ما يحدث في عدن اليوم يتجاوز كل حدود الإنسانية، فهو ليس مجرد أزمة كهرباء عابرة، ولا هو انقطاع خدمة يمكن التغاضي عنه. إنه عملية تعذيب منهجية ممنهجة، تُنفذ بدم بارد وبأوامر سياسية علنية، بهدف كسر إرادة الإنسان العدني وإذلاله. إنها جريمة تستخدم الظلام والحر والعطش كجنود لتحقيق أغراض سياسية دنيئة. أن تترك مدينة بأكملها، هي عاصمة الجنوب العربي التاريخي، غارقة في الظلام لأكثر من 24 ساعة متواصلة في بعض الأحيان، هذه ليست إهمالاً إدارياً، بل هي عقوبة جماعية يدفع ثمنها الأطفال والنساء والمرضى والعجزة. إنه حصار بري يستخدم سلاح الكهرباء لخنق الحياة من حناجر الناس.
كيف يصبح الانقطاع تعذيباً؟ إنه تعذيب للمرضى حيث تتوقف أجهزة التنفس في المستشفيات، وتفسد الأدوية في الثلاجات، وتُلغى عمليات الغسيل الكلوي. كل دقيقة ظلام هي حكم إعدام لمرضى يعتمدون على أجهزة كهربائية للبقاء على قيد الحياة. وهو تعذيب للنفوس حيث يحول الحر اللاهب والرطوبة الخانقة حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، ويجعل النوم مستحيلاً والأعصاب تصل إلى حافة الهاوية.
وهو أيضاً قتل ممنهش للحياة الاقتصادية حيث تغلق المحلات وتفسد البضائع وتتوقف الأعمال وتحترق المحركات بسبب التردد المتقطع للتيار. والأكثر إذلالاً أنه يجبر المواطن على العودة إلى عصر الظلام، والبحث عن الماء، والعيش بين قمامة تتعفن بسبب توقف الثلاجات، في عملية إهانة متعمدة لكرامته وإنسانيته.
أما الحديث عن "نقص الوقود" فهو سردية كاذبة ومهترئة لم تعد تخدع أحداً. الجميع يعلم أن الوقود موجود، لكن إرادة سياسية عليا تصدر أوامرها بحجبه عن عدن. إنه قرار بارد لاختبار قدرة تحمل الناس، وإرسال رسالة واضحة مفادها أنهم رهائن بيد السلطة، وكرامتهم رهينة بإمداداتها.
خلف كل ساعة انقطاع، هناك طفل يبكي من الحر، وامرأة عجوز تتهاوى من الإرهاق، ومريض يكافح من أجل نَفَس، وأب يحترق قلبه عجزاً لأنه لا يستطيع توفير أدنى مقومات الحياة الكريمة لعائلته.
ما يحدث في عدن ليس أزمة طاقة، بل هو جريمة حرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ترتكب في وضح النهار ضد مدنيين أعزل. العالم ينظر، والضمير الإنساني يصمت، بينما يُقتل شعب بالبطيء باستخدام أبسط أدوات العصر: الكهرباء.
إننا لا نطالب بتحسين الخدمة، بل نستنكر جريمة التعذيب هذه، وندين كل من يلوث ضميره بالمشاركة في قرارها أو تنفيذها أو التستر عليها. تاريخ عدن سيحكم على هؤلاء الجلادين بأنهم لم يحرقوا فقط أسلاك الكهرباء، بل حرقوا آخر جسور الثقة بين الحاكم والمحكوم، وأطفأوا نور العدالة في نفوس الناس قبل أن يطفئوه في شوارع المدينة.