محمد علي اللوزي إشارة: هذه مقالة كنت قد كتبتها منذ فترة وجيزة، أُعيد نشرها، فقد ذكرني بها اليوم الصديق الغالي النائب الأستاذ المبدع (أحمد سيف حاشد) وهو يضع سرديته (فضاء لا يتسع لطائر) أمام الذكاء الاصطناعي، لنجد نقدًا حقيقيًا يدهشنا، كأن ثمة قادمًا مخيفًا يتحدى الإنسان، وربما يتجاوزه، وربما يشل تفكيره ويعطّله. *** لم يعد ثمة نجومية، ولم يعد ثمة احتكار في عالمٍ اتسعت خارطته من القُطرية إلى الكونية، وصار مليئًا بأصناف المبدعين والمفكرين والعمالقة الذين لا يُعدّون. وحده الفضاء (السيبرنطيقي) كسر التابو، وقهر الرموز، وفتح فضاءه الذي يروي المتلقي كيف يشاء، وأنتج المعرفة اللامحدودة، والمكتبة اللامنتهية، والمعلومة المتجددة. لم تعد هناك ألقاب أو أستاذية تتعالى على المعرفي، وتتبختر عليه، وتتقن فن الهيمنة. العالم المتسع اللامحدود بديلٌ عن الفردية والتفرّد، وسلطة التكنولوجيا وحدها من تُثرينا وتمنحنا ما نرغب. لِننتقل من التسلّط إلى السّلطة، ومن التفرد إلى التدفق. لا شيء اليوم يمكنه الاختباء هناك دوننا؛ فالعالم متفتح ومفتوح يفضي إلى ما نريد. علينا إذًا أن نحتفي بالمعرفي من خلال استحضارنا الآخر بسهولة ويسر، دونما ممانعة، أو جعل الحرف وما بعد الحرف أشبه بسلعة تُتناول خارج عنا، وبرغبة الممتلك الأناني في تشكيلها، المدّعي أنه وحده الأقدر في المنغلق (الدوغما). هكذا يتلاشى الرمز وتنهار قلاع المحدود أمام اللامحدود، ونطلّ على "الهناك" لنكتشف "النحن"، ونعرف بالضبط مقدار عطائنا المتواضع جدًا أمام تدفق هائل من الإبداع اليومي، وأمام تقنية ترسّخ في أعماقنا تكوينات جديدة بالعديد من المتقدّمين دونما استئذان أو تبجيل واقتصار على "الأنا" فقط. التكوينات القريبة منّا، القابلة للمنال، تقبل بالوافد والمتلقي، تُعيره ذاتها وتريده معها. هكذا هو العالم اليوم؛ غير قاهر ولا مستحوذ، لا كاتب يجود علينا ونشكر مساعيه. لا شك أن في المعرفي نجد فضاءات العالم الجديد وغزارة القادم وتنوع جغرافيا الأسماء والألقاب إلى درجة الذوبان، ليبقى النص وحده وقدرته على التمكن فينا، وجعله مشاعًا يأتي إليه المتلقي بكل مستوياته، من الأمي إلى المفكر. سلطة المعرفة اليوم في المتناول، لا تحتاج أن نتوجّس أو نشعر بخيبة فينا، أو نتمنى أن نصل إلى نص ما أو كتاب لمؤلف ما. تلاشت الحدود، وذابت الأسماء، وبقي العالم بفضائه الكبير يقدم ما نريده، وما لا نريده يغزونا رغمًا عنّا، يتناولنا كما نتناوله، دونما سابق معرفة. سلطة التقنية وعالم الاتصال تمكّنا من تكوين معرفة مشاعة، تُغري كثيرًا بالتعايش معها. انهار سقف القديم، سقف الآباء والمبرزين والأعلام، وما جاذبه اللاحق من تمايز. وبرزت فضاءات العالم الجديد دون ألقاب أو ادعاء أو تراتبية فجّة. في العالم الواسع الكوكبي لا تمايز، لا ادعاء، ولا ارتهان. المعرفة إمّا أن تخوضها بيسر وسهولة وتمكّنها منك كما تمكّنك، أو تندثر، وتصير ذكرى إنسان ومجتمع ونص. هكذا يتألق الكوكبي بسخاء على ما دونه، ويهزأ بالمتمترس خلف ظنونه كذات متوحشة تدّعي الفرادة وتدعو إليها. اليوم ما هو متاح ليس سوى التلقي بلا وجل أو خوف، وبِتسابق من أجلنا كي نتزوّد ونمنح أنفسنا ما نريد، بتنوع أسلوب وتعدد لغات ومعانٍ تتقارب معنا، وتنبذنا أحيانًا وتقصينا وأحيانًا تحتفي بنا وتمنحنا عافية الفكرة وسلامة المعنى، كما تُرهقنا. هكذا العالم اللامحدود، جغرافيا من التشكّل المستمر لا تقف عند حد، وترفض الحدود والحواجز والقطيعة. كونها انطلاقة متاحة لنا، نطوفها وندخلها ونرانا كذوات بشرية تدرك بالضبط أين هي في هذا المتزاحم معرفيًا، وقد تصاب بوجع حين تفقه حدودها وتجربتها المتواضعة مهما حازت على اللقب أو تميزت ووصلت إلى معارج المرجعية. ولا مرجعية في عالم اليوم المعلوماتي؛ لا أحد يمكنه ذلك. مرجعية المعرفة اليوم في متناولنا جميعًا، هي الكل في فضاء هائل يتدفق في كل لحظة بالجديد، وجديد المعرفة يكمن في ذاتها، في إيقاعها السريع جدًا علينا لدرجة تنعدم قدرتنا على المتابعة، فنظلّ قطرة في مطر غزير. علينا أن ندرك، نحن من خلال الهمّ، أن نكتشف القادم في تلاحقه وتلاقحه بنا، وفي قدرتنا على التفاعل معه إن استطعنا، قبل أن تذرونا رياح العولمة التي تطالنا رغمًا عنّا ونحن في رفض وجمود وادعاء قدرة على كبحها، وهي علم ومعرفة واتصال كوكبي لا نستطيع لجمه. نخافه ونموت فيه اختناقًا حين لا نقبل التواصل القهري، أردنا أم لم نرد. وإذاً، كيف نحوله بكياسة من أجلنا بدلاً من خوفٍ نضيع فيه، ونمضي في رغبة رموز وسلطة مؤلف وتسلط كاتب، فيما العولمة تقول لك: أنا قريبة منك، في متناولك، أريدك انفتاحًا، وتريدني غباءً! سلطة اليوم لا تحتفي بالإقصاء، بل تتمرّد على المألوف القارّ الجامد. فلم تعد الكتابة (الهيروغليفية) ولا (المسند السبئي) هويةً تحدد مجتمعًا أو تميّزه، كما أنها ليست حدودًا جغرافية ولا تعبر عن تاريخ. بمعنى ما، فإن تاريخ الإنسان اليوم هو المعرفي الذي تنتجه العولمة، وليس له محددات. إنه تمازج وتلاقح وتكوين علمي معرفي نسهم فيه أو نستهلك منه، لكنه يبقى هو تاريخنا الجديد، هويتنا، قدرتنا على الغوص لاستحضار ما يلبي حدودنا قدر الممكن. ولست هنا أستهدف مكونات الهوية (الدينية أو القيمية)، وأرجو ألا ننطلق من أحكام جاهزة أو مواقف مسبقة حتى لا نقرأ قراءة عرجاء ومشوّهة تعيق التفكير والتناول لإشكالية العالم الجديد بكل صخبه وانتظامه وعنفوانه، وبكل تقنياته الرهيبة المتفتحة والمعطية بسخاء، والقابلة "لنا" في المعرفي فقط، لا الممانعة للقادم من فراغ أو من تراث نأكله أكلاً لما حتى لا نقدر على التطور واستيعاب المتغير والتعامل مع تكوينات الراهن والمستقبل دون ارتهان لجدارية الماضي وتدجين السلطوي. فالواقع اليوم لا تدجين فيه ولا إغواء ولا تقتير على الجماهير لتبقى في انتظار المرغوب أو المسموح منه أو إجازته. في عالم اليوم الكوكبي كل شيء لك، وفي متناولك ومسموح به، ولا تسلّط أو إجازة تداول لكتاب أو فيلم أو سلعة ما. لم يعد ذلك ممكنًا، وربما كانت سرعة (السيبرنطيقي) أكبر من أن تُحدّ، وهي كذلك، وقد صارت جزءًا منا لا يقبل المحو أو التأجيل أو الهروب. بهذا المعنى، ثمة هوية تتقدّم لتتموضع في سياق العصر بكل إيقاعاته وتموجاته، وبكل ما لديها من ممكنٍ يستحيل صده. هكذا يغدو الراهن البشري تاريخ "الأنا" كما هو تاريخ "الهو"، كلاهما معنيّان بالعالم، بتداخل أحلامه وهواجسه وطموحاته فينا كإنسانية. وهكذا، دولاب التغيير ينتج مكوناته التي نجد إرهاصاتها في ما يسمى ب"الربيع العربي"، الذي انطلق لفتح مجالات واسعة للتغيير لا تقف عند رغباتنا أو تمترسنا ومواقفنا من "الهو" على ضوء الماضي. اليوم ثمة صيغة جديدة للإنسانية بمعنى ما، وتشكل هوية تمتد وتذوب وفق القدرة على الحضور والإسهام المعرفي، والقدرة على الإبداع والإنتاج وفهم معنى الاستهلاك في ضوء الموارد والممكن المنظَّم، وفهم التعاطي مع العولمة كقدر لا مفر منه، لا يقبل المداهنة أو الهروب الذي يعجل بالقضاء على الممانع، سلطة نظام أو تسلط دولة. البقاء هنا للمعرفي، للقادر على رسم معالم تواجده معرفيًا، لإقامة شراكة مع الآخر بروح ديمقراطية لا متسلطة ولا ممانعة ولا متخوفة. فكل ذلك يعني الصراع مع دولاب العولمة القادر على دكّ أي ساتر أو حاجز أو عائق. وثمة راهن يقدّم نفسه بسقوط أكثر من نموذج ديكتاتوري بفعل المعرفي من وسائل الاتصال وتقنية المعلومات، التي ألحقت الدمار الكبير بأعتى الممانعين للتفتح، وكانت كنموذج (الجزيرة) و**(الشبكة العنكبوتية)** رأس التغيير وسنامه. هكذا سنجد أكثر من "جزيرة" وأكثر من تقنية تصفع التقوقع والتميّز والانغلاق، ولن يكون أحد بمنأى عن تسارع قطار العولمة الكبير، ما لم يثق بالمستقبل ويتعايش معه معرفيًا، ويسهم في إثراء تاريخنا البشري. فالبقاء للمنتِج، للقادر على التمازج الثقافي، للمستوعب ممكنات التحول. البقاء للأكثر قدرة على معرفة ممكنات الهوية الحضارية القادمة، مع استيعاب التراث والتعامل معه كمعطى قابل للتجدد، لا التمترس في تاريخ قد نكون في تعاطينا المفرط معه مجرد متحفٍ ومتحفٍ فقط. والسؤال: كيف نتجاوز معوقات الماضي مع الاحتفاظ بخصوصيتنا في تعاملنا مع المعرفي الكبير؟ سؤال وجودي – في تقديري – آمل أن يسهم أحد في ملامحه ليبصّرنا على اتحاد مع المنقول في ضوء المعقول.