في شوارع صنعاء التي يخيّم عليها الصمت والخوف، أصبحت ظاهرة الاخفاء القسري جزءًا من الحياة اليومية. موظفون أمميون، معلمون، طلاب علم، وناشطات حقوقيات.. جميعهم صاروا أهدافًا لآلة قمع لا تفرّق بين مدني وإنساني، بين من يحمل قلمًا أو من يوزّع شحنة غذاء. لم تعد الحرب التي يخوضها الحوثيون ضد اليمنيين حربًا تقليدية، بل تحولت إلى حرب متعددة الأوجه، تُدار عبر الاختطاف، التهجير القسري، والتجويع، والسيطرة على الوعي العام.
في الأسبوع الأخير من أكتوبر 2025، أعلنت الأممالمتحدة أن مليشيا الحوثي اقتحمت مكاتبها في صنعاء، بما في ذلك مكتب المبعوث الأممي، منظمة الفاو، ومفوضية اللاجئين، حيث صودرت أجهزة اتصال ووثائق حساسة، وتم اعتقال خمسة موظفين، بينهم امرأتان يمنيتان. وبهذا ارتفع عدد المحتجزين من موظفي الأممالمتحدة والمنظمات الدولية إلى 59 موظفًا لا يزال مصيرهم مجهولًا.
وقال المتحدث باسم الأممالمتحدة ستيفان دوجاريك: "ما يجري ليس حوادث فردية، بل حملة ممنهجة من الاحتجاز التعسفي تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني".
إحدى الموظفات الأمميات أكدت لموقع الصحوة نت أن "الاختطافات طالت حتى منسقي الإغاثة الذين كانوا يوزعون المساعدات الغذائية، وأن بعض المكاتب أُغلقت بالكامل بعد مصادرة مخازنها". مضيفة أن آلاف الأسر النازحة حُرمت من حصصها منذ سبتمبر الماضي، بعد أن حوّلت الجماعة المساعدات لمناطق تابعة لمشرفيها.
مشاهد دماج تتكرر
لم تقتصر الانتهاكات على المؤسسات الدولية، بل امتدت إلى مراكز التعليم الديني. ففي 24 أكتوبر، هجّرت مليشيا الحوثي أكثر من ثلاثة آلاف طالب من مركز السنة في منطقة سعوان بصنعاء، واستبدلت إدارة المركز بخطباء موالين لها.
يقول الطالب محمد (22 عامًا): "كنا ندرس القرآن دون أي نشاط سياسي أو عسكري. لكنهم داهموا المركز ليلًا وصادروا كتبنا وأجبرونا على الرحيل خلال ساعات. ويضيف"الآن نعيش في منازل متهالكة في مأرب بلا مصدر رزق". القيادي في حزب الرشاد عبد الرحمن الأعذل وصف الحادثة بأنها "جريمة تهجير ممنهجة تذكّر بمأساة دماج عام 2013". وأكد أن الجماعة "تسعى لإفراغ العاصمة من أي تنوع ديني أو مذهبي وتحويل المساجد ودور التحفيظ إلى منابر تعبئة طائفية".
4600 مختطف وصمت دولي مريب
بحسب تقرير منظمة سام للحقوق والحريات (أكتوبر 2025)، بلغ عدد المختطفين والمخفيين قسرًا في سجون الحوثيين أكثر من 4600 شخص، بينهم 380 امرأة وعشرات العاملين في الحقل الإنساني والصحفيين. وأشار التقرير إلى وفاة 37 محتجزًا تحت التعذيب خلال الأشهر التسعة الأولى من العام ذاته.
تقول المحامية وداد علي: "أغلب المختطفين يُجبرون على تسجيل اعترافات تحت الإكراه، فيما تُبتز أسرهم ماليًا. هناك أسر باعت ممتلكاتها للإفراج عن أبنائها".
معاناة الموظفين تتفاقم
داخل صنعاء، يعيش آلاف الموظفين الحكوميين دون رواتب، بينما تُصرف مبالغ مضاعفة للمقربين من الجماعة. يقول الموظف عبد الخالق: "أتقاضى نصف راتب كل ثلاثة أشهر. ابني اضطر لترك الجامعة لعدم قدرته على دفع الرسوم، بينما قيادات الحوثيين يشترون سيارات فارهة بشكل متواصل".
أما المهجّرون من مركز سعوان، فيعيشون اليوم في العراء أو في بيوت مؤقتة دون مأوى أو دخل. تقول أم خالد، وهي إحدى النساء المهجّرات: "لم يسمحوا لنا حتى بحمل ملابسنا. نحن اليوم نبحث عن مأوى خارج صنعاء لإنقاذ أطفالنا".
ويرى الناشط كمال حميد أن ما يجري "ليس مجرد إجراءات أمنية، بل هو مشروع لتطويع الوعي العام وإخضاع المجتمع لفكر الجماعة". ويؤكد أن السيطرة على المساجد والمناهج التعليمية تمثل جزءًا من "حرب ثقافية تهدف لصناعة جيل خاضع لا يعرف سوى فكر الجماعة".
وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية دعت مجلس الأمن إلى التحرك العاجل وفرض عقوبات على قادة الحوثيين المسؤولين عن جرائم الاختطاف والتهجير. وقالتا إن "استمرار الصمت الدولي يوفر غطاءً للمليشيا لترسيخ دولة بوليسية تقوم على القمع والفقر والتجهيل".
وفي ظل الوضع الراهن بين اختطاف موظفي الأممالمتحدة، وتهجير طلاب العلم، وانهيار حياة آلاف الموظفين المدنيين، تتكشف ملامح سياسة متكاملة هدفها كسر إرادة اليمنيين وتجريدهم من حقهم في الحياة الكريمة. ويبقى السؤال مفتوحًا: إلى متى سيظل اليمنيون رهائن في وطنهم، تحت سلطة جعلت من الخوف سلاحًا، ومن الإنسان رهينة؟