التحرر لا يتم إلا بالمصارحة، والمصالحة لا تتم إلا بصدق المواجهة.. العيب كأداة استعباد رمزي تمارسها الجماعة على الفرد، مختزلة الوعي في الخضوع والخوف.. التمرد عند "حاشد" ليس نقضاً أخلاقياً بل شفاءً داخلياً من عقد الخوف والعيب
أثقال العيب.. تمردات وحنين أحمد سيف حاشد في "كافورستان" كان للكشف لذاذة.. غرقٌ في أقاصي النّشوةِ.. الكشفُ الأول في سنِّ الحُلم.. استعجالٌ لمعرفةٍ تتأخر بسببِ الجهلِ بتثمينِ الوقت، والجهلِ بعُمْرٍ عابرٍ كالريح.. رفضٌ ألتاع بأسئلةِ الحيرة.. أسئلة الكشف الأولى الباحثِة عن ردٍّ أو مُعطى.. أسئلةُ الجُرأةِ فتحت أبواباً كبرى في كشفِ مجاهيلِ الكون. في "كافورستان" كانت محاولتي الأولى لرمي بعضٍ منْ ثِقَلِ مُرهق.. جبل الواقع ناخ بحمله على كاهل غِرٍ مُتعب.. يباس يعصرني، وصحراء تتلظّى في شراييني.. سحقاً لرتابة مسكونةٍ بالعيب.. العيبُ أن تقضي حياتك بيدق.. العارُ أن تعيشَ مسلوبُ الوعي.. العيب أن العطش جوار النهر ولا يشرب. أسئلةُ الحيرةِ ليست وسواساً من عملِ الشيطان.. اسئلةُ الحيرةِ لا تُغفلها حتى تُزيحَ عنها الحيرة.. لا تقمعْها ولا تغفل شك.. ارمِ حجراً إلى قاع الماء الآسن، لتر ماذا يوجدُ في القاع! غُصْ إلى قاعِ وخوابي النهر.. غامر وابحث عن أصدافِ وكنوزِ البحرِ.. لا تبقَ ثابت كجذع الشجرة، أو كالخشبةِ في الردهةِ، أو في جدارِ كالمسمارِ. ما أسوأ أنْ يَستوطنُنا الجهلُ الكاسح.. ويستعمرنا الخوفُ من سنِّ حضانتنا الأولى حتى الموت.. ما أسوأ أن نظلَّ نستجِرُ التالفَ، ونعلك أنفسنا، ونلوكُ الماضي الغارب.. محبوسين في قُمقُمه.. لا نخرج إلاّ لخدمته.. "شبيك لبيك نحن طوع يديك" فيما الجهل المطبق يتباهى كخليفة، ويتمخطر كالقيصر. في "كافورستان" بدأنا (ألف) التجريب، وكشفَ مجاهيلِ الذاتِ، واكتشافَ الآخر أيضاً.. التجريبُ معرفةٌ تتنامى.. تتراكمُ في سلاليمِ العلم.. أطلق عنان الرغبة من قمقمها إلى فضاء الممكن.. لا تحبس عقلك في قبوٍ أو تطمرهُ في حفرة.. أطلق عنان العقل في أرجاء وأبعاد الكون. أسئلةٌ تداهمني، وتتناسلُ كالضوءِ.. تنتشر فينا لتبدد عتمتنا.. لماذا لا نتصالح مع أنفسنا؟! لماذا نُولع بالكذبِ؟! لماذا نستمرئ الدّجلَ على أنفسنا وعلى العالم؟! ونتخفّى خلفَ أقنعةِ الزيف؟! ونتصنعُ ما ليس فينا؟! لماذا لا نخجل من أنفسنا؟! تباً لقبح نزعم أنه أجمل ما في الأرض، فيما الأرض تأن من وطأته وقبحه. لقد أدركتُ زحمةَ هذا الزيف، ونزعتُ خجلي وأزحت مساحيقَ التجميلِ عن وجه حقيقتنا.. نحن العفة في وجهِ الخسّةِ.. نحن عشاق حقيقتنا، وعشاق الحب الجارف في وجه هذا الزيف المكتظ، والوجوه النكرة. لماذا نجلُّ الوهم الباذخ، ونصنع منه أربابا وقوانينَ تطفئ ما فينا من نور.. كم نحن جلاوزة وجلادون.. يتملَّكُنا غباءٌ فادحٌ، وسياط العته الأحمق.. سجانون للعقل المتحفز للنور.. جلادون بعنفٍ وجنون.. بمهول الجهل والخوف القامع والعيب الوخم، حد الموت نجلد فطرتنا وأحسن ما فينا.. من ينجينا من هذا الهول؟!! ما أوطأ وأحط من هذا العيبِ الذي يُثقلُ كاهلنا إلا قانونُ العيب!! أزيحوا أقنعةَ العيبِ من وجهِ الحقيقةِ العاري.. الكذبُ أمُّ كبائرنا وخطيئتنا الأولى.. متى نتصالح مع أنفسنا؟! ونزيح من وجه الصدقِ أقنعةَ الزَّيفِ التي تجعلنا عمياً لا نرى شيئاً من دمامة حقيقتنا، وهذا الكمُّ الفاحشُ، من الكذبِ والغش والتدليس. لا تحرج يا أستاذي "راشد" من هذا العيب، ولا تخجلْ إنْ جمعتْ صدفتنا ثلاثتنا.. إيابك وذهابي و"كافورستان".. لا تُحرجْ من تلميذك إن شرب كلانا من نفس الحوض؛ فالغفرانُ رابعنا وهو رفيق يعرفنا ويقدّرنا.. سحقاً للعيب.. كم نحن بشراً يا أستاذ.. علينا أن نتصالح مع أنفسنا؛ لنكونَ أفضلَ ممّا نحن فيه. لا تشغل بالك يا أستاذ إن غلبك يوما هذا العيب؛ فالزمن كفيلٌ بكسرِ الغلبة.. ولكنْ قاوم ولا تستسلمْ.. دعْ الكبتَ المتراكمَ والمحبوسَ يبحث عن تنفيس في هذا المدفن، والشكر موصول "لكافورستان".. الجمع يعاني يا أستاذ ويبحث عن مَنفس.. كلٌّ منّا في شوايةٍ تصليه.. كلٌّ منّا مَرمياً في ضغاطة عيب أضيق من قبر. في بيت من شعر نزار، وُضِعنا جميعاً تحت السكين.. والحال من بعضه في واقع هذا الحرمان المشتد، الكل تحت مدية العطش المالح نقتات الملح.. الأيامُ جحيمٌ وسعيرٌ لا تسأل من أنت: "لا يمينٌ يجيرنا أو يسارٌ.. تحت حدِّ السكين نحن سواء". شكرا "كافورستان" وقد أخففتِ عنّا بعضاً من هذا الحِمْل المُلقى على الكاهل. *** قراءة تحليلية للنص باستخدام تطبيقا الذكاء الاصطناعي DeepSeek & chat GPT يُعدّ نص «أثقال العيب» أحد النصوص النثرية البارزة في تجربة الكاتب اليمني أحمد سيف حاشد، حيث تتجلى فيه نزعة تمردية واضحة على البنى الثقافية والاجتماعية التي قيدت الوعي الإنساني داخل منظومة "العيب" و"الخوف" و"الجهل". يأتي النص بوصفه خطاباً معرفياً وجودياً، يمزج بين التجربة الذاتية والهمّ الجمعي، ويعكس توتّر الإنسان العربي – واليمني على وجه الخصوص – بين الرغبة في التحرر وسلطة الأعراف المقموعة. ويقدم أحمد سيف حاشد في هذا النص حفرة وجودية وفكرية، يجسد من خلالها صراع الإنسان بين الفطرة والقيم الاجتماعية المُقيِّدة، وبين الجهل المُريح والمعرفة المؤلمة. والنص هو تصوير لرحلة التمرد على "العيب" بصفته نظاماً اجتماعياً خانقاً، وليس مجرد سلوك فردي. دلالات العنوان العنوان «أثقال العيب» يحمل بنية مجازية كثيفة، ف"الأثقال" تحيل إلى العبء النفسي والاجتماعي، و"العيب" إلى منظومة قيمية صارمة تحكم السلوك والفكر. وفي العنوان، يرسم الكاتب معادلة الصراع: الفرد / الحرية، في مواجهة، الجماعة / العيب. والعنوان هنا ليس تسمية فحسب، بل إطار تأويلي يوجّه القارئ نحو محور النص الأساسي: مقاومة العيب بوصفه سلطة داخلية وخارجية معاً. الفضاء الرمزي ل«كافورستان» يشكّل حضور «كافورستان» علامة رمزية متكررة ومفتاحية في النص. وهي ليست مكاناً جغرافياً، بل فضاءً معرفياً ووجدانياً يمثل: 1. موقع الكشف والتجريب: حيث تبدأ الذات في اكتشاف ذاتها والعالم. 2. حاضنة التمرد الأول ضد الجهل والخوف. يقول الكاتب: "في كافورستان كان للكشف لذاذة.. غرقٌ في أقاصي النشوةِ.. الكشف الأول في سن الحلم." إنها إذن "يوتوبيا الوعي"، حيث تبدأ الذات تحررها من أثقال العيب عبر المعرفة والاكتشاف. العيب بوصفه سلطة اجتماعية يتعامل النص مع "العيب" لا كقيمة أخلاقية محضة، بل كنظام قمعي يخترق الوعي الجمعي ويشلّ حركة العقل. يقول الكاتب: "العيب أن تقضي حياتك بيدق.. العار أن تعيش مسلوب الوعي." والعيب هنا يتحوّل إلى أداة استعباد رمزي تمارسها الجماعة على الفرد، بحيث يُختزل الوعي في الخضوع والخوف. ويستمر النص في فضح هذه الآلية حين يصفها ب"القانون"، في قوله: "ما أوطأ وأحط من هذا العيب الذي يُثقل كاهلنا إلا قانونُ العيب." وهنا تتبدى رؤية حاشد النقدية بوصفه مفكراً اجتماعياً أكثر منه مجرد كاتب أدبي؛ إذ يقدّم تحليلاً ثقافياً للعيب باعتباره بنية قهر ثقافي تتوارثها الأجيال. ثنائية «الكشف/القمع» تُشكّل هذه الثنائية المحور البنيوي للنص. ففي مقابل سلطة العيب، يُقيم الكاتب فضاء "الكشف" و"التجريب" و"المعرفة" كفعل مقاومة: "اطلق عنان العقل في أرجاء وأبعاد الكون." "ارمِ حجراً إلى قاع الماء الآسن لتر ماذا يوجد في القاع!" يستعير النص لغة الماء والغوص للتعبير عن فعل الكشف، في مقابل اليباس والصحراء التي ترمز إلى القمع والركود. وبهذا، تتجسد حركة النص في مسار تصاعدي من الظلمة إلى النور، ومن الخضوع إلى الوعي. البنية الأسلوبية والإيقاع الداخلي يعتمد أحمد سيف حاشد على الخطاب الحجاجي – الشعري، حيث تمتزج الانفعالات الوجدانية بالأسئلة العقلانية. وتتكرر أدوات الاستفهام ("لماذا"، "متى"، "ما أسوأ") كآلية تفكيك وعي جمعي ميت. وتتوالى الأفعال الحركية ("اطلق"، "اغص"، "غامر"، "ارمِ") لتجسيد دينامية التمرد. كما يوظّف التكرار النغمي ("كافورستان"، "العيب"، "الجهل") لبناء إيقاع جدلي تصاعدي بين الأمل واليأس. وهذه اللغة المتمردة تُذكّر بكتابات نزار قباني وسعدي يوسف في بعدها الوجودي، لكنها تتمايز عنها بخصوصية اجتماعية يمنية تجعل الخطاب أكثر التصاقاً بالواقع المحلي. البعد النفسي – الاعترافي ويظهر في النص بعد اعترافي واضح، من خلال العلاقة الرمزية بين الكاتب و«الأستاذ راشد». "لا تحرج يا أستاذي راشد من هذا العيب…" هنا يتخذ الكاتب من العلاقة التربوية نموذجاً للعلاقة بين السلطة والمعرفة. فالتلميذ المتمرد يحاور أستاذه، لا ليتمرّد عليه فقط، بل ليصالحه مع ذاته. وهذه المقاربة النفسية تُظهر أن التمرد عند حاشد ليس نقضاً أخلاقياً بل شفاءً داخلياً من عقد الخوف والعيب. الرؤية الفكرية والفلسفية يرتكز النص على رؤية فكرية إنسانية جوهرها: التحرر لا يتم إلا بالمصارحة، والمصالحة لا تتم إلا بصدق المواجهة. ومن هذا المنطلق، تتحول "أثقال العيب" إلى استعارة عن حمل الزيف الجمعي الذي ينوء به الإنسان العربي. وتتجلى الفلسفة الختامية للنص في قوله: "علينا أن نتصالح مع أنفسنا؛ لنكون أفضل مما نحن فيه." وهي دعوة صريحة إلى التحرر من الداخل قبل مقاومة الخارج. الرحلة نحو المعرفة ويختم الكاتب نصه بشكر رمزي لكافورستان: "شكراً كافورستان وقد أخففتِ عنا بعضاً من هذا الحمل الملقى على الكاهل." ويستعيد النص هنا نغمة الهدوء بعد عاصفة التمرد، في دلالة على تحقق التطهر الداخلي (Catharsis) بعد مواجهة الذات. وهكذا يتحول النص إلى رحلة دائرية تبدأ بالألم وتنتهي بالتخفف، في حركة أشبه بالرحلة الصوفية نحو المعرفة. الحل والمخرج ورغم السوداوية، يقدم النص حلاً واضحاً وإن كان صعباً، وهو "المصالحة مع الذات". وهذه المصالحة تمر عبر: 1. نزع الأقنعة: "نزعتُ خجلي وأزحت مساحيق التجميل". 2. رفض العيب كقانون: "سحقاً للعيب". 3. القبول بالطبيعة البشرية: "كم نحن بشراً يا أستاذ.. علينا أن نتصالح مع أنفسنا". 4. المقاومة وعدم الاستسلام: "قاوم ولا تستسلمْ". 5. التنفيس عن الكبت: والاعتراف ب "كافورستان" كمساحة لهذا التنفيس. بيان ضد ثقافة العيب يمكن القول إن نص «أثقال العيب» يمثل نموذجاً بارزاً في الأدب اليمني المعاصر، يجمع بين الاعتراف الفردي والتحليل الثقافي الجماعي. ويقدّم أحمد سيف حاشد من خلاله بياناً ضد ثقافة العيب والقمع، داعياً إلى انبعاث وعي جديد قائم على الصدق، والحرية، والتفكير النقدي. إنه نصّ ينتمي إلى أدب المقاومة الفكرية، حيث تكون الكتابة أداة تطهير، والعقل مساحة تحرر. تشخيص ومسار علاجي وفي المجمل فإن "أثقال العيب" ل"أحمد سيف حاشد"هو بيان تمرد على التقاليد البالية والتفكير الجمعي المسلوب الإرادة. إنه نداء صادق للعودة إلى الفطرة الإنسانية الباحثة عن الحقيقة، باستخدام لغة شعرية مفعمة بالصور المؤثرة والاستعارات القوية. والنص ليس مجرد شكوى، بل هو تشخيص لجروح أمة واقتراح لمسار علاجي يبدأ من الفرد نفسه عبر المصالحة مع ذاته ورفض كل أشكال "العيب" التي تكبل عقله وروحه.