- د. عبد الله علي الكميم .. تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله. سأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن. ويضيف: يظهر أن المسند كان القلم الرئيسي في جزيرة العرب قبل الإسلام، وأن جزيرة العرب كانت تكتب فيه قبل المسيح، وأن أقلاماً تفرعت منه قبل المسيح وبعد المسيح، لأسباب لا تزال غير واضحة. وقد تكون لأشكال الحروف التي تتطلب دقة في الرسم علاقة بذلك فمال الكتاب إلى ابتكار أشكال مرنة لا تحتاج إلى عناية في الرسم فاستخدموها في الكتابة لسهولتها، فولدت منه الكتابات المذكورة. وعن أصل هذا المسند العجيب تساءل الدكتور جواد، كما يتساءل غيره، ولكن بلا جواب، إلا أننا نعتقد أنه نشأ في وقت مبكر جداً، أي مع قوم عاد، وتعرض لمراحل عديدة من التطور والتعديل حتى وصل إلى صورته التي هو عليها الآن. بل يجوز القول -وقد سبق هذا- أنه لم يكن خطاً واحداً، وإنما كانت ثلاثة خطوط أحدها لعامة الناس، والآخر للملوك والحكام تكتب به العهود والمواثيق والقوانين والأنظمة، وقرارات الملوك والزعماء، والثالث ولعله الأشرف هو الذي تطور حتى وصل إلى ما يسمى الآن بخط الجزم، الذي كتب به القرآن الكريم. وقد تكون هنالك أسرار أخرى في رحم الأرض، ربما تبوح بها يوماً ما إن شاء الله، بفضل جهود أجيال العلماء والباحثين والمنقبين اليمنيين. (وعندي أن الأبجدية العربية الجنوبية تمثل مجموعة خاصة تفرعت من أصل لا يعرف من أمره اليوم شيئاً؛ لأن شكل حروف المسند لا تشبه شكل حروف الأبجديات المعروفة، فلننتظر فلعل المستقبل يكشف للعلماء النقاب عن أبجديات مجهولة. وعن انتشار الخط المسند في عموم شبه جزيرة العرب، قال جواد علي: وكشفت العروض ونجد وأماكن أخرى عن سر كان العلماء يبحثون عنه في شوق، فقدمت للعلماء عدداً من الكتابات المدونة بالمسند، وبذلك ثبت علمياً أن المسند كان معروفاً قبل الإسلام في كل جزيرة العرب، وربما كان القلم العام للعرب قبل المسيح أي قبل ظهور أقلام أخرى، ولدت على ما يظن بعد الميلاد. ففي سنة 1911م. عثر الكابتن شكسبير (Capt-w-H shakespeer) على كتابتين بالمسند في معرض (جبا) (الحناة) وفي خرائب (تج) و(أثاره) التي تبعد خمسين ميلاً تقريباً عن ساحل الخليج. وزهاء مائة ميل من شمال غربي القطيف. كما عثر على كتابتين آخريين بالمسند. وعثر عمال شركة البترول العربية السعودية الأمريكية (أرمكو) أثناء الحفر على مقربة من عين جوان (جوز) عام 1945م. على حجر مكتوب تكسرت بعض أطرافه بالمعاول، اتضح أنه حجر قبر لإمرأة يقال لها (خشم بنت عمرن بن نخيو من أسرة غور آل عور من قبيلة شذب). وعثر على شاهد قبر آخر مدون بالمسند، هو شاهد قبر (شبام بنت صحار بن عهل بن صامت . هذا ما عثر عليه في كتابات بالمسند في العروض. أما في أواسط جزيرة العرب، وفي باطنها، وفي الأماكن التي لم يكن يتصور العثور فيها على أثر لحضارة، فقد عثر فيها على كتابات بهذا القلم كذلك. ولهذه الكتابات أهمية كبيرة، لأنها أول وثيقة تاريخية لا يتطرق إليها الشك، ترد إلينا من هذه المناطق، التي لم يرد لها ذكر مفصل عند المؤرخين السابقين، لأنها أول دليل عملي يثبت انتشار هذا الخط في أواسط جزيرة العرب. وليس هذا فحسب فقد عثر العلماء العرب والمستشرقون على آلاف النقوش واللوحات والتماثيل في شمال وشرق وغرب ووسط الجزيرة، إضافة إلى ما يزخر به جنوبها من مخزون هائل من هذه الآثار، ومن أكثر من عشرة آلاف عام. ومنها ما عثر عليه عبد الله بن جدعان قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مغارة بجوار مكة. وقد أوضحنا هذا سابقاً، فقد عثر على لوحات من الذهب مكتوب عليها بالخط المسند، وكانت من آثار جرهم. أما في وادي الدواسر، وفي قرية الفاو بالذات، التي تقع بين نجران والرياض، فقد عثر فيه على عدة نقوش. وكانت من النقوش المسندية التي حملت الألف واللام (لام التعريف في لغتنا هذه -اللغة المتينة) التي كتب بها القرآن الكريم. وهذا ليس بالشيء العجيب أو الغريب أو المنافي للعلم والمنطق، وإنما هو العلم والمنطق ذاته. فإذا كان اليمنيون العظام قد وصلوا، وتركوا أثرهم المسندي في أمريكا، وفي تخوم الأطلسي، وفي الصين، والتبت، فلماذا الاستغراب من القول أنهم قد غطوا كل جزيرة العرب بخطهم لماذا؟ وهم قد هيمنوا على كل الجزيرة، وحكموها حكماً مباشراً، ولم تكن هناك من كتابة قبل المسند والكل تفرع منه. وإذا كنا الآن نسمع كل يوم تقريباً عن اكتشاف أثري جديد أو أكثر في مناطق مختلفة من اليمن، سواء في شكل لوحات أو تماثيل أو نقوش أو كهوف، تحتوي على صور وأشكال ورسوم خربشات وكتابات مختلفة، أو أساسات قصور أو مقابر في الصخور أو الجروف أو أو ... إلخ. كما أن البعثات الأثرية الأجنبية والعربية مستمرة في البحث والتنقيب في الطبقات العليا وفي مناطق الحضارات المتأخرة وكلها تشير إلى قدم وعظم تاريخ اليمن، الأمر الذي جعل كتاب التاريخ التقليدي أو السائد -كما يصفهم الفرح- يعيدون النظر فيما كتبوا، ويتزحزحون عن مواقعهم السابقة، التي تخندقوا فيها مطمئنين إلى مراجعهم التوراتية ، أو أساتذتهم من المستشرقين، ومعظمهم من اليهود الذين رسخوا في أذهانهم بأن تاريخ اليمن لا يتجاوز الألف الأول ق. م. فقد صاروا يقولون أن تاريخ اليمن يرجع إلى زمن أبعد من ذلك، ولو أنهم قرأوا تاريخهم من مصادر وأهمها القرآن الكريم، وكتب الأقدمين من اليمنيين بعمق لما وقعوا فيما وقعوا فيه من الحرج والتناقض. وعدم وضوح الرؤية، بل وعدم القدرة على لملمة أفكارهم، وإعادة توازنهم، وبالتالي عدم الوثوق في كتاباتهم السابقة واللاحقة! ومما يؤيد ما أذهب إليه من قدم الحضارة اليمنية، وقدم وجود الإنسان في اليمن، وسر وجود الرسالات السماوية أيضاً قديماً في اليمن ما نشرته صحيفة 26 سبتمبر في عددها (1015) بتاريخ 27/6/2002م تحت عنوان (شواهد أثرية). اكتشافات وشواهد أثرية تعود لمختلف العصور القديمة، تحكي معتقدات وإبداعات وإنجازات أجيال من البشر، تعاقبوا على أرض مهد الحضارات الإنسانية القديمة. وقد جاء هذا الخبر بمناسبة اكتشاف تمثال لامرأة يمنية يبد أنها قتبانية من مدينة تمنع. وسترد الصورة ضمن مجموعة الصور ونقوش وأشكال وخرائط الكتاب. أما النص الثاني وهو الأهم فقد نشر في أكثر من صحيفة، وينقل هنا ما جاء في جريدة (الوحدة) العدد (602) بتاريخ 17/2/2002م . أي قبل أسبوع فقط من كتابة هذه السطور. وقد جاء تحت عنوان: كشف يمني قد سلب أفريقيا حضانة الإنسان الأول. النص: وصف مدير مكتب هيئة الآثار في تعز العزي محمد مصلح. الكشف المكتشف مؤخراً في مديرية مقبنة، أنه يمثل مفاجأة علمية كبرى، قد تثير ضجة عالمية. وأكد أن الكهف فريد ونادر، لا مثيل له في الحضارات الإنسانية القديمة في تصميمه ونحته وحجمه. وقال في حديث ل(الوحدة) تنشره في العدد القادم أن للكهف سبعة مداخل متساوية الارتفاع (5.5 أمتار) والعرض (4 أمتار) ويتراوح عمق أربعة منها بين 20 و35 متراً، فيما ثلاثة منها غير معروفة نهائياً) ويحمل الكهف الكثير من الألغاز، ويطرح العديد من الاحتمالات على صعيد استخداماته، التي يطلب تأكيد أي منها دراسة علمية، تحتاج إلى تقنيات نفتقر إليها حالياً. وتابع: (أن الكهف سيجعل اليمن من أهل المزارات السياحية في العالم، وأن الهيئة لم تتوصل بعد حتى الآن إلى تحديد دقيق لعمر الكهف (غير أن اللقى المكتشفة داخله حتى الآن ترجع إلى ما قبل مليون سنة ونصف المليون عام). وكشف «العزي مصلح» أن لقى الكهف تعود إلى العصر الحجري، بمستوياته الثلاثة الأول والوسيط والأخير، وعرف الإنسان الأول والوسيط والأخير، وعرف الإنسان الأول باستخدامها، وترجح أن تكون اليمن بالفعل هي أول موطن للإنسان الأول، وليس منطقة السبع العظيم في أفريقيا كما هو شائع. وقد سبق أن أشرت في كتابي هذا أعني في هذا المجلد، وفي الأول والثاني، وأكدت أن الإنسان الأول والإنسان العاقل وجد هنا على أرض اليمن، ومن هنا انطلقت الحضارات، وانطلق الحرف وانطلق الساميون. وهنا مهبط وحي نوح وهود، وما بينهما وما بعدهما من الأنبياء والرسل، بما فيهم إبراهيم عليه السلام. فكانت كتابة العرب بدوية مثل كتابتهم أو قريباً من كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدول. وأما مضر فكانوا أعرق في البدو وأبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق والشام ومصر. فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى المتوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع. وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة؛ فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتضى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. أما المؤرخ الناقد الأكثر فهماً وإلماماً بتاريخ العرب، ودور بعض المستشرقين وتلامذتهم من العرب بدسائسهم وتآمراتهم ومسخهم وتشويههم للتاريخ العربي، وهو الدكتور (نجيب محمد البهبيتي) فله آراء ناقدة كثيرة ورائعة. سنحاول عرض بعض ما له علاقة بالكتابة. يقول تحت عنوان (كتابة التاريخ عند العرب ميراث ضميري): (الشعوب العربية القديمة هي التي ابتكرت الخط ولم يبتكره أحد قبلهم، وكل شعب اتخذ الخط بعد ذلك إما أنه أخذه عن العرب أخذاً مباشراً، وإما أنه حاكاهم فيه جرياً واتباعاً لسنة كانوا هم خالقيها. والكتابة قد اقترنت ببواكير جميع ما عثر عليه من بقايا الأطلال العربية ومن النقوش. لا تجد أثراً مهما تضاءل ومهما أغرق في القدم لا مقترناً بالكتابة، وليس هو الشأن فيما وجد من آثار الشعوب غير العربية على حداثة وجود هذه الشعوب وطفولتها التاريخية إذا هي قيست بماضي العرب التاريخي القديم) (54) . ويحاول أن يعطي الكتابة تعريفاً عملياً وعلمياً في نفس الوقت فيقول: (والكتابة إنما وجدت لتسجيل الأحداث والوقائع والإبقاء على ما استحق البقاء من أعمال الشعوب، وحرصها على هذا التسجيل هو الذي هداها إلى ابتكار الكتابة، ومعنى ذلك ومؤداه أن الكتابة صنو الشعور بالحاجة على حمل الحاضر إلى المستقبل أي التاريخ. وقد اتصلت الكتابة في الآثار العربية منذ وجدت لم تنقطع في مرحلة من مراحل هذا التاريخ على عمقه الزماني والمكاني، وعلى اتساع دائرة الوجود العربي على ظهر الأرض كما سنرى. ومعنى ذلك وبحكم من اعتباره العريق تصبح كتابة التاريخ هي القاعدة التي ترتقي بالميراث الدائم إلى الثبوت في الواقع، والتركز في النفس بما يشبه الغريزة الفاعلة . وهي بهذا الإلحاح والاتصال تستحيل إلى قاعدة حيوية ثابتة، وإلى ميراث ضميري. ويبين مواضيع وأماكن الكتابة فيقول: (والكتابة وجدت في المقبرة وفي المعبد وفي القصر وعلى الأثر مسلة وهرماً ولوحة تذكارية، وتغطى بها جدران مدن الموتى) ونقول: وعلى صفحات الصخور وقمم الجبال وعلى الأسلحة والأدوات المختلفة. ويضيف: (إن كتابة التاريخ الشامل كانت تتم بأيدي الكهنة، وتودع في معابدهم رهن أوراق البردي، وعلى لفائف الحرير الأبيض الذي عرفه عرب شبه الجزيرة باسم (القباطي) كما كانت تودع في خزاناتها كل ثمار معرفتهم في عهد كان القلم فيه وقفاً على التلقين في المعابد للمصطفين الأخيار ممن يؤتمنون عليه). يقول: ( والمسند بالنسبة لنا هو خط قديم قائم بذاته يشابه الخط الحبشي. ومن فروعه الأبجدية اللحيانية والثمودية والصفوية. فكل هذه الأبجديات هي من فصيلة واحدة وعلى رأسها المسند، أما ما فوق المسند فلا نعرف من أمره أي شيء). قصة عبد الله بن جدعان والمغارة بقرب مكة كان عبد الله بن جدعان صعلوكاً من صعاليك قريش فأغار مرة على قبيلة كلاب بن ربيعة واستولى على مائة ناقة وباعها في الطائف، فأرسل كلاب إلى قريش أن سفيهكم أغار عليّ وطرد لي مائة ناقة فليس لكم أن تشهدوا سوق عكاظ في وسط أرض قيس عيلان. قال بن جدعان: وأن قريشاً ائتمرت بقتلي حتى لا أجني عليهم الجرائر فيطلبون بشيء وهم تجار لا يستغنون عن بلد، فلما أتيت منزلي من الطائف قيل لي: إن قبائل قريش ائتمرت بقتلك فانج بنفسك، فأخذت زاداً ومزاداً وخرجت هارباً مع الصباح إلى دوحة الزيتون أتظلل فيها وقريش تطلبني وإني أتيت دوحة الزيتون هارباً مستسلماً للقتل، فلم أزل أهرب وأطلب موضعاً أختفي فيه والقوم في طلبي حتى أتيت إلى حجر طبق على حجر بينهما خلل، يدخل منه النحيف متجانفاً في ذلك الخلل، فدخلت وأدخلت معي زادي ومزادي ثم هال عليّ السرب (التراب) ثم قلت لنفسي موتي في هذا السرب أحب إليّ من أن تقتلني قومي فيشمت عدو ويحزن حبيب، وأترك لقومي دخلاً في قريش، فسرت هارباً ملحلحاً في السرب، حتى دخلت داراً عظيمة فيها بيت، وفي وسط البيت جوهر وياقوت ولجين، وفيها أربعة أسرّة على كل سرير رجل قاعد وعلى رأسه لوح من رخام مكتوب بالمسند، فقرأت الألواح فأصبت فيها أن أهل الألواح الحارث بن مضاض وعبد المسيح ونفيلة ومضاض بن عبد المسيح، فأقمت خمسة أيام في ذلك البيت آكل من زادي وأشرب من مزادي حتى أيست قريش مني فخرجت ليلاً واحترزت فلم أجد أحداً في الغيضة فأخرجت ما أصبت من المال، وأخذت الألواح خيفة من قريش تكون لي عندهم براءة. ثم بلغت منزلي فأخذت جملاً وخرجت إلى ذات الحليفة ليلاً، فلما أصبح أتيت سيارة يريدون مدين، فسرت معهم لا يدرون من أنا ولا ما معي حتى بلغت مصر فبعت ما معي وأصبت مالاً جليلاً فرجعت .. ثم سرنا إلى سوق عكاظ وأرسلت إلى قريش فشهدت عكاظ ذلك الموسم، ثم انصرفت معهم إلى مكة فلما ظهر بعض مالي وثبوا عليّ وقالوا غدرت وأعلمتهم بما كان من المغارة، وأخرجت لهم الألواح، فأرسلوا معي خويلد بن أسد بن عبد العزى، وخويلد أبو خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، ووهب بن عبد مناف الزهري، وهو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم فسار. معي وسرت بالألواح حتى دخلت ودخلا معي وعاينا الأشباح قالا لي: رد الألواح، فرددت كل لوح إلى مكانه وخرجنا واعتونإ على حجر عظيم فسددنا به الخلل لئلا يكون القبر ملعبة للسفهاء) (57) . وتحت عنوان: التاريخ الصحيح للخط العربي الأخير نموذج من عبثهم بالتاريخ، يقول: (وإذا قال لنا العرب بكل قديمهم هذا أنهم أخذوا خطهم الأخير من الأنبار وأن ناقله إلى مكة بعد أن تعلمه بالأنبار (هو بشر بن عبد الملك أخ أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دومة الجندل) وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان فعلم جماعة من أهل مكة؛ فلذلك كثر من يكتب بمكة من قريش، ثم قدموا لنا شاهداً من شعر رجل كندي من أهل دومة الجندل يمن على قريش بما علمهم بشر فيقول: لا تجحدوا نعماء بشر عليكمو فقد كان ميمون النقية أزهرا أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو من المال ما قد كان شتى مبعثرا وأتقنتمو ما كان بالمال مهملاً وطامنتمو ما كان منه منفر فأجريتمو الأقلام عوداً وبدأة وضاهيتمو كتاب كسرى وقيصرا وأغنيتمو عن مسند الحي حمير وما زبرت في الصحف أقيال حمير وهو يعتبر هذا النص نصاً دامغاً وثميناً في نفس الوقت للتدليل على أن مكة قد تلقت قلم الجزم من خارجها وأنه في الأصل قادم من اليمن. وفوق هذا فهو مستلهم من السطر الأخير ما سبق لغيره أن ألمع إليه أن اليمنيين كانوا يكتبون خطين لا خطاً واحداً. يقول تحت عنوان (خطان في اليمن): (وبهذا الخط غنوا عن (مسند حمير) وهذا مفهوم واضح، ولكن في البيت نفسه معنى جديداً يلفت الانتباه ويصف الخواطر. ذلك أن الشاعر يتناول بين نوعية من الخط اليمني حين يقول: فأغنيتمو عن مسند الحي حمير وما زبرت في الصحف أقيال حميرا الشاعر عندي لا يكرر في الشطر الثاني من بيته هذا الإشارة إلى (المسند الحميري) ولكن يشير إلى الخط الذي تكتب به أقيال حمير في صحفها وكأنه نوع مغاير لما دعاه (مسند الحي حمير). ويسترسل: والواقع أني كنت شديد الحيرة حينما كنت أقرأ عن ملوك حمير أنها كانت تحرم على غيرها استعمال الخط الذي احتكرته لنفسها. ولم أصادف في قراءاتي ما يفيد أنهم كفوا عن هذا التحريم. والأخبار الإسلامية تطبق على هذا لا يشذ فيها عنه شاذ. ثم إني كنت أرى بعد هذا وأقرأ عن وجود النقوش الكثيرة بالمسند اليمني كشفت في القديم ووردت الإشارات إليها في كتب تاريخنا وأدبنا وهي اليوم تكشف بالألوف. فكيف يمكن إذن التوفيق بين التحريم المطبق عليه لاستعمال الخط اليمني الملكي، وبين هذه النقوش الكثيرة جداً بخط يمني كذلك؟ وكيف أمن هؤلاء الكتاب اليمنيون الذين كتبوا هذه النقوش ومنها ما كتب في عهود سيطرة أولئك الملوك على مصادر بلادهم، كيف أمنوا عقاب ملوكهم؟ ما دام الملوك يحرمون استخدام خطهم؟ لم يكن لهذا عندي جواب إلا أن هذا الخط الملكي كان سراً من أسرار الدولة محفوظاً في دواوين الملوك لأداء حاجاتهم منه. وهو إذن غير هذا الخط المستعمل بين طبقات شعبهم فلا حرج على كاتب أن يكتب به، ولو لم يكن للملوك هناك خط سواه ثم حرموه على شعوبهم لكان معنى هذا أنهم فرضوا الأمية والجهل على شعوبهم، وحرموا عليهم مرفقاً من مرافق الحياة لم تتم يوماً حياة الحضارة العربية إلا به، وهو فرض لا يقبل. ويكون الخط المسند المستخدم في الحياة العامة هو هذا الخط الموجود على النقوش التي يزداد عددها مع كل يوم يمر، أما (المسند الملكي فكان سراً ووقفاً على ديوان الملك). ولقد جاء هذا البيت الشعري من هذا الكندي بمثابة نور التمع في ظلام محير فبدده. فقد كان الملوك يكتبون بخطهم الخاص سجلاتهم في الصحف ولا يبتذلونه باستخدامه فيما يعرض على أنظار الناس، والصحف عرضة للبلاء والدمار. واليمن قد أصابها من عنت الدهر ما يفتت الصخر، فكيف بما يزبر فوق الجلود والحرير؟ وكان الشاعر واضحاً في إرادته هذا التفريق حين ميز بين النوعين فجعل أولهما (للحي) وجعل ثانيهما (للأقيال) أي الملوك. ويختتم حديثه قائلاً: (ما أظن أن الاستشراق، كان عاجزاً عن أن يحصل هذه الدلالات لهذا الشعر، وإن كنت أسيء الظن كثيراً بقدرة أصحابه على التغلغل إلى روح النص العربي، إلا أن العجز عن تحصيل هذا القدر يرجع في الراجح إلى استمرائهم التكذيب متوارين دائماً وراء الشك الذي لا شك فيه). يقول: (فخط الجزم قد حل محل الخط المسند اليمني العام، وكل خط سبق الخط الأخير كان يدعى عندهم (المسند) (59) . وأخيراً لابد أن نتذكر تلك الإلماعة الخطرة التي أوردها صاحب التيجان على لسان وهب بن منبه إذ قال: قال وهب: وأن حمير قفل من أرض المغرب راجعاً وكان يكتب بالمسند في جميع سلاحه من الحديد، وفي الأجيال إذ مرعليها فأكثر من ذلك فرأى في منامه كأن آتياً أتاه فقال له: يا حمير. قال له: ومالي؟ قال: تكتب هذا الخط المسند الكريم على الله على الحديد، والحجر، والعُود يدرس وتعلوه النجاسات، والله كرمه واصطفاه، وادخره للفرقان يأتي به محمد صلم في آخر الزمان فصنه، واحفظه فإن الله تبارك وتعالى اصطفاه للقرآن. أكرم الكتب إلى الله، واللسان العربي سيد الألسن، وللجنة خير خلق الله، ولمحمد خير البشر ولكن استخدم هذا الخط أنت وولدك فإن لكم به على الخلق فضيلة إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ومر بنيك من بعدك بحفظ هذا الخط ثم ارتفع. فلما أصبح دعا بنيه فقال: يا بني إنه كان من أمري ما كان (ما كذا وكذا) قالوا له: هل رأيت شيئاً قال: لا. قال له وائل ابنه: سترى يا أبي أن الله كريم لا يمنعك شيئاً إلا جعل لك منه عوضاً. فلما نام الليلة الثانية أتاه آت فقال له: إقرأ يا حمير قال له: وما أقرأ فنظر إلى جبينه فإذا عليه خط مكتوب قال له يا حمير: إقرن هذا بخط أبيك. المسند من الأول إلى آخره. فاستخدم هذا الخط فقرأ حمير وردده حتى فهمه فلما أصبح دعا بنيه فكتبه وهو هذا (وقد ضاع في طبعة الهند للأسف الشديد) وهذا دليل على وجود خطين وربما أكثر لدى اليمنيين، كما أنه دليل على أن القرآن كتب بالمسند المطور ودليل على انتشار اليمنيين منذ أكثر من ستة آلاف عام. الفصل الخامس المسند يغطي كامل الجزيرة بالرغم من سبق الكلام عن شمول خط المسند كل أرجاء الجزيرة العربية وما جاورها، إلا أننا نزيد الأمر هنا تأكيداً وإثراءً وتوضيحاً. من المؤكد تاريخياً وعلمياً أن اليمنيين قد غطوا خلال نزوحهم المتتالي من اليمن، ومنذ أقدم العصور كل أنحاء شبه جزيرة العرب وأطرافها بما فيها العراق والشام ومصر، بل لقد تجاوزوا هذه البقاع حتى الصين والهند شرقاً، وتركوا في التبت قوماً عاشوا هناك أجيالاً طويلة، كما بلغوا الأناضول وأجزاء كبيرة من أوروبا، وأطلوا على المحيط الأطلسي. وظل وصولهم إلى أمريكا لغزاً محيراً. هل كان من الشمال عبر اللسان الذي كان يوصل شمال شرق أمريكا الشمالية بشمال غرب آسيا، أم عبر المحيط الأطلسي وبواسطة سفنهم الشراعية أم سفن تجارية؟! ويدعم هذا القول ويصدقه ما اكتشف ويكتشف في أعماق صحراء الربع الخالي ومنطقة الأحقاف من جبال من خبث الحديد وكذلك في منطقة صعدة وغيرها. والذي يهمنا هنا التأكيد على قدم انتشار اليمانيين منذ حضارة عاد، التي قد تصل إلى ثلاثة عشر ألف سنة ق. م. وقد سبقت الإشارة أكثر من مرة إلى عظمة حضارة هؤلاء القوم، وأنهم تكلموا العربية القديمة، وكتبوا الخط المسند، وكانوا أول من اخترع الحرف، وكتبوا معارفهم وعلومهم به وتوارثوه. أما عن حضاراتهم المادية فإن ذا العزة والجلال قد حدد بعض ملامحها بقوله: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ )[الشعراء: 128- 130] قال عن مدينة إرم التي بناها العاديون: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ )[الفجر:7، 8. قال الشيخ الشعراوي: الريع: المكان المرتفع. والآية في البناء: أنهم كانوا يبنون قصوراً آية في الإبداع والفن والعمارة والتشييد والزخرفة والفخامة والاتساع والعلو، ويقيمون المصانع والمباني الضخمة كأنهم مخلدون في هذه الدنيا. هذه القصة وضحتها سورة الفجر، فنحن في مصر لا نعرف عن عمارة عاد وحضارتهم شيئاً، ولكن نعرف الكثير عن حضارة فرعون ونشاهد الأهرامات التي بنوها كمقابر، وذلك لأننا مصريون، لا زالت حتى الآن تبهر عقول العالم كله، وتعجز دول الحضارة الحديثة عن تفسير ألغازها، حتى أن العلماء العالميين احتاروا في معرفة كيفية بناء حجارة الأهرام بدون مواد البناء، وأخيراً اهتدوا إلى أن هذا تم بتفريغ الهواء، لأن مواد البناء عبارة عن طبقة طرية تملأ الفراغ بين الأحجار واللبنات وتفريغه من الهواء، ولكن هذه الحضارة العجيبة حين نقارنها بحضارة عاد نجد أنها دونها لأن الله تعالى عندما تكلم عن حضارة عاد قال: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} الفجر. فكأن حضارة الفراعنة لا تذكر بالنسبة لها. ربما يقول شخص ما: حضارة عاد هذه في رمال الأحقاف بالقرب من حضرموت في جنوب الجزيرة العربية التي يسمونها الربع الخالي، فأي حضارة في هذه الجبال والرمال؟! نقول له: هذه الرمال أمر طرأ على هذه الحضارة فغطاها بعد أن كان زروع وثمار وأشجار. ويضيف: نحن لم نشاهد هذه المباني، ولا يوجد الآن في هذه الأماكن إلا رمال الصحراء فهذه المباني كلها مطمورة، والريع: هو المكان المرتفع. ويطلق على الارتفاع في كل شيء ريع، ولذلك حين يقيمون عمارة أو أرضاً يقولون كم ريعها؟ والمعنى: أتبنون بكل مكان مرتفع آية في المعمار، أي شيئاً عجيباً، فهم لا يبنون مجرد بيوت تقيهم حِرَّ الصيف وبرد الشتاء، ولكنهم ينفقون ويتكلفون في البناء فوق الحاجة، وفوق المسكن، ويبنون هذه الأشياء للعبث. وعن المصانع يقول: المصانع تطلق على موارد الماء، وتطلق على الحصون، لأنها تحتاج إلى بناء وصنعة غير عادية لأنها لا تبنى للإيواء الذي يحمي الإنسان من هموم الحياة العادية فقط، ولكن الحصون تحمي الإنسان من الأعداء الشرسين الذين يهددونه. فهم كانوا يبنون هذه الحصون ويبالغون فيها كأنهم سيخلدون في هذه الدنيا مع أنها في الواقع دار ممر..). ونلاحظ هنا أن تفسيره للفظ (المصانع) تفسير تقليدي، بينما قد تكون الحقيقة غير هذا تماماً، فقد تكون لديهم مصانع حقيقية كما يدل على ذلك صناعة الكثير من المعادن، واستخدام الكثير منها في بناء مدينة (إرم ذات العماد) في ذلك الوقت المبكر، وأيضاً وجود جبال خبث الحديد في أكثر من مكان، ووجود مدينة تسمى (مدينة النحاس) بالقرب من مأرب، ووجود قضبان الرصاص والنحاس في مباني القصور والسدود والمنشآت الضخمة، كالمعابد وغيرها. وهذه الأشياء موجودة الآن أمام ناظرينا، وعن قوله تعالى:(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء: 133، 134] قال: أمدكم بالأنعام والبنين والحدائق وعيون الماء، والأنعام: هي الضأن والمعز والإبل والبقر التي تأكلون لحومها وتشربون ألبانها وتنتفعون بأصوافها وأوبارها، وتحملون عليها متاعكم وأنفسكم، وأمدكم بالأرض الخضراء ذات الأشجارالمثمرة والحدائق الغناء وعيون الماء تشربون منها وتسقون حيواناتكم. كل هذه النعم كانت موجودة في جنوب الجزيرة العربية قبل أن تغطيها الرمال) (62) . وقال تعالى عن ثمود: { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [الشعراء:146-148] وكان المنتقلون من اليمن، بمن فيهم الساميون، ينقلون معهم ثقافتهم، وكان من ضمن ما نقلوا معهم خطوطهم، لذلك فإن من نافلة القول التأكيد على ما سبق اليمانيين في اختراع الكثير من الأمور الكبيرة والخطيرة، التي أثرت في مجرى حياة الإنسان، منها اختراع الحرف، واكتشاف الكثير من المعادن واستعمالها، وبناء ناطحات السحاب من القصور الضخمة، وابتكار بناء السفن، وبناء السدود الضخمة، واستنبات الحبوب والفواكه، والخضار واستزراعها، وتأنيس الحيوانات التي كانت كلها متوحشة ... إلخ. من المنجزات الحضارية العظيمة، ومنها التحنيط، فالفكرة يمنية ولا شك في هذا. وبما أننا بصدد الكتابة، فإن اليمن كانت منبع الخطوط جميعاً، وكان المسند خطين. كما كان هنالك خط ثالث وفقاً لإشارة صاحب التيجان. قال: قال وهب: وإن حميراً قفل من أرض المغرب راجعاً، وكان يكتب بالمسند في جميع سلاحه من الحديد. وفي الأجبال إذا مر عليها، فأكثر من ذلك، فرأى في منامه كأن آتياً أتاه فقال له: اتق الله يا حمير. قال له: وما لي؟ قال: تكتب هذا الخط المسند الكريم على الله على الحديد والحجر والعود يدرس وتعلوه النجاسات، والله كرمه واصطفاه وادخره للفرقان، يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، فصنه واحفظه، فإن الله تبارك وتعالى اصطفاه للقرآن أكرم الكتب إلى الله، واللسان العربي سيد الألسان، وللجنة خير خلق الله، ولمحمد خير البشر، ولكن استخدم هذا الخط أنت وولدك، فإن لكم به على الخلق فضيلة إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ومر بنيك من بعدك بحفظ هذا الخط، ثم ارتفع. فلما أصبح دعا بنيه فقال: يا بني إنه كان من أمري كذا وكذا وقالوا له: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا قال له وائل ابنه: سترى يا أبت أن الله كريم، لا يمنعك شيئاً إلا جعل لك منه عوضاً، فلما نام الليلة الثانية أتاه آتٍ فقال له: اقرأ يا حمير. قال له: وما أقرأ. فنظر إلى جبينه فإذا عليه خط مكتوب قال له: يا حمير، اقرن هذا بخط أبيك المسند من الأول إلى آخره، فاستخدم هذا الخط، فقرأ حمير، وردده حتى فهمه. فلما أصبح دعا بنيه وكتبه وهو هذا). إن الخط المسند كان هو الخط الأول، وهو الخط الوحيد الذي كتب به سكان الجزيرة وغيرها، ثم تفرعت عنه الخطوط المختلفة، وبالذات تلك التي تسمى بالسامية، ولم يعد القول في هذا الأمر رجماً بالغيب أو شيئاً من المجازفة والمكابرة، وإنما صار حقيقة علمية وبديهة موضوعية، برهانها قائم وماثل أمامنا في كتاب الله، وفي لغة العرب المتداولة، وفي الصخور وأعمدة القصور، وأصداف السدود وتحت الرمال وفي الكهوف والمغارات، ومع جثث الموتى المحنطة، التي كشفت والتي لم تكتشف بعد، وهي الأكثر نسبة والأهم علمياً وتاريخياً. على أن كتب التراث مفعمة بالإشارات والتلميحات الصحيحة عن تاريخ اليمن، ولكنها مبعثرة ومبثوثة في غضون هذه الكتب، وفي ما بين السطور التي لا يدركها إلا اللبيب والمتخصص، والمخلص لأمته إخلاصاً كاملاً، ولا تقصه الكفاءة والشجاعة: (وتظهر من عثور الباحثين على كتابات مدونة بالمسند في مواضع متعددة من جزيرة العرب، ومنها سواحل الخليج العربي، بعض منها قديم، وبعض منها قريب من الإسلام. إن قلم المسند كان هو القلم العربي الأصيل والأول عند العرب. وقد كتب به كل أهل الجزيرة، غير أن التبشير بالنصرانية الذي دخل جزيرة العرب، وانتشر في مختلف الأماكن، أدخل معه القلم الآرامي المتأخر، قلم الكنائس الشرقية، وأخذ ينشره بين الناس، لأنه قلمه المقدس الذي به كاتب رجال الدين؛ ولما كان هذا القلم أسهل في الكتابة من المسند، وجد له أشياعاً وأتباعاً بين من دخل النصرانية، ومن الوثنيين أيضاً لسهولته في الكتابة، غير أنه لم يتمكن مع ذلك من القضاء على المسند، إذ بقي الناس يكتبون به . فلما جاء الإسلام وكتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم صار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين).