تواصل مليشيا الحوثي استهداف العملية التعليمية في محافظة الحديدة بسياسات إقصاء وتهميش ممنهجة، طالت آلاف المعلمين والمعلمات الذين قضوا أعواما طويلة في خدمة التعليم، لتوجه لهم ضربة جديدة عبر استبعادهم من كشوفات نصف الراتب بحجة "الفائض الوظيفي". وقالت مصادر تربوية إن مليشيا الحوثي أقصت أكثر من 1300 معلم ومعلمة مع بداية الفصل الدراسي الثاني، رغم استمرارهم في التدريس وتحملهم أعباء النقص الحاد في الكادر التربوي، مؤكدة أن الخطوة تهدف إلى خلق خلل واسع في المدارس تمهيدًا لإحلال عناصر موالية للمليشيا.
وأوضحت المصادر أن محافظة الحديدة هي الوحيدة التي شهدت هذا المستوى من الإقصاء الجماعي، حيث تم حذف أسماء آلاف المعلمين ممن يدرسون أكثر من 18 حصة أسبوعيا، في وقت يعاني فيه القطاع التعليمي من تراجع مخيف انعكس على مستوى المخرجات وتدهور بيئة التعليم بشكل عام.
وأثارت القرارات الحوثية موجة غضب واسعة في أوساط المعلمين بمحافظة الحديدة، خصوصا بعد وفاة التربوي منصور النوم، الأربعاء الماضي، إثر ذبحة صدرية عقب علمه بإسقاط اسمه من كشوفات نصف الراتب، في حادثة هزّت الشارع وأعادت تسليط الضوء على المعاناة الإنسانية المتصاعدة في صفوف الكادر التعليمي.
تصفية للكادر التربوي
مصادر خاصة كشفت ل"الصحوة نت" أن مسؤولين في مكاتب التربية بالحديدة، يدينون بالولاء لمليشيا الحوثي، أعدوا كشوفات الاستبعاد رغم علمهم بالنقص الكبير في الكادر التربوي، مقابل حصولهم على مكافآت مالية من وزارة المالية التابعة للمليشيا.
وبحسب المصادر، يحصل كل مدير مدرسة أو مسؤول تربوي يرفع أسماء أكثر من مدرسته أو مديريته في كشوف "الفائض" على حوافز مالية بنسب محددة، ما شجع الكثيرين على التلاعب بالقوائم وتوسيعها على حساب مستقبل المعلمين واستقرار العملية التعليمية.
وتأتي هذه الإجراءات ضمن سياسة حوثية متواصلة لإحلال عناصرها في المؤسسات الحكومية، إذ تسعى المليشيا إلى السيطرة على المدارس والجامعات وتطويعها لخدمة مشروعها الطائفي، عبر تهميش الكوادر الوطنية وإغراق التعليم بخطاب التحريض والعنف والتعبئة.
ويرى مراقبون أن استبعاد أكثر من ألف معلم دفعة واحدة في محافظة واحدة يمثل تصعيدًا خطيرًا يستهدف تدمير ما تبقى من بنية التعليم في الحديدة، وتحويل المدارس إلى أدوات دعائية تعبّر عن أيديولوجية المليشيا وتغرس مفاهيمها في أذهان الأجيال.
وعود كاذبة
تروج مليشيا الحوثي منذ سنوات لما يسمى "صندوق دعم المعلم"، الذي زعمت أنه يهدف لتوفير رواتب التربويين، وفرضت لأجله رسومًا إضافية على الشركات والمصانع والإيرادات العامة، إضافة إلى رسوم إضافية يدفعها كل مواطن في فواتير الخدمات كالاتصالات والمياه والكهرباء.
منذ إنشاء الصندوق، لم يتسلم المعلمون أي مستحقات، فيما تذهب عوائده الضخمة لتمويل الفعاليات الطائفية والأنشطة العسكرية والدعائية للمليشيا، في وقت يعيش فيه التربويون وأسرهم أوضاعًا قاسية بسبب انقطاع الرواتب منذ ثماني سنوات.
في 2023، وعدت الجماعة بصرف رواتب شهرية بانتظام وفق تصنيف ثلاثي للموظفين: الفئة "أ" تضم الموالين في مؤسساتها ويتقاضون رواتب كاملة، والفئة "ب" تشمل المعلمين ويُصرف لهم نصف راتب كل عدة أشهر، بينما الفئة "ج" يُحرم أفرادها كليًا من أي مستحقات، وتضم موجهين تربويين وإداريين ومتطوعين وغيرهم.
ورغم ضآلة المبالغ التي من المفترض أن يتسلمها المعلمون، والتي تصل، كحد أقصى، إلى نحو خمسين دولارًا فقط، فإن المليشيا لم تلتزم بدفعها في مواعيدها، إذ أصبحت تُصرف بشكل متقطع كل شهرين أو ثلاثة، لتُبقي آلاف المعلمين في دوامة من العجز المعيشي والقهر النفسي المستمر.
انهيار التعليم وتفشي الفقر
تشهد مدارس الحديدة انهيارا شاملا في مستوى التعليم والخدمات، بعد أن أصبحت عشرات الفصول بلا معلمين مؤهلين، واضطر العديد من التربويين إلى ترك أعمالهم والبحث عن أعمال بديلة لتأمين احتياجات أسرهم في ظل الغلاء وانقطاع الدخل.
وكشفت مصادر خاصة ل"الصحوة نت" أن أكثر من 12 مدرسة في مربعات مدينة الحديدة فقط، توقفت فيها العملية التعليمية كليًا بسبب غياب الكادر التعليمي، حيث تُفتح أبوابها يوميًا دون وجود معلمين أو طلاب، في مشهد يعكس الانهيار التام للقطاع التعليمي في المدينة.
وأضافت المصادر أن المئات من الطلاب اضطروا للانتقال إلى مدارس أهلية أو حكومية أخرى ما تزال تعمل جزئيًا، إذ تقتصر الدراسة فيها على ثلاث حصص يوميًا فقط، وسط ازدحام طلابي شديد ونقص حاد في المعلمين، ما يهدد بتوقفها الكامل خلال الفترة القادمة.
ويؤكد معلمون أن ما يتقاضونه في الشهر لا يساوي مصروف يوم واحد لمشرف حوثي، وهو ما يعكس حجم التفاوت الطبقي داخل منظومة المليشيا التي حولت موارد الدولة إلى شبكة امتيازات خاصة بمشرفيها وقادتها العسكريين والأمنيين.
وأدى غياب الكادر التربوي وتدهور الأوضاع المعيشية إلى ارتفاع معدلات التسرب المدرسي، وازدياد عدد الأطفال الذين يُجبرون على العمل أو يقعون في مغبة التجنيد الحوثي، ما يهدد بتفريغ جيل كامل من حقه في التعليم لصالح أجندة الحرب الحوثية.
تواطؤ إداري وغضب شعبي
وأكدت مصادر تربوية ل"الصحوة نت" أن قرارات الاستبعاد الأخيرة تمت بتنسيق مباشر بين مسؤولي المليشيا في المالية والتعليم، ضمن خطة تهدف إلى توجيه الموارد المتبقية نحو ما يسمى "المجهود الحربي" وإهمال القطاعات المدنية والخدمية.
في الوقت نفسه تتصاعد حالة الغضب بين الأهالي والمعلمين جراء هذا الاستهداف الممنهج، خصوصًا بعد تكرار وعود الحوثيين بصرف الرواتب دون تنفيذ، ما ولّد قناعة عامة بأن المليشيا تتعمد إذلال الكادر التربوي والسيطرة الكاملة على المؤسسات التعليمية.
ويحذر تربويون من أن استمرار هذه السياسات سيدفع نحو انهيار تام للقطاع التعليمي في المحافظة، محمّلين المليشيا مسؤولية حرمان آلاف الطلاب من حقهم في التعليم وتهديد مستقبل أجيال كاملة بالضياع.
وفي ظل هذا الواقع القاتم، تواصل مليشيا الحوثي تفكيك ما تبقى من العملية التعليمية، غير آبهة بمعاناة آلاف المعلمين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الأجيال، ليتحوّل القطاع التربوي إلى أداة جباية وتمويل ومنصة دعاية وترويج لمشروع السلالة الكهنوتي.