ارتقاء الإنسان بالوعي والمعرفة يزيد من إدراكه للألم والمعاناة.. الجهل أحياناً يُعد "وطنًا"، والوعي يصبح "منفى".. رحلة فكرية شاملة عبر تيارات الفلسفة الغربية والشرقية في تناولها لمعنى الوجود..
رغبة في التحليق.. !! أحمد سيف حاشد حياة ارّقت الوعي الإنساني بأسئلتها الوجودية الشبقة بالرغبة، والولّادة للمعرفة.. باحثة عن "الحقيقة الغائبة"، وساعية لإدراكها، وكاشفة عنها.. محاولات متكررة وثابة وشغوفة لإماطة اللثام وإزاحة الحُجب عمّا هو غامض وخفي ومُلتبس.. قلق وجودي لا يُخمد ولا ينطفئ عاشه الإنسان، ومازال يعيشه إلى اليوم. لقد عاش الإنسان تجاربه التي استفاد أو اتعظ منها، مراجعاً لأفكاره ومُجدداً لها، أو لما بليَ واهترأ منها، وشهد في بعضها ومسار صراعه معها، ونفيه لها، دفع كلفة كبيرة قتلاً ونزفاً وحرقا، ولطالما وجد بعضاً من مسلّماته التي كانت في الأمس البعيد أو القريب لا تُبحث ولا تُمس، والتسليم بها يتم رضاً أو كرهاً وقهراً، انتهت باهترائها وزوالها، أو اكتشاف ما غُبش منها، أو ما جانبته من حق وصواب وإدراك، ليتم فتح آفاق جديدة، وآمال واسعة مؤلفة لحياة أفضل، ودافعة للتقدم بحثاً عن المستقبل، وبحرية أوسع من ذي قبل. لطالما عاش الإنسان شكه لمعرفة خطئه من صوابه، وباحثاً عمّا يجهله، واكتساب مزيد من المعرفة، والوصول إلى ما تطمئن إليه نفسه.. ساعياً لإدراك حقيقة ما، أو مفردة منها، ومازال يبحث عن كثير لا ينتهي مما ما زال غائباً أو عالقاً أو غير مُدرك.. صراع طويل كان في كل محطة فيها، أو نهاية مطاف منه، ينتصر فيها العلم ومعه حق الحرية والمعرفة على الجهل المحروس بالقمع، و"اليقين" المعمور بالأوهام وما هو زائف، وبتطور العلم ومراكمة المعرفة استطاع الإنسان ومازال باستطاعته أن يغلب جهلة مهما طال وأستطال غيهبه وكهنوته وقمعه. لطالما عاش الإنسان بؤسه وشقاءه وتمرُّده، ومعها أسئلته المتحفّزة الباحثة عن إجابات تشفي غليله، وتطلّعه الشغوف والمستمر نحو ما يرجوه من تحقيق أمل، وفضوله المعرفي الذي لا يهدأ ولا يستكين وعيه الباحث والمنتج للمعرفة دون أن يكل أو يمل في مراكمتها وتطويرها.. وعيه الحافل بالأفكار، والنظريات والمخاضات الفلسفية والفكرية المتعددة في فضاء يُفترض أن لا يُحد، وجدل وهاج ومتلظٍ، وإشكاليات معرفية ووجودية بلغ ببعضها حد الاحتجاج الوجودي. * * * هل وُجِدنا صدفةً أم ضرورة، أم هناك جوابٌ آخر، أم أنَّ الجوابَ سرٌّ عصيٌّ في عالم الغيبِ؟! كيف جئنا إلى هذه الحياة؟! سؤال كان مبعثاً لحيرة متكررة، أرّق كثيرين من الفلاسفة والمفكرين والشعراء قديماً وحديثاً. في سباق ال 300 مليون حيوان منوي، واحد فقط من يلقِّح البويضةَ، ويتخلَّق في رحم الأمِ، وما عدا ذلك يُفنى ويموت. إنها صدفة تبدو أكثر من مستحيل.. أي صدفة هذه التي يصل فيها فارق النسبة 1 – 300 مليون تقريباً، وأيُّهما المحظوظُ فيهم، هل من ظفر بالحياة أم من أدركه الموتُ والفناءُ قبل أن يخرج إلى هذا العالم المتوحش والمضطرب؟! نجاحُ الواحد في سباق ال 300 مليون حيوان منوي، هو الذي كان سبباً لوجود كل واحد منّا!! وهو وجودٌ لو حاكيناه ربما اختاره البعضُ على أمل ورجاء ورضىً، وربما رأى البعضُ في المجهولِ شكاً ولا أمل في عالم مملوء بالوهمِ والأكاذيبِ. ربما رفض البعضُ هذا الوجود لو أُتيحت له الحرية، والإرادة في الاختيارِ الذي يقوم بحسب فلسفة ورأي هؤلاء على إدراك عميق ومعرفةٍ مستفيضةٍ. الحياةَ يراها هؤلاء أنَّها شقاءٌ وتعاسةٌ وعذابٌ للنفس؛ وأنَّ الفوزَ بها إنَّما هو فوزٌ بالألمِ والنَّدم والوهمِ، وما يتصوره البعضُ خسراناً، يراه البعضُ الآخر تحرراً مسبقاً من آلام الحياةِ وأوجاعها ومشقَّاتِها التي لا تنتهي إلاّ بالموتِ. يقول الروائي الروسي الكبير "دوستويفسكي": «لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضتُ الوجودَ في ظلِّ ظروفٍ ساخرةٍ إلى هذا الحد» وفي موضع آخر يقول: "أو ليس من الجنونِ أن نأتي بأطفالٍ في ظل هذه الظروف الحقيرةِ". الفيلسوف الروماني المثقل بالكآبة "إميل سيوران" يرى أن المحظوظين هم أولئك الذين لم يصلوا أصلا إلى البويضةِ، أما التعساءِ فهم من وصلوا إليها. وفي هذا الإطار يقول: «مِن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوانٍ، يُولد إنسان يشقى سبعين عاماً».. «اقترفتُ كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً». ويرى "شوبنهاور" أن «التضحية باللذة في سبيل تجنب الألم مكسب واضح»، ويقول عن الحياة إنها «تتأرجح كالبندول بين الألم والملل». فيما أوصى الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري أن يكتبوا على قبره: «هذا جناه أبي عليَّ … وما جنيت على أحدِ» * * * وتبدو الحياةُ حرباً في نظر الكاتب والروائي التشيكي "فرانس كافكا"، "حرب مع نفسك.. وحرب مع ظروفك.. وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف". ويرى "أنطون تشيخوف" أنَّه مع الموت ستكون أنت الرابحُ الأكبرُ، فلا حاجةَ للَّهث وراء الطعامِ، ولا الشرابِ ولا حاجة لدفع الضرائب، ولا حاجة ابداً للجدالِ مع الآخرين.. أما "إميل سيوران" في مأساة الوعي والوجود، فيرى أن الموت هو خلاصنا الأخير. ويسخر الكاتبُ والأديبُ الأمريكي مارك توين من الحياة والموت فيقول: "يُولد الناسُ ليؤلِم بعضهم بعضاً، ثم يموتون".. ويسخر آخرون من عبثيةِ الحياةِ كمثل الذي قال: خُلقتْ القطط لتأكل الفئران، وخُلقتْ الفئرانُ لتأكلها القطط.. وتساءل بعضهم عن هذه "العبثية" بقولهم: إذا كنّا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد؛ فلماذا تتركنا الطبيعةُ نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!. * * * الروائي الأمريكي "هرمان ملفيل" يرى "أن الحياة مجرّد مزحة فظة مارستها "الآلهة" علينا، وأن أفضل ما يمكننا فعله هو الانضمام إليهم وتشارُكُ اللعبة والضحكات معهم". فيما الحياة لدى المؤلف المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير ليست سوى خشبة مسرح، وممثل بائس مستمر في شعوره بالقلق طوال ساعاته على المسرح، وحكاية يملؤها الصخب والغضب ولكنها بلا دلالة. ويرى "شوبنهاور" أنّ الحياة هي المعاناة، وأن الوجود الإنساني فوضويّ، وبلا معنى. ويرى "نيتشه" أن الحياة لم تكن عادلة أبداً، وينكر وجود أي عناية إلهية مشرفة على شؤون البشر. أمّا "دوستويفسكي" فيرى الحياة هي الجحيم. ويراها "سقراط" الابتلاء، و"راسل" يرى أنها "ليست إلا منافسة يريد فيها كل منّا أن يكون المجرم لا الضحية". وعلى الضفة الأخرى الحياة عند "بيكاسو" هي الفن، وعند "غاندي" هي الحُب، وعند "إينشتاين" هي المعرفة، وعند "ستيفن هوپكنز" هي الأمل. أما "تولستوي" في قصة بالغة القصر عنوانها "الشيخ والموت" فيرى أن الحياة تبقى غالية مهما أوغل الإنسان في العمر، ومهما بلغت كهولته.. تقول القصة: "بعد أن احتطب شيخ في الغابة، وضع رزمة الحطب على ظهره. كان عليه أن يحملها بعيداً عن الغابة. وإذ أنهكه التعب، وضع حمله وقال: «وا أسفاه! ليت الموت يستطيع أن يأتي!». وفجأة جاء الموت وقال: ها أنذا، ماذا تريد منّي؟ أجاب الشيخ وقد تملكه الخوف: أريد أن تساعدني في أن أحمل هذا الحطب، مرة أخرى!". * * * ويربط البعض جدلياً بين الوعي، والألم الذي يشتد مع ازدياد الوعي، ويرى هذا البعض أنَّ ارتقاءك بوعيك، وتراكم معرفتك، يزيد من جحيمك، ومعاناتك في هذه الحياة. في هذا الصدد يقول "شوبنهاور": «لقد بينت الطبيعة أنه كلما تفهم أكثر، كلما تزداد قدرتك على الشُعور بالألم، ولا تصل الدرجة القصوى من الفهم، إلا وتصل إلى الدرجة القصوى من المعاناة». ويقول "كافكا": أول علامات بداية الفهمِ أنْ ترغب في الموتِ، وأنَّ الإفراطَ في الوعي وإدراك الأشياءِ اشدُ خطورة من المخدراتِ. ويرى "سيوران" أنَّ الوعي لعنةٌ مزمنةٌ، وكارِثةٌ مهُولةٌ، بل يذهب إلى القول إن الجهل وطن والوعي منفى!! ويبلغ "دوستويفسكي" في تصوير الإفراطَ في امتلاك الوعي أنه علَّةٌ مَرَضيةٌ حقيقيةٌ وتامةٌ. فيما ترى بعض الأديان أننا ولدنا لنموت، أو بالأحرى لنستعد للموت، وعلينا أن نشغل أنفسنا في حياة الدنيا من أجل الآخرة، والحياة الثانية، وأن نلقى وجه الله وهو راضٍ عنّا؛ فيدخلنا جنّته، ومن لم يفعل فجهنم داره وبئس المصير. قراءة تحليلية للنص باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي DeepSeek & chat GPT & Gemini نص «رغبة في التحليق» ل"أحمد سيف حاشد" والمنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" هو نصّ فلسفي غنيّ يتناول إشكالية الوجود والمعنى والمعاناة الإنسانية من خلال حوار مع أفكار عدد من الفلاسفة والأدباء كما يتناول النص الأسئلة الوجودية الكبرى التي تواجه الإنسان منذ نشأته، مركّزاً على الوعي، والمعرفة، والمعاناة الإنسانية. ويطرح حاشد رؤية تأملية فلسفية حول الإنسان ككائن يعيش صراعاً دائمًا بين الرغبة في إدراك الحقيقة وبين قساوة الواقع وعبثية الحياة. ويعتمد النص على التناص مع فلاسفة وأدباء عالميين لتقديم جدلية بين التشاؤم والأمل، والجهل والمعرفة، والوجود والمعنى. الإشكالية الأساسية يركز النص على إشكالية أساسية: هل الوعي والمعرفة مصدر تحرر أم سبب للمعاناة؟ ويربطها بسؤال وجودي أقدم: هل وُجد الإنسان صدفة أم ضرورة؟. ويظهر الكاتب أن هذه الأسئلة لا تهدف للوصول إلى إجابات قطعية، بل لإبراز الجدل المستمر داخل النفس البشرية حول معنى الحياة والموت والوعي. محاور النص 1- الإنسان والقلق الوجودي الإنسان كائن قلق يبحث عن الحقيقة والمعرفة. القلق الوجودي يولّد رغبة مستمرة في فهم الحياة. العلاقة بين التجربة الشخصية والفهم التاريخي للإنسان ووعيه. 2 – صراع الإنسان مع الجهل واليقين الزائف ينتصر العلم والحرية والمعرفة على الجهل والأوهام. ويسلط النص الضوء على أهمية الشك في الوصول للمعرفة. التناص مع الفلسفة الحديثة والوجودية لتعزيز فكرة البحث الدائم عن الحقيقة. 3- الوجود، الصدفة، والمعنى مثال "سباق 300 مليون حيوان منوي" لتوضيح الاحتمال والعبثية. الحياة قد تبدو حدثاً عبثياً، لكن الوعي الإنساني يفرض التأمل والسعي وراء المعنى. استعراض آراء فلاسفة وأدباء مثل شوبنهاور، كافكا، سيوران، دوستويفسكي حول قسوة الوجود. 4- الوعي والمعاناة ارتقاء الإنسان بالوعي والمعرفة يزيد من إدراكه للألم والمعاناة. الجهل أحياناً يُعد "وطنًا"، والوعي يصبح "منفى". ويبرز النص تناقض الوعي: قوة على الفهم، لكنه عبء نفسي ومعرفي. 5- الحياة كمسرح وتجربة التناص مع شكسبير وهرمان ملفيل: الحياة مسرحية أو مزحة إلهية. تولستوي: الحياة غالية رغم المعاناة، والموت ليس نهاية كل شيء. الحياة مزيج بين الألم، العبث، والمعرفة، والرغبة في التحرر والتقدم. البنية الأسلوبية اللغة: أسلوب بلاغي وفلسفي تأملي. الإيقاع: تكرار المقارنات والتناقضات يعطي النص إيقاعاً جدلياً. التناص: استخدام آراء الفلاسفة والأدباء العالميين لإثراء النص وجعله جدلياً معرفياً. البنية الجدلية: نص قائم على التناقض بين وجهات النظر المختلفة حول الوجود والمعرفة. دور الوعي والألم يخصص احمد سيف حاشد جزءاً مهماً لربط الوعي ب" الألم والمعاناة".. و يزعم النص أن ازدياد الوعي وتراكم المعرفة يزيد من "الجحيم والمعاناة"، مستشهداً بشوبنهاور وكافكا وسيوران ودوستويفسكي. و عبارة "الجهل وطن والوعي منفى" لسيوران تلخص هذه الفكرة بعمق، حيث يصبح الإدراك العميق للعبثية والشقاء عذاباً يفوق المخدرات (كما يقول كافكا). في هذا الإطار، يمكن فهم "رغبة التحليق" كرمز ل "رغبة التحرر من الألم الوجودي والمعرفي"، أو رغبة في الخلاص من واقع مرهق ووعي مؤلم. الرسالة الأساسية وفي النص يقدّم أحمد سيف حاشد الإنسان ككائن يسعى دائماً وراء المعرفة، رغم الألم والمعاناة الملازمين لذلك. والرغبة في التحليق رمز للحرية والوعي والمعرفة، وهي سعي مستمر لتجاوز الجهل واليقين الزائف. الأسئلة الكبرى حول الحياة والموت والوجود ليست للتفسير النهائي، بل لإبراز طبيعة الصراع الإنساني المستمر. يُعد نص «رغبة في التحليق» تأملاً فلسفياً عميقاً يربط بين الوعي، المعاناة، والمعنى الإنساني. وفيه يقدّم حاشد رؤية متوازنة تجمع بين التشاؤم والفلسفة الوجودية من جهة، والأمل والتحرر من جهة أخرى، ليبرز أن الحياة، رغم صعوبتها، تمنح الإنسان فرصة للتعلم والتحليق بمعرفته ووعيه. رحلة فكرية والنص يمثل رحلة فكرية شاملة عبر تيارات الفلسفة الغربية والشرقية في تناولها لمعنى الوجود. ومن خلال النص، حرص حاشد على ابراز التناقض الأساسي في الطبيعة البشرية، والمتمثل في البحث عن المعرفة رغم علمها بأنها تزيد الألم، والسعي للحياة رغم إدراك عبثيتها. قلق ووعي وشقاء وفي المجمل يعد نص "رغبة في التحليق" ل"أحمد سيف حاشد" صيحة أدبية وفكرية تعكس قلق المثقف اليمني والعربي أمام الأسئلة الوجودية والواقع المعاش. ويزاوج حاشد ببراعة في نصه بين التاريخ الفكري الإنساني (من سقراط حتى نيتشه) وبين الواقع المعاصر، ليؤكد أن حياة الإنسان هي صراع لا ينتهي بين "رغبة" التحرر والارتقاء (التحليق) و"قيود" الواقع التي تجعل هذا التحليق صعباً أو مستحيلاً. والنص في كنهه هو دعوة غير مباشرة للوعي، مع الإقرار بالثمن الباهظ لهذا الوعي المتمثل في الشقاء والمعاناة.