المجتمع الذي يخاف من السؤال يظل أسير التكرار والجهل.. أخطر أنواع الجهل ليس غياب المعلومة، بل منع السؤال، والعيب الأكبر هو الخوف من الحقيقة.. المجتمع الذي يُحرِّم السؤال في البيت، سيقبل الكذب في الدولة..
العيب المعوَّق للمعرفة أحمد سيف حاشد كنت أتساءل بتلقائية، بدافع من معرفة ما زلتُ أعيش مهدها.. أحاول أطرق باب عالمي لاستكشاف أوله.. بعض ما هو بديهي كان ما يزال لدي محل غموض وحيرة وسؤال.. ببراءة طفل كنت أسأل أمي، ثم أنتقل بالسؤال وبوثبة واحدة من المحسوس إلى المجرد، ومن الملموس إلى ما وراء الطبيعة.. أسئلة كنت ألقيها ببراءة طفل ما زال حديث عهد بعالمه. تارة أحاول من خلال السؤال أن أفهم محيطي القريب، وتارة أخرى أجد نفسي أنتقل إلى ما هو وجودي وكبير.. ربما يأتي السؤال سهلاً بوجه، وممتنعاً بآخر.. ربما لا يتم الرد عليه، أو يتم الرد عليه ولكن على نحو كاذب ومغلوط لمانع اجتماعي، أو لجهل وعدم دراية، أو لأمر آخر كان يستصعب عليّ فهمه. كنتُ لا أدرك بعض موانع العيب التي جرى عليها الحال، ولا أفرّق بين سؤال مسموح به وجائز، وآخر ممنوع ومكروه.. كنتُ لا أعرف أن هناك مناطق محظورة أو غير مسموحٍ أن يجول فيها السؤال. أحياناً كنتُ ومن دون دراية أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على الممنوع، حتى وإن كان طفلاً بريئاً يحاول استكشاف عالمه. أسئلة كانت الإجابة عليها، مُحفّزاً لمزيد آخر من الأسئلة المتوالدة منها أو المتداعية بسببها، وبعض الإجابات مهما كانت خاطئة أو متعمداً كذبها، تنطلي علي إلى حين، معتقدا بصحتها، ثم تعود وتستأنف تلك الأسئلة وجودها ووهجها مرة أخرى بسبب شك، أو انكشاف حدث، أو مستجد جد. بعض تلك الإجابات في مرحلة لاحقة لمعطاء ما، أو مستجد استجد، وبعد رضى ربما دام لحين، أجدُ تلك القناعة قد تبددتَ، وذلك الرضى قد تلاشى، وأجدُ نفسي قد صرتُ مرتاباً فيما سلف من إجابة، أو بات الشك أكبر من السؤال، فيستعيد ذلك السؤال وجوده وحضوره مرة أخرى، ولكن بقوة وإلحاح أشد. كانتَ أمّي أحياناً تتذاكى، وتأتي بكذبة ما جواباً لسؤالي، هروباً من استحقاقي لجواب السؤال؛ ربما يحدث هذا لمانع شديد الوطأة من وجهة نطرها، وهي غالباً كذبة لا يطول عمرها، بل ينطبق عليها المثل "حبل الكذب قصير"، وما إن تتكرر الواقعة أو يتبدل الحال حتى يعود ذلك السؤال إلى الواجهة، وعلى نحو يكون أحوج للإجابة، بعد أن تصير الإجابة السابقة في وعيي هشة أو أكثر وهناً وهشاشة مما كانت عليه. * * * كنتُ أسأل أمّي أسئلة دون أن أعلم أنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها؛ بسبب العيب وما هو ملحق به؟! كنت أسألها عن وجودي، وكيف خرجتُ من بطنها إلى هذه الدنيا، ومن أي مكان خرجت على وجه التحديد؟! وعندما تولد أمّي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال ذاته على نحو مُلح، داحضاً إجابتها السابقة التي استنفدت صلاحية كذبها، ولم تعد تصلح للتصديق. كانتَ أمّي في البداية تجيبني وهي تضحك أو تبتسم زاعم أننا خرجنا من ركبتها. وبعد حين أو مع ولادة جديدة أجد السؤال يعاود نفسه، وأوجهه إليها مرة أخرى، وقد رأيت المولود الجديد أكبر من ركبتها، ولا أجد في ركبتها أثراً ولا علامة على تلك الولاة المزعومة من الركبة، فيعود وهج السؤال إلى الصدارة، بعد أن أكتشف أن إجابة أمي القديمة معتمة أو كاذبة، أو باتت غير مقنعة، أو بات لا شيء يدعم جواب امي المضحوك به عليّ أو على سؤالي!! كنتُ أسمع ولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعونني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي قسراً من المكان القريب، ويخالط هذا الإبعاد رجاء وتفدّي من قبل بعض النسوة الحضور، للحيلولة دون أن يصل إلى مسمعي صوتها المعذّب بالولادة، ويتم منعي من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي تلد الآن، وسيتم إبلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخٌ أم أخت!! كانوا لا يسمحون لي بالدخول إلى المكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: كيف ومن أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! يتكرر السؤال بإلحاح أشد، بعد أن بدت لي إجابتها السابقة قد تأكلت أو أدركها الشك الفاضح أو صار الشك أكبر منها، أو صار يلتهمها بسهولة ويسر؛ فتحاول أمّي إقناعي مرة أخرى بأننا ولدنا من سرتها، فيبدأ الشك في صحة الجواب، ثم يكبر بعد أن أيقنت أنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعتَ لديَّ مصداقيتها. وتساءلتُ كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة إصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين. ثم أطلقت أمّي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجتُ أنا وإخوتي من فمها. ولكن كيف يمكن لفم مهما اتسع أن يخرج مولود أكبر منه!! لماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاهٍ دونه، أو أصغر منه بكثير؟!! كانت أمّي تتجاهل أسئلتي في بعض الأحيان، وأحياناً تضحك من أسئلتي حالما يكون السؤال بحضور غيرها، وجوابها المصحوب بالابتسامة أحياناً، تجعل الشك في ذهني حالاً أو لاحقاً يكبر ويتسع. عرفتُ الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أرها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام التي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام. واكتشفتُ أننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب بعض من العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران. وعرفتُ أن العيب يؤخر علينا كثيراً من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدتُ أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع، لنتحرر من ذلك العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى كابح أو معوِّق للعلم والمعرفة. وبالمقارنة في سياق أخر لاستكشاف المفارقة، تعتبر إجابة أمّي في تلك الأيام، هيناً مما نعيشه اليوم، فإجابة أمّي المغلوطة أو الكاذبة كانت بدافع درء العيب، وحفاظاً على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان، أما إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم الكاذبة على أسئلتنا، هي بدافع الدفاع عن أنفسهم وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وإفساد وقتل المواطن والوطن. * * * وفي المدرسة وجدت أيضا إن العيب أحيانا يكون معوقا أخر للتعليم والمعرفة، وفي هذا الصدد أورد هنا واقعة مازالت عالقة في ذهني إلى اليوم: حالما كان مدرس العلوم منهمكاً في شرح الدرس. وكنت أستمع إلى شرحه، وتتكرر كلمة "البراز" في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا "البراز"!! ولم أفهم الدرس بسبب عدم معرفتي لمعنى كلمة "براز". لاسيما أنني أول مرة أسمع بها، ولا أعرف ماذا تعني!! وبالتأكيد زملائي مثلي، ولكنهم ربما لم يتجرؤوا على السؤال.. سألت الأستاذ: أيش هو هذا "البراز"؟! فأجاب بضيق وامتعاض، وبحركة عصبية من يده وقدمه محاولاً أن يشعرني بغبائي وإحراجه من الجواب بكلمة واحدة: "الخر".. فضحك من في الفصل. وهو ما جعلني أصاب بحرج شديد. ولو كان لحظتها سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجزوا جميعاً عن جوابه. أغرقني الخجل في الصف، وتحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب، وكنت في ذلك اليوم الشهيد بالدرس. والشيء بالشيء يذكر تكررت تلك الكلمة معي بوجه أخر بعد خمسين عام من قبل رئيس إحدى سلطات الأمر الواقع في صنعاء وهو يرد على احتجاجي ودفاعي عن شعبنا الذي أمثله، وهو يمثل به بقوله: "كل خر".. وبين أستاذي النبيل الذي تحرج من الإجابة بدافع الحياء، وما قاله هذا الرئيس، فارق ومفارقة توضح الحضيض المؤسف، والمهزلة الذي وصلنا إليها، ونعيشها اليوم بوجع ومرارة.. وهنا يكون للعيب داعيه وحاجته. * * * قراءة تحليلية للنص باستخدام تطبيقا الذكاء الاصطناعي DeepSeek & chat GPT يُعد نص «العيب المعوِّق للمعرفة» للكاتب والسياسي اليمني أحمد سيف حاشد، والمنشور في كتابه "فضاء لايتسع لطائر" نموذجًا بارزًا للأدب السردي التأملي الذي يمزج بين التجربة الذاتية والرؤية الفكرية النقدية. رؤية تحليلية وفي النص يستحضر حاشد طفولته وتجارب نموه المعرفي والاجتماعي ليقدّم من خلالها رؤية تحليلية لظاهرة العيب الاجتماعي بوصفها منظومة ثقافية تعيق تشكل الوعي، وتحدّ من حرية السؤال، وتُكرّس الجهل بأشكال متعددة تبدأ من الأسرة ولا تنتهي عند السلطة السياسية. ويأتي النص ضمن سياق فكري يعبّر عن نقد الثقافة السائدة التي تُغلّب قيم الحياء والامتثال على قيم الحقيقة والعقل، ما يجعله مساهمة مهمة في دراسة العلاقة بين الثقافة والمعرفة في المجتمعات العربية التقليدية. الإشكالية المحورية يتناول النص إشكالية محورية تتمثل في: كيف تتحول ثقافة "العيب" من قيمة أخلاقية إلى معوِّق معرفي واجتماعي؟ ومن هذه الإشكالية تتفرع تساؤلات فرعية:: 1. ما حدود تأثير مفهوم "العيب" في تشكيل وعي الطفل؟ 2. كيف تُسهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، السلطة) في تكريس هذا العيب؟ 3. ما العلاقة بين الكذب الأخلاقي في الطفولة والكذب السياسي في الواقع العام؟ البنية السردية يقوم النص على سرد ذاتي بضمير المتكلم، يستعيد فيه حاشد مراحل نموه المعرفي منذ الطفولة حتى النضج الفكري. وتتطور الأحداث زمنياً ومعرفياً من الأسئلة البريئة إلى الوعي النقدي، ومن دائرة البيت إلى فضاء المجتمع. ويتدرج النص عبر ثلاث مستويات رئيسية: 1. العيب الأسري: يتمثل في كذب الأم على الطفل بشأن مسألة الولادة. الدافع: الحياء الاجتماعي والخوف من الخوض في "المسكوت عنه". النتيجة: تعطيل الفضول المعرفي، وتأجيل اكتساب الحقائق العلمية. الدلالة: الأسرة كمؤسسة أولى تُكرّس الخوف من السؤال باسم الأدب. 2. العيب المدرسي: يظهر حين يُحرَج الطفل في الفصل بسبب سؤاله عن معنى كلمة "البراز". المعلم، الذي يفترض أن يكون وسيطًا للمعرفة، يعيد إنتاج ثقافة الكتمان والخجل. الدلالة: المدرسة تساهم في قمع حرية السؤال، فتنقل الجهل من البيت إلى النظام التعليمي. 3. العيب السياسي: يبرز في المقارنة بين المعلم القديم والرئيس المعاصر، كلاهما استخدم الكلمة نفسها ("الخر") لكن بسياقين مختلفين. المعلم قالها بدافع الحياء، أما الحاكم فقالها بدافع الإهانة والسلطة. الدلالة: تدهور منظومة القيم من خجل بريء إلى انحطاط سلطوي، وتحول "العيب" إلى أداة للهيمنة السياسية. الدلالات الفكرية والفلسفية 1. العلاقة بين العيب والمعرفة: وفي النص يرى أحمد سيف حاشد أن "العيب" ليس مجرد قيمة أخلاقية، بل هو قيد معرفي يعوق نمو التفكير النقدي، ويؤسس لثقافة الخضوع. فالمجتمع الذي يخاف من السؤال يظل أسير التكرار والجهل. 2. العيب كآلية ضبط اجتماعي: ويظهر النص كيف تُمارَس الرقابة على الفكر والسلوك من خلال ما هو "مستقبح" أو "ممنوع". وبذلك يصبح "العيب" أداة سلطة ناعمة تحكم الأفراد دون قانون، عبر الخوف من نظرة الآخرين. 3. المعرفة والسؤال: السؤال هو جوهر المعرفة ومحركها. والكاتب يجعل من الطفل السائل رمزًا للعقل الحر الذي يرفض الإجابات الجاهزة. فكل إجابة كاذبة كانت تدفعه إلى سؤال جديد، حتى يصل إلى الوعي بأن الشك هو بداية المعرفة. 4. المقارنة الزمنية والقيمية: النص يربط بين جيلين: جيل الأم والمعلم: يخطئ بدافع الحياء. جيل السلطة الراهنة: يكذب بدافع المصلحة والفساد. وهنا يبرز التحول من عيب اجتماعي بسيط إلى عيب وطني شامل يتجلى في انحطاط الأخلاق العامة. 5. الأسلوب واللغة اللغة سردية تأملية تتدرج بين البساطة والعمق. استخدام الضمير "كنتُ" يخلق حميمية ذاتية تربط القارئ بتجربة الكاتب. التكرار البنائي لعبارات مثل "كنت أسأل..." و"كانت أمي..." يمنح النص إيقاعًا معرفيًا تصاعديًا. الأسلوب يزاوج بين الحكي الواقعي والتحليل الفلسفي، مما يجعله نصًا أدبيًا معرفيًا في آنٍ واحد. البعد النفسي يكشف حاشد في نصه عن حجم التشويه الذي يتعرض له مسار النمو المعرفي والثقة بالنفس لدى الطفل، والتي تبدو من خلال: 1. فضول الطفل كمحرك للمعرفة يصور النص الطفل ك "باحث وجودي" ببراءة، تدفعه فطرة الاستكشاف من "المحسوس إلى المجرد"، ومن "الملموس إلى ما وراء الطبيعة". 2. الصدمة الأولى" اصطدام الفطرة بالتابو" يواجه الطفل لأول مرة مفهوم "الممنوع" و"العيب". هذه هي اللحظة التي يُشرعن فيها الخرق المعرفي. فالسؤال البريء يتحول إلى فعل "تمرد" و"اقتحام للمسكوت عنه". 3. تآكل الثقة في المصدر (الأم): تتابع النص لسرد تطور علاقة الطفل بأمه كمصدر للمعرفة. كذبة "الركبة" ثم "السرة" ثم "الفم" 4. العواقب النفسية المترتبة الإحباط والحرمان المعرفي: يشعر الطفل بأنه مُحاصر بأسئلة لا إجابة حقيقية عليها، مما يخلق إحساسًا بالعجز. والخجل والعار، حيث تتجلى هذه المشكلة بوضوح في حادثة المدرسة، حين تحول سؤال بريء عن "البراز" إلى مناسبة للإذلال العام ("أغرقني الخجل"). الارتياب الدائم: يتعلم الطفل أن الحقائق قد تكون مخبأة وراء ستار من الأكاذيب، ما يزرع بذرة الشك في كل ما يقال له لاحقًا. البعد الاجتماعي 1. العيب كبنية اجتماعية مهيمنة: لا يظهر "العيب" في النص كمفهوم مجرد، بل ك "واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف". إنه نظام من القواعد غير المكتوبة التي تحدد "المناطق المحظورة" في الفكر والكلام. 2. آليات فرض العيب التحايل (أكاذيب الأم): بدافع "درء العيب وحفاظاً على ماء الحياء". التعتير المعلوماتي: كما في منع الطفل من رؤية عملية الولادة أو سماع صوت الأم المتألم. "ويتم منعي من معرفة أي شيء". العقاب الرمزي (الزجر والفضيحة): كما حدث مع المدرس الذي أجاب بإحراج وامتعاض، مما أدى إلى ضحك الفصل كله على السائل. وهذه الآلية لا تعاقب السؤال فحسب، بل تجعله عبرة للآخرين (كنت في ذلك اليوم "الشهيد بالدرس"). 3. وظيفة العيب الاجتماعية الخفية إنتاج الجهل المُنظم: وهنا يصرح حاشد في نصه بالقول: "اكتشفتُ أننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب بعض من العيب". المجتمع، من خلال "العيب"، يقرر أي المعارف مسموح بتداولها وأيها ممنوع، مما يؤدي إلى تأخر في "البديهيات المعرفية". تكريس التبعية الفكرية: بمنع الأسئلة الحرجة، يُنتج المجتمع أفرادًا لا يمتلكون أدوات النقد والمساءلة، مما يسهل قيادتهم والسيطرة عليهم. 4. التوسع الاستعاري من العيب الاجتماعي إلى العيب السياسي: هذه هي النقلة الأهم في النص. وهنا يقدم حاشد مقارنة بارعة، تتمثل في: العيب القديم (في الطفولة): دوافعه "الحياء والاحتشام". أكاذيب الأم كانت لحماية البراءة (حتى لو كانت نتائجها سلبية). العيب الحديث (في السياسة): دوافعه "الدفاع عن النفس والخيانات والفساد والنهب". أكاذيب السلطة هي لحماية المصالح والجرائم ("إفقار وإفساد وقتل المواطن والوطن"). وهذه المقارنة تظهر أن البنية الذهنية نفسها التي تقبل بكذب الأم "بدافع العيب" هي التي تسمح لاحقًا بقبول أكاذيب السلطة. لأن المجتمع الذي لا يعلم ابناؤه السؤال في الامور الصغيرة، لن ينتج بالغين قادرين على السؤال في الامور الكبيرة (الفساد، الاستبداد). الاستنتاجات 1. ثقافة العيب في المجتمعات التقليدية تُسهم في تكوين عقل خاضع، يخاف السؤال، ويقبل الجهل بوصفه أدبًا. 2. المؤسسات الاجتماعية والتعليمية تُعيد إنتاج منظومة العيب بدلاً من تفكيكها. 3. العيب المعرفي يقود إلى العيب السياسي؛ فمجتمع يُحرِّم السؤال في البيت، سيقبل الكذب في الدولة. 4. التحرر من العيب هو شرط للتحرر المعرفي والنهضة الفكرية. 5. حاشد يدعو ضمنيًا مز خلال النصح إلى إصلاح تربوي وثقافي يُعيد الاعتبار للسؤال والصدق بوصفهما مدخلاً للوعي والكرامة. شهادة فكرية وانسانية يُقدّم أحمد سيف حاشد من خلال نصّه شهادة فكرية وإنسانية على أثر الكبت الاجتماعي في تعطيل المعرفة. ويبرز النص أن أخطر أنواع الجهل ليس غياب المعلومة، بل منع السؤال، وأن العيب الأكبر هو الخوف من الحقيقة. وعليه، يمكن القول إن "العيب المعوِّق للمعرفة" نصٌّ يتجاوز تجربته الشخصية ليقدّم نقدًا ثقافيًا شاملًا لآليات القمع الرمزية في المجتمع، ودعوةً جريئة لتحرير الإنسان من قيود الحياء الزائف نحو أفق العقل والمعرفة.