. لا حول لي ولا قوة في ممشى لم أخترهُ.. أقدار فرضت ما ليس لي فيه خيار أو حيلة.. استقبلت الحجرة وجودي الفائض عن حاجته بضوء خافت, كاد صراخي يمزقه إرباً.. لو كان خيار لي قبل وجودي وبوعيي هذا لما اخترت وجودي.. وسخرت من حياة فيها البؤس عميم.. حياة مملوءة بالظلم المكتظ.. الحق مقموعٌ فيها، والحب ممنوع، والعشق غواية عقوبته الإعدام. استهديت إلى تاريخ ميلادي.. ولدتُ في 16 فبراير 1962 الموافق 12 رمضان، وعام هجري تاهت منّي أرقامه، قالوا طالعك الحوت، والبرج هو الدلو، وفي حساب الأحرف برج الأسد على اسم الأم، والجدي "شواح بواح" على اسم الأم الغارب، والمتقادم عهده، وبرج النمر الصيني في مولود العام. يد العمة "سنبلة" زوجة عمي، استقبلت جسدي المُنهك من أول طلّه، عريانَ منكوت الرأس.. قالوا: المولود يأخذ من قابلته بعض طباع وصفات، هذا ما يُحكى ويُشاع على العادة في قرانا المسكونة بحكايات الجدّات. خبر وجودي المتعوس خبر سار على وجه الأهل، فرحة تموج على وجه أبي، ووجوه الأخوال تنبض بهجة، أمّي غمرتها الفرحة، كان القادم ذكراً لا أُنثى.. ذكر يُبنى له متراس. وعي ذكوري ووجوم يكلح إن كانت المولودة أنثى، مازلنا نعيش الزمن الغابر. الأنثى أمر واقع، وفيه قبول المُكره.. مضض من أول وهلة، ثم يعتادون عليه.. كانت أمّي تميّزني بفيض زائد.. في الحب والمأكل والمشرب.. تريدني بسرعة ريح عاصف، أكبر وأشتد في وجه الدنيا. كان لخالي صالح باع في التنجيم، وفي كتاب "الرمل".. يبحث في طالعنا والأبراج.. سمّاني أحمد.. قال إن ميلادي سعيدٌ، بل وأكثر من هذا قال، غير أن الواقع كان له القول الفصل، حظ عاثر وبؤس ومتاعب.. نصيبي من السعد قليل.. البؤس حل معي طوال عقود ستة، صار بعضاً منّي أو صرتُ بعضاً منه.. تعاندني الأقدار، وأحياناً تتخاتل وتخادعني، حياتي بؤس وشقاء.. حظي في وجه الريح أشتات ونثار، وفي الأمر الواقع أهداب تقاتل سيف. يتوالى السوء والحظ العاثر، الفرحة إن تمت فبشق النفس.. أجتهد وأكدُّ، وحصاد لا يشبع جوعاً، جهد يُضني، وحال يشتد.. الجنيُ قليل، والقلة تستولي على الوفرة.. الوفرة تستولي عليها الغلبة بالسيف.. صرت ألج في العقد السادس، والحال أقرف من أمس.. كد وتعب.. مجهول وضيق في العيش وضنَكُ حياة. أنا الموجود دون رضاي.. وجدتُ من أجل أموت.. حكمة لم أفهمها.. في بطن الأفعى أعيش وأموت.. تفح الأفعى بالسم، والسم زعاف؛ فأجد نفسي مسلوقاً في بطن الأفعى.. تلويني كي تهضمني على جذع شجرة يبست حتى صارت صلدةً، أصلب من صخر صوان.. تهرس جمجمتي وعظامي.. تعصرني بالحمض الناري.. تحرق آمالي.. الواقع عسف ووبال.. أنا موجود في بطن الافعى غصباً عنّي.. وجدتُ ولم أجد فسحة رفض قبل وجودي، ولا مهلة فيها أشاور نفسي.. قطعوا عنّي طريق العودة إلى عدمي قبل وجودي، أو حتى العودة إلى بطن الأم!! النار أمامي تجتاح مداي، والبحر يركض بعدي فاغراً فاه.. أنا لم أختر اسمي أو معتقدي.. لم أختر مكان وجودي، ولا حتى تاريخ الميلاد.. الغربة تلاحقني والويل يطلق وعده، أعيش معركة الإرغام ليل نهار، والمجهول يترصد خطواتي ذهاباً وإيابا. لو كنتُ على وعيي هذا، وكان عليّ أن أختار.. لاخترت عدمي، ورفضت وجودي بدل المرة ألف، وجودي قسري رغماً عنّي.. ولهذا أتمرد وأثور.. فيزداد جحيمي، ولا أستسلم. أُكرهتُ على هذا الحال.. أُكرهتُ وجوداً وحياة.. لست براضٍ عن حياةٍ يفرضها البؤس ويتعممها الطغيان.. لست براضٍ عن حال فيه الأصل "استغلال الإنسان لأخيه الإنسان".. يسفك دمه، ويزهق روحه على نحو لا تجرؤ عليها وحوش الغاب، هل قرأت كتاب "الجنس البشري الملعون"؟! أنا من وجد نفسه يمج خيبته ويكرر مقولة فيلسوف: "من يوم ميلادي وجدت نفسي مع العالم على غير وفاق". أحياناً أحتفل بميلادي كسراً للروتين.. بعيد الميلاد أسافر بعيداً عن وعيي.. أخرج من وعيي محتجاً أخفف بعض معاناة وجودي.. أنتزع لحظة سعد من رأس عام قادم ليس أقل سواداً من سابقه.. الكاهل مثقل بالحزن، والحظ العاثر يرافقني طوال العام. الواقع سيء، والحقيقة مُرّة قالتها نوال: "وحشية وخطيرة"؛ فألوذ بخيال لأعوّض فقداني، وكثيراً من حرماني.. أتمرد على ما يفرضه الواقع من أقدار في وسط تتقبله الكثرة بخضوع وسكون. "لا" في وجه الظالم أقذفها.. أكررها في وسط ينعم ب "نعم".. أتذكّر مجد الأمل المنهك بالوعي وهو يقول: "المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم".. لآتي أقذفها في وجه الطغيان، وأكررها في وجه القطعان.. أدفع كلفتها مهما بلغت ذروتها.. أدفع وأمضي مهما ضاق واشتد الحال.. أدفع ثمناً منهِكاً ولا أستسلم.. جحيمي هذا بعض منه، ونزيف الروح.. ما دمتُ أنا موجوداً، لا بد وألف لا بد، أن أمارس وجودي إلى أقصاه، ضد الظلم وضد القهر وتعسف هذا الإرغام. * * *