كثيراً ما تأخذ الألفاظ معانيها المغايرة وليس ذلك فحسب، بل إن الكثير من المعاني الثابتة في قاموس ذاكرة الفكر السليم كثيراً ما تأخذ لها ألفاظاً مغايرة لها تعبر عنها بكثيرٍ جداً من الإصرار على فرض التناقض القائم بين اللفظ والمعنى ولو باستخدام القوة المفرطة لتمرير ذلك على المتلقي.. وهذا ما نشهده ونلمسه ونعايشه ونعيشه في واقعنا العربي والدولي وواقعنا الوطني المعاش. لقد أبهرتنا التلفزة الفضائية العربية والأجنبية والعربية الأجنبية بما تنقله إلى المشاهدين من ذلك الكم الهائل من المتناقضات بغرض فرضها علينا وكأنها المعنى الحقيقي الصادق في تفسير مصطلحاته.. كالذي نسمعه ونراه ليل نهار على لسان الكثير من قادة ووزراء بعض الدول الغربية كأمريكا والاتحاد الأوروبي وتركيا وبعض الدول الشقيقة حول الأوضاع المتأزمة في بعض الدول العربية ومنها بلادنا.. وكأن ما يأتي على لسان هؤلاء هو الحقيقة وهو اللفظ والمعنى المتطابقان شكلاً ومضموناً وصدقاً تعبيرياً.. بينما الحقيقة الحقة يجافيها كل ما يرد من تلك المواقف الغثاء.. فعلى سبيل المثال لا الحصر: الضجيج الإعلامي الواسع النطاق الذي شنته ومازالت تشنه الكثير من الفضائيات العربية الموجهة منذ بداية تفعيل مخطط (الربيع العربي) في المنطقة وانتفاضة كل الأجندات الخارجية والداخلية الداعمة.. هذا الضجيج الذي وضع المشاهد العربي والمستمع والقارئ أمام قاموس لفظي جديد في معانيه الخالية إلاّ من المعاني المبتدعة التي جيء بها لسكبها سكباً فوق رؤوس العوام وباستخدام وسائل وطرق عديدة لا يهم تلك الجهات الجانب الأخلاقي والإنساني والصدق فيها مادامت تخدم أجندتها الداعمة ومبتغاها.. وليس أدل على ذلك من مصطلح (الربيع العربي) الذي أطلق على (الفوضى العارمة) التي عمّت بعض بلداننا العربية وأحالت حياتها إلى جحيم من الهدم والقتل وسفك الدماء وتدمير البنى التحتية الخدمية والتنموية وزرع الأحقاد والثأرات بين أوساط المجتمع.. فأي ربيع هذا الذي أصبح عطره روائح البارود والدماء، وأصبحت أزهاره يجافيها الاخضرار.. أليس ذلك من عناوين التناقض المريب الذي جاء ليسود لسان الضاد بكل عبثه المتعمد ويحقق من ورائه مهندسو الأزمة العربية أهدافهم المرجوة. كم تصفعنا بل وتصدمنا الدهشة ونحن نسمع على لسان كبار المسئولين الأمريكان والأوروبيين وهم يتحدثون ويذرفون دموع التماسيح على شعب سوريا العربي واليمن وليبيا ...إلخ ويذهبون إلى حبك مواقف إنسانية لهم كما يدعون مُعلنين إيمانهم بالعدل والحق والخير وحرصهم الأشد على مصلحة الشعب العربي، وكأننا من خلال تصاريحهم وأنشطتهم التي يجهدون أنفسهم فيها كأننا نخالهم قد أصبحوا بين ليلة وضحاها أشبه بحمائم السلام ورسل الحرية والحقوق الإنسانية في وقتٍ هم فيه من يدعمون وبكل وحشية قتل المواطن العربي في فلسطين ولبنان والعراق وليبيا ...إلخ بلا أي رحمة أو شعور بالإنسانية.. فمتى سمعنا أو لمسنا موقفاً أمريكياً أو أوروبياً لصالح الشعب الفلسطيني أو العراقي أو أكراد تركيا ...إلخ أليس هذا من صميم التناقض الأشد كارثة على أمتنا العربية وكل مقومات حياتنا الأصيلة؟ إن الأدهى والأمر، بل والمصيبة علينا جميعاً كعرب ومسلمين أن الكثير من المتطفلين على حياتنا خصوصاً في الدول العربية المتأزمة يعلمون علم اليقين أن الغرب لا يهتم بشعوبنا لا من قريب ولا من بعيد ولا تهمه مصلحتنا وأنه إذا سعى في هذا الاتجاه فإنما يسعى لغرض في نفس يعقوب.. وهذا العلم لدينا يصدقه قول الله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى..) فما الذي حدث إذن؟ إن النفوس الأمارة بالسوء استهوتها لذاذة الفتنة وأشبعت شهواتها الحاقدة دماء الأبرياء التي تسفك كل يوم كي تروي كما يوهمونهم عبثاً أزهار ربيع الشباب العربي الآتي على جماجم الأبرياء مستقبلاً يسوده الدمار والخراب والفوضى الخلاقة.. فكيف تكون خلاقة تلكم الفوضى وهي تؤدي إلى مصير مجهول ومظلم ومليء بالقتل المباح؟ أليس ذلك من عجائب اللغة الجديدة التي أطلت ألفاظها على شاشات القنوات المأجورة بألوان الدم والخراب لتفرض علينا معانيها التي تريد: (خلاقة يعني فوضوية مدمرة) ومتى أصبح للربيع لون غير لون الخضرة والحب ودفء الجمال؟ حقيقةً لقد استوطنتنا غربة اللغة التي تعيشها ألفاظها ومعانيها التي تبدعها استوديوهات الفضائيات العربية المتألقة في هذا المجال والصحافة التي تتلاقى معها على المسار المشترك.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نجح هذا المدّ الآتي مُصدَّراً في عُلب الدولار الأخضر ليصنع ربيعاً عربياً أحمر في كل أراضينا العربية: أزهاره الصواريخ التي تتغذى على لحومنا البشرية وسحاباته الممطرة راجمات الناتو العملاقة؟ وإذا كان الجواب نعم قد تحقق النجاح هنا أو هناك من بلادنا العربية: فهل يسير هذا النجاح بخطواته المنظمة والجادة على درب مخطط هذا الربيع العربي الغريب العجيب ليصل إلى وطننا اليمن الغالي إن لم يكن قد وصل فعلاً..؟ بكل أسف شديد لقد لاحت بوادر ذلك في فضاءات بلادنا ولكن في ثوب جديد بدأ ناعماً كالأنوثة المفرطة التي تتمتع بها جائزة نوبل للسلام وانتهى بتقارير جمال بن عمر التي على إثرها أصدر مجلس الأمن الدولي قراره بخصوص أزمتنا اليمنية الحالية. وليكن كل ما حدث ويحدث يسير وفق مخطط كبير ليس بوسعنا نحن المغلوبين على أمرنا الوقوف أمام سيوله الجارفة.. فهل «ربيعنا اليمني» الذي جاء هو الآخر من نفس الفصيلة التقليدية أم أن له ما يمتاز به عن غيره من ربيعيات المواطن العربية الأخرى كتونس ومصر وليبيا وسوريا ...إلخ للأمانة إن من يقف به المطاف والرؤية ليشاهد الصورة المأساوية التي عليها صنعاء اليوم شوارع ومساكن ومنشآت حكومية وتعليمية ومتاجر ومعابر يكتشف من أول وهلة الفارق بين «ربيعنا اليمني» الذي هو المعنى المتناقض للأزمة وهو مرادفها في آنٍ معاً.. ثم إن ما يزيدنا اقتناعاً بالتفرد والتميز الذي يطغى على ربيعنا اليمني هو عنوان «الشخصنة» الذي اختزل كل طموحات الشباب في التغيير وأفسد معناه وأساءَ حتى إلى ما يحلو لإخواننا في المعارضة تسميته ب(الثورة) أليس ذلك ما يبعث على التقزز؟ ثم إن انحصار هذه القيامة القائمة على شخص فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح حفظه الله وشفاه.. انحصارها على المربع الذي يعرفه الجميع في الفساد والإفساد على امتداد حكم النظام الحالي (الإصلاح أولاد الأحمر قائد الفرقة شيخ الإصلاح الزنداني) هو ما يجعلنا نصفق لبراءة الاختراع التي أعلن عنها الشيخ الزنداني في ساحة الاعتصام بجامعة صنعاء كما نصفق اليوم لتوكلنا اليمنية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام. إن الربيع اليمني المتفرد والمتميز والمختلف تماماً عن غيره وبكل المقاييس لأنه وبكل فخر واعتزاز استطاع جهابذته ومجاميعه ومليشياته وضباطه وسياسيوه ومفكروه ...إلخ استطاعوا جميعاً أن يصنعوا من أزمتنا الحالية وجهاً جديداً لربيع عربي جديد لا يوجد سوى في بلادنا اليمن ولهم نسجل براءة الاختراع.. لأن التغيير أو ثورة التغيير التي تجري فعالياتها اليوم على ساحة الواقع لم تكتفِ بإبراز التناقض اللغوي والمعنوي في إعلامها المضاد فحسب، بل ذهبت بعيداً لترجمة هذه المفارقات على أرض الواقع وجميعنا يلمس ويعاني من ذلك.. فالكهرباء لفظاً ومعنى صارت تعني الإصرار على الظلام والنفط والغاز الجاري في أنابيبه الممتدة صار تدميراً لهذا الضخ المفيد، والمدرسة والجامعة التي تغذي عقول النشء والشباب صارت مغلقة ومدمرة وبعضها مواقع عسكرية.. والحديقة المتنزه للناس صارت معتصماً و...و...إلخ أليس هذا هو «ربيعنا اليمني» المتميز؟ ياسادتي الكرام ألم يحن بعد موعد الرجوع إلى جادة الصواب لنعود ويعود الوطن معنا إلى الربيع الحقيقي المنشود المليء باخضرار الحقول والعقول وطيوب ورياحين المشاعر الطيبة ودفء السكينة والأمن والأمان والتطلع إلى استمرارية عجلة النمو والنهوض بالتنمية إلى المستقبل المنشود. ألم يحن بعد موعد الجلوس على طاولة الحوار والسلام والشعور بالمسئولية الحقيقية تجاه هذا الشعب الذي ازدادت بكم معاناته لدرجة لا تحتمل؟ لماذا الإصرار على التمادي في الدخول بالوطن والشعب في متاهات نحن في غنى عنها؟ ألستم جميعاً من تدعون حب الوطن ومصلحة الشعب لديكم فوق كل اعتبار؟ فلماذا إذن هذا التمادي في التصعيدات التي لا تثمر إلا الشر ولا تخدم سوى أعداء الوطن..؟ اللهم اهدنا جميعاً إلى طريق الرشاد.. إنك على كل شيء قدير.