تحتلّ الشهادة موقعًا عظيمًا في وجدان الإنسانية كلها، فهي تعبير عن ذروة العطاء، وخلود القيم، وسمو الإنسان حين يقدم أغلى ما يملك في سبيل مبدأ يؤمن به. ولعلّ من اللافت أن تقديس الشهداء ظاهرة إنسانية عامّة، يشترك فيها الناس بمختلف أفكارهم وتوجهاتهم، مختلف الأقوام والقوى ومختلف الملل، حتى أولئك الذين لا يؤمنون بالبعث أو الجنة أو النعيم الأخروي، يطلقون على قتلاهم لقب "الشهداء"، لأن الفطرة الإنسانية تميل في الغالب إلى تعظيم الشهداء ، ولذلك حرص الكل أن يسموا قتلاهم بالشهداء، بغض النظر عن أي توجه، عن أساس الموقف، عن طبيعة الهدف، ... الخ. لكن ومع هذا التقدير الفطري العام يبقى السؤال الإيماني والقرآني الجوهري: ما هي الشهادة الحقة؟ ومن هو الشهيد في سبيل الله حقًّا؟ أولًا: قداسة الشهادة في الوجدان الإنساني الشهادة في سمو وعظمة منزلتها واعتبارها لدى الجميع، الشهيد في مقامه العظيم والعالي، وما حظي به من شرف باعتراف الكل من الملاحظ أن كل جماعة أو مذهب أو تيار يحرص على أن يُلحق قتلاه بعنوان "الشهداء"، ويعتبر ذلك تشريفًا وتكريمًا وتخليدًا، حتى الجماعات التي لا ترتبط بدين أو بمنظومة قيم أخلاقية، تسمي قتلاها شهداء، لأن في الوعي الإنساني إدراكًا فطريًا بأن الشهادة رمزٌ للبطولة، وذروة العطاء الإنساني، لكن هذا التقديس العام، وإن عبّر عن احترام التضحية، لا يكفي وحده لتحديد معنى الشهادة الحقّة كما أرادها الله تعالى، لأن المفهوم الإلهي للشهادة مرتبط بالنية، والهدف، والموقف، والقضية التي يُقتل الإنسان في سبيلها والتي رسمها الله في القرآن . ثانيًا: الخلط في المفهوم المعاصر للشهادة: في ظل غياب الوعي الإيماني السليم، تشوّش معنى الشهادة في أذهان كثيرين، حتى صار البعض يطلق لقب الشهيد على كل من يُقتل، دون نظر إلى سبب مقتله أو طبيعة موقفه. بل إن بعض الاتجاهات الدينية المنحرفة قدّمت الشهادة في قالبٍ ماديّ بحت، فاختزلتها في "الانتقال السريع إلى الجنة" و"الظفر بالحور العين"، دون وعيٍ بالمقصد الإلهي الأعظم: أن تكون التضحية في سبيل الله، لا في سبيل رغبة شخصية أو دافع مادي. مثل: القوى التكفيرية، منهجية محاطة بأساليب معينة وطرق معينة، تُحدث تأثيراً في البعض، فيذهب هكذا: ليس لديه قضية، ليس لديه مبدأ، ليس لديه أي شيء، المسألة ملخصة عنده ومختصرة عنده في حدود أنه يريد أن يذهب ليجعل من عملية القتل وسيلة إلى انتقال سريع إلى هناك، إلى ما قد شدوا أنظاره إليه وعبأوه به بشكل جذاب ومغرٍ جدًّا جدًّا، حتى بات لا يفكر في أي شيء، إلا في الحوراء ومعانقتها والحياة معها... الخ. والحقيقة أن الشهادة ليست هروبًا من الحياة، ولا تجربة انتحارية باسم الدين، بل هي أسمى أشكال الوعي بالمسؤولية الإيمانية، حين يقدّم الإنسان حياته دفاعًا عن الحق، والعدل، والكرامة، ومواجهةً للظلم والطغيان. وليست القضية مجرد عنوان في سبيل الله فنحن في مرحلة خطيرة يمكن أن يزيف لك الأمريكيون عناوين أخرى وقد فعلوها وصنعوا بذلك الجماعات التكفيرية التي تهدم وتشوه الإسلام من الداخل. والسبيل هو: الطريق التي رسمها الله في القرآن ليتحرك فيها من يجاهد في سبيل الله هي طريقة مرسومة أين رسمها؟ في القرآن تبدأ من القيادة والمنهج الذي تسير عليه في الطريقة التي لا يمكن أن يخترقها المزيفون فعندما تعرف وتفهم هذا سيتبين لك من هو في سبيل الله وتكفيك بألا تخدع بالآخرين. لهذا يجب أن نكون على وعي تام. ثالثًا: المفهوم القرآني للشهادة: القرآن الكريم هو منبع التعريف الصحيح للشهادة، ومع إحاطة المسألة هذه بالتعظيم والتقديس والتبجيل الكبير إذ قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ} ويقول -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} .. هاتان الآيتان تقدّمان أوضح وأعمق تصويرٍ لمعنى الشهادة: الشهادة حياة، لا فناء حياة ينتقل الإنسان فيها إلى حالةٍ من الاطمئنان التام، والأمن، والاستقرار النفسي، والاستبشار بجنة الخلد التي هي ما بعد مرحلة القيامة والحساب النص القرآني يؤكد- بما لا يدع مجالاً للشك- أنها حياة حقيقية، وفيها النعيم، وفيها الرزق، وفيها الاستبشار بالمستقبل الموعود العظيم، وفيها الاستبشار بمن خلفهم، ممن هم في نفس الطريق، في نفس النهج، في نفس المشوار، في نفس المبادئ، في نفس التوجه، في نفس الالتزام، في نفس الهدف... فالقرآن يؤكد هذا، هؤلاء الذين يحظون بهذا الشرف العظيم، برضى الله عنهم، بتقديره العظيم لعطائهم ولتضحياتهم، لدرجة أن يخلّدهم في حياةٍ أبدية، وأن لا يذهبوا إلى الفناء والانعدام للحياة إلى يوم القيامة، بل يحظوا حتى من بعد لحظات شهادتهم ومرحلة شهادتهم إلى قيام الساعة بهذه الحياة، بهذه الضيافة الإلهية، هذا تقدير كبير لعطائهم، وتمجيد وشكر لسعيهم ولعطائهم، يعني مكافأة إلهية عظيمة، تعبِّر عن عظمة هذا العطاء، وعن التقدير الإلهي والتثمين الإلهي والرضى الإلهي عن هذا العطاء، رضىً من الله، وقابل عطاءهم وتضحياتهم بحياتهم بهذا العطاء العظيم.. الشهيد في ضيافة عند الله، يعيش في رعايةٍ إلهية ونعيمٍ خاص، قبل يوم القيامة. الشهادة رضى من الله وتكريم لعطاء المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة ووقفوا في وجه الباطل. فالحياة التي يحياها الشهيد "عند ربه" هي حياة حقيقية، وإن كانت خارجة عن نطاق إدراكنا الدنيوي. هي حياة أبدية مشمولة بالعناية والضيافة الإلهية، جزاءً لعطاءٍ عظيمٍ وصدقٍ في الموقف. رابعًا: في سبيل الله.. عنوان الشهادة الحقّة: الشرط الجوهري في الشهادة القرآنية هو قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، أي أن تكون التضحية منطلقة من قضية عادلة وموقف حق، وضمن منهج الله في العدل والحق والخير. الشهيد لا يُقتل عبثًا، ولا طمعًا، ولا طلبًا لثأر أو جاه أو مصلحة. هو إنسانٌ مؤمنٌ صاحب قضية، يدافع عن الحق، يواجه الظلم، ينصر المستضعفين، ويتحرّك على أساسٍ من قيمٍ إلهية: العدل، والصدق، والحرية، والكرامة. أما من يُقتل في سبيل الباطل، أو لأهداف مادية أو عدوانية، فليس بشهيد عند الله، وإن سمّاه الناس شهيدًا. فالمعيار ليس القتل، بل النية والموقف. الشهادة في سبيل الله هي تضحيةٌ بتوفيقٍ من الله -سبحانه وتعالى- في موقف الحق وفي إطار قضيةٍ عادلة، وفق توجيهات الله وتعليماته، والعنوان المهم: في سبيل الله، هو عنوانٌ للشهادة في مفهومها الإسلامي القرآني المقدس، هذا المفهوم هو: أنَّ الإنسان الذي يحتفظ بجوهره الإنساني القيمي والأخلاقي، هو أغلى وأعلى قيمةً من كل الموجودات على هذه الأرض، بل أغلى وأعلى قيمةً حتى من الأرض بكلها، قيمته في جوهره الإنساني أعلى من كل قيمةٍ لكل الموجودات في هذه الدنيا، كما ورد عن الإمام علي -عليه السلام- في عبارةٍ مهمة: (إعلموا أنه ليس لأنفسكم ثمنٌ إلَّا الجنة، فلا تبيعوها إلَّا بها)، وكما أتى في النص القرآني المبارك في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. شهيد المسؤوليّة والموقف: هو من ضحّى عن وعي وإيمان دفاعًا عن الحق والمستضعفين، وهو أعظم مراتب الشهادة، شهيد المظلوميّة: من يُقتل ظلمًا دون أن يكون في موقفٍ مسؤول، وهو شهيد في مظلمته، لكن دون مقام شهيد الموقف الذي حمل قضية وأدّى واجبه، إن الشهادة ليست حدثًا عابرًا، ولا مجرّد موتٍ كريم، بل قيمة ربانية تمثل قمة الوعي الإيماني، حين يدرك الإنسان مسؤوليته أمام الله وأمام قضيته وأمّته. الشهيد الحقّ هو من نذر حياته لله، ومماته لله، وأوفى في ما عهد عليه الله وحمل قضيته بصدقٍ وإيمان، فاستحقّ أن يخلّده الله حيًّا عنده يُرزق. وما أعظمها من منزلة! وما أكرمها من ضيافة! {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. الشهادة ليست وسامًا يُمنَح لكل من يقتل بالرصاص، ولا تذكرة عبور إلى الجنة؛ هي مرتبةٌ لمن لبّى نداء الحق فدفع حياته ثمنًا له. إن أردنا أن نُكرِّم شهداءنا فلنبدأ بأن نُحيي قضيتهم، ونُحيي منهجهم، ونُحيي العدل الذي استُشهدوا لأجله؛ فذاك خيرٌ من مجرد إطلاق الألقاب. خامسًا: الشهداء أساتذة مدرسة الشهادة المعطاءة الشهداء هم في هذه المدرسة المعطاءة والعظيمة والمهمة والأخلاقية هم أساتذة، نتعلم منهم السمو الروحي والأخلاقي، نرى فيهم الواقع التطبيقي، عندما حملوا تلك الروحية، عندما حملوا تلك الأخلاق وتلك القيم، عندما جسَّدوها واقعاً وفعلاً وعملاً والتزاماً، كيف كانت النتيجة، كيف كانوا في صبرهم، في صمودهم، في تضحياتهم، في عطائهم، في أخلاقهم العالية جدًّا، كيف كانوا في مستوى فعلهم، صبرهم، أثرهم في الواقع، ترجموا ذلك في الواقع العملي فعلاً، وصل إلى مستوى التضحية، كيف لم يكونوا صغاراً يتأثرون بأبسط المؤثرات التافهة التي تؤثر على الكثير من الناس فيغير موقفه، أو يتأثر موقفه سلباً، أو يتراجع عن الميدان لأبسط وأتفه الأسباب. |لا| هم كانوا بسموهم العالي جدًّا، ثم برمزيتهم المهمة التي تجعل فيهم نعم القدوة ونعم الأسوة، الحديث عنهم، الحديث عن بطولاتهم، عن أخلاقهم، عن أفعالهم، عن تضحياتهم، عن صبرهم، عن سيرتهم، يترك أثراً وجدانياً عالياً؛ لأنهم جسَّدوا تلك الأخلاق العظيمة، تلك القيم الرفيعة والسامية، حملوا تلك الروحية العالية، وجسَّدوها في الواقع، ولهذا من المهم جدًّا التركيز على هذا الجانب في مثل هذه المناسبات، طبعاً هناك أحياناً توثيق عن بعض الشهداء، ولا يزال هذا العمل محدوداً، لا بدَّ إن شاء الله أن يكبر، وأن يتوسع، وأن يركز على الكثير من الشهداء العظماء الذين بسيرتهم تحيا الأمة، تنتعش الأمة، تستشعر العزة والمجد؛ لأن الشهداء هم لهذه الأمة تاج عزها، وعنوان مجدها، وحملة رايتها، فهذا مهمٌ جدًّا.