لم يعرف القضاء اليمني مرحلة أكثر قسوةً وإذلالًا من مرحلته الراهنة، إذ لم يعد التجويع وسيلةً عرضية، بل سياسة ممنهجة تستهدف القاضي في رزقه ومكانته وسمعته، تحت عناوين براقة ظاهرها "الإصلاح"، وباطنها تفكيك ما تبقى من سلطة قضائية مستقلة. وبعد أن مُنع القضاة من كتابة العقود والبصائر الشرعية، جاء التعميم الأخير لهيئة التفتيش القضائي رقم (15) لسنة 1447ه ليُكمل الحصار بمنع القضاة من ممارسة أعمال القسمة، رغم أنها من صميم اختصاصهم الشرعي والعلمي، ومظهر من مظاهر خبرتهم القضائية الراسخة. ولكي لا ينكشف الهدف الحقيقي، أُدرجت في التعميم عبارات عن "العدل" و"الحراسة القضائية" لتمريره أمام الرأي العام، مع أن هذه المهام نادرة الوقوع أصلاً، ولا يُكلَّف بها قاضٍ. إنها محاولة مقنّعة لتجفيف موارد القاضي الشريف الذي لا يمد يده لأحد، ومحاصرته بين الجوع والعوز، حتى يُصبح تابعًا خانعًا لا حارسًا للعدل. بين التجويع والتشويه كان الأجدر بالدولة – إن كانت حقًا حريصة على نزاهة القضاء وهيبته – أن تبدأ بإعلان ترفيع رواتب القضاة بما يكفي لتأمين حياة كريمة لهم، قبل أن تُعلن حربها على موارد دخلهم المشروعة. فالقاضي الذي لا يتجاوز راتبه أربعمائة دولار، بينما إيجار شقته وحده يقارب مائتي دولار، كيف يُطلب منه أن يعيش بكرامة؟ كيف يُنتظر منه أن يكون حصنًا للعدالة وهو لا يجد ما يسد رمق أسرته؟ بل إن المقارنة تُصبح مؤلمة حين نعلم أن راتب القاضي في الصومال – التي خرجت من حرب أهلية – لا يقل عن ألفي دولار شهريًا! فهل هذا هو الجزاء لمن يحمل أمانة القضاء في اليمن؟ الاتهام بالرشوة… نتيجة التحريض لا الدليل لقد تحوّل القضاة في الخطاب الإعلامي الرسمي إلى متهمين جاهزين بالرشوة، لا بفعل دليلٍ أو واقعةٍ محددة، بل نتيجة تحريضٍ ممنهجٍ هدفه تشويه صورة القاضي أمام الناس لتبرير فشل الدولة في إدارة العدالة. وفي الوقت الذي كانت فيه بعض موارد الدخل المشروعة (ككتابة العقود أو أعمال القسمة) تغطي ما يعجز الراتب عن تغطيته، تم إغلاقها جميعًا بقرارات متلاحقة. وهنا يُطرح السؤال الصارخ: إذا أُغلقت أبواب الرزق الحلال أمام القضاة، وبقي راتب لا يكفي أسبوعًا، فبماذا سيتهمون؟ أليس في ذلك دفعٌ لهم إلى الرشوة دفعًا؟ أليس من التناقض أن تُجرَّم الدولة أسباب الكفاف، ثم تتباكى على فسادٍ تصنعه بيديها؟ فساد السلطة لا يُبرر شيطنة القضاة السلطة السياسية تُحاول اليوم أن تُلقي بفشلها وفشل سابقتها التاريخي في الإدارة والعدالة على القضاة أنفسهم، مع أن الفساد الحقيقي إداري ومالي متراكم لعقود من الفساد السياسي ، بدأ من رأس السلطة، لا من قلم القاضي. القاضي الذي يعمل في محكمة متهالكة، بلا كهرباء ولا أوراق ولا موظفين، ولا نفقات تشغيلية ، ثم يُتهم بالفساد لأنه يطلب حياة كريمة، هو ضحية الفساد لا صانعه. والذي يُجَوَّع عمدًا ثم يُدان إعلاميًا، إنما تُراد له الإهانة لا الإصلاح. إصلاح القضاء لا يكون بالتجويع إن العدالة لا تُبنى على بطونٍ خاوية ولا على كرامةٍ منقوصة. وكل إصلاح يبدأ بتجويع القاضي هو إفسادٌ باسم الإصلاح. القاضي الشريف يحتاج راتبًا كريمًا لا موعظة سياسية، وبيئة عمل محترمة لا تعميمات تُحاصره في رزقه. فمن أراد إصلاح القضاء فليبدأ بإصلاح الدولة التي تُديره، لا بإذلال من يقيم ميزانها. تشويه القاضي… سياسة ممنهجة إن أخطر ما في هذه التعميمات ليس مضمونها الإداري، بل رسالتها السياسية: محاولة تشويه القاضي أمام الرأي العام، وإقناع الناس بأن القاضي هو سبب الفساد، تمهيدًا للإقصاء والإحلال المُسَيّس. وإن كانت القيادة السياسية ترى أن من حقها إعادة بناء الجهاز القضائي أو تعيين قضاة جدد، فليكن ذلك عبر القنوات الرسمية ووفق معايير الكفاءة والنزاهة، وليس عبر تحطيم صورة القاضي السابق وتشويه تاريخه وتجويعه حتى يخرج من السلك القضائي مكرهًا لا مختارًا. القضاة لا يخافون الإحلال ولا يخشون التغيير؛ بل يتمنون أن تُعيَّن آلاف الكوادر القضائية الجديدة لتخفيف العبء الهائل الذي أنهكهم وأتلف صحتهم وأعمارهم، ولكنهم يرفضون أن يُقدَّموا للرأي العام ك"فاسدين" لتبرير فشل سياسي مزمن لا يد لهم فيه. كلمة أخيرة القاضي ليس خصمًا للدولة، بل عمودها وميزانها، فإذا كُسر الميزان انهار العدل وسقطت الدولة. فاتقوا الله في القضاء، واحفظوا هيبته، ولا تجعلوا من القاضي ضحية الفساد بدل أن يكون سيف العدالة عليه. فالقاضي الذي يُجَوَّع لا يستطيع أن يكون حرًّا، ومن لا حرية له، لا عدل عنده. بوابة القانون والقضاء… موقفٌ وضمير، مع إصلاح القضاء، وضد اغتيال كرامة القضاة ،مع محاربة الفساد، وضد شخصنته في سدنة العدالة وحراسها. نقلا عن بوابة القانون والقضاء