ما من أمة من الأمم لها ذكريات ومواقف خالدة، تحتفل بها في كل عام، لتجدد أثرها في نقوس أفرادها، ولتربطهم بتاريخهم وماضيهم، حتى يحس هؤلاء أن لهم نسباً عريقاً في التاريخ، وحتى تحيي في نفوسهم جذوة تلك الفكرة المحتفل بها فقد أطلت علينا الهجرة النبوية الشريفة بظلالها الوارفة، وغلالها الوافرة، وهي تتألق بتباشير الفجر، وملامح الفرج، تنبعث من تاريخ يفيض بالعزة ويشمخ بالجلال. فقد أطلت هذه الهجرة المباركة بكل ما تحمل من عبر وعظات ودروس، فجعلتنا نقف ونتدبر فيما يرويه التاريخ لنا عن الدعوة المحمدية وصاحبها الذي أمره ربه عز وجل أن يبث كلمة لا إله إلا الله، وينشر معاني التوحيد، ويبطل مظاهر الإشراك، ويحارب عادات الكفر والإلحاد. وها نحن نستقبل اليوم ذكرى الهجرة النبوية المباركة على أصحابها أفضل الصلاة والسلام هذه الذكرى التي علمتنا كيف يكون حب الوطن، وكيف أن حب الوطن من الإيمان، وفريضةٌ، وأن الولاء له والانتماء إليه إيمانٌ من الإيمان، وواجبٌ من الواجبات وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم جسدت المعاني العظيمة للمواطنة الصالحة والولاء الوطني. فإذا كان امتحان المسلمين قبل الهجرة متمثلاً في الإيذاء والتعذيب وتحمل ألوان السخرية والاستهزاء والتكذيب فإن الهجرة كانت تمثل امتحاناً ليس أقل ضراوة، حيث سيترك المهاجر وطنه ومنزله وأمواله وأقرباءه، بل سيغامر بنفسه وربما فقدها في أثناء الطريق، فقد سعت قريش بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة أمام المهاجرين، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة، لكن شيئاً من ذلك كله لم يعق موكب الهجرة، فالمهاجرون كانوا على أتم استعداد للانخلاع من أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لنداء العقيدة، ونصرة لدين الله وتأسيساً وإقامة لمجتمع الإيمان. خرج المؤمنون مخلفين وراءهم في مكة أموالهم وأهليهم وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن عظم مفارقة الإنسان وطنه، وأثر ذلك في نفسه حينما هاجر وترك مكة حيث التفت إليها مخاطباً إياها بقوله «والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» هذه العبارات تترجم الخصوصية التي جبل عليها الإنسان فطرياً وهي حب وطنه، حيث إنه يتفاعل مع ذرات تراب وطنه، وذرات هوائه، لأنه المكان الذي استقبله حينما خرج من غياهب الأرحام وكذلك هو المكان الذي ينعم فيه بالطيبات والخيرات التي حباه الله بها، ولهذا كان من الوفاء الإنساني للوطن أن ينزله منزلة سامية في قلبه حباً وولاء. نعم إخواني الأعزاء الوطن له منزلة خاصةٌ في القلوب؛ فالإنسان يتعلق بأرضه التي نشأ عليها واستظل بسمائها، وارتوى من مائها وأكل من ثمارها، فترى الواحد منا يضحِّي بروحه ويجود بالنفس أقصى غاية الجود من أجل أن يبقى وطنه عزيزًا، لا ينتهك أرضَه مستغلٌّ، ولا ينهب ثرواتِه باغٍ، ولا يعتدي على حرماته معتدٍ أثيمٌ. فما أحوجنا ونحن نقرأ قصة الهجرة المباركة أن نفهم دلالاتها وعبرها، ونأخذ منها ما ينير سبيلنا، ويغذي أجيالنا المتعطشة للمعرفة والثقافة الصافية. فالمنهج الذي جمع الرسولَ الكريم صلى الله عليه وسلم وصاحبَه الصديق كان معرفةَ الحق وسلوك طريقه فأصبح «غار ثور» مدرسة تعلم الصبر وترشد إلى السعادة بدواء «لا تحزن»، وتُنبئ عن عز الدنيا ورفعة الدين بعقيدة «إن الله معنا» هو حافظنا وهو ناصرنا وعليه التكلان. وما أحوجنا أيضاً في ذكرى الهجرة النبوية المباركة أن نقتدي برسولنا الكريم، بأن نعلم أهمية الوحدة بين المسلمين والتي حض عليها الدين الإسلامي والعمل من أجل تكريس قيم التسامح والإخاء بين أبناء الوطن وضرورة لمّ الشمل وجمع الكلمة والترابط والتعاون ونبذ الغلو والتطرف وانتهاج مبدأ الوسطية والاعتدال في الأقوال والأفعال والأعمال، ونجمع كلمتنا لمواجهة المخاطر والتحديات، وأن نسعى نحو الخير، وأن نكون متعاونين في وجه من يريد الشر والفتنة بوطننا ونحمد المولى عز وجل أن وفق قادة وساسة اليمن حكومة ومعارضة من تجاوز الأزمة الراهنة وذلك بالتوقيع على المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية مما يتطلب من كافة أبناء الوطن العمل مع بداية هذا العام الهجري الجديد على رأب الصدع وتجاوز كافة الخلافات والبدء الفوري بتنفيذ بنود المبادرة ومحاسبة كل من يسعى إلى عرقلتها وجر الوطن إلى أتون الفوضى والدمار والتخريب والحرب الأهلية لا سمح الله. وأخيراً نسأل الله تعالى أن يسددنا وأن يوفقنا لما فيه خير هذا الوطن. [email protected]