أنا المواطن بلا وطن، الزعيم بلا قضية، الرئيس بلا شعب، مهرج بلا جمهور ولا أتباع ولا مؤيدين أو مناصرين..أنا المناضل الحائر بين عواصم الشرق والغرب، المتنقل بطائرات عملاقة، والمقيم في فنادق سبعة نجوم.. لا تسخروا مني، لا تستهزئوا بمواقفي الثابتة والمتقلبة، المحترمة والمنحطة، النقية والضحلة. أنا المقصي، والمخصي من مشروع (الوحدة)؛ كان عملاقاً فتقزم بانفصالي وحربي ودحري وهروبي.. يا أبنائي.. يا آبائي: ها أنذا عدت بعد عشرين سنة من الغياب الممتع، من أيقضني من سباتي الحر، من أفسد عني مزاجي، رحلاتي وأسفاري على مقاس أحلامي وتطلعاتي البرجوازية؟.. فلا قضية تنتظرني على الطاولة ولا مزيد من المقاومة ترغب بي.. تعبت من رثائي لحالي وبقائي في مقاعد الاحتياط خلف الرجال.. أريد أن أتقدم المسيرات.. من النمسا وسويسرا مروراً ببيروت إلى طهران، وحتى عَمان.. رايات الوحدة لا تعنيني.. أرجوكم أن تصدقوني في يمناي وفي يسراي وفي بطني وفي ظهري وتحت قدمي انفصال.. سأنفصل بكل العملات بأعلى وبأرخص الأثمان.. يا جمهوري في المعلا والتواهي والديس الشرقية والغربية، يا أبناء الشيخ عثمان والضالع والمكلا وزنجبار.. هل كنت رئيساًَ للعميان؟ صدقوني: هذه المرة لن أرضى بالريال، لن أتقاضى بأقل من الدولار.. سأبيع بلادي وقناعاتي للفندم للصالح وللطالح وللسلطان.. من قال بأني لا أجيد الرقص على المنصات تحت فاترينات التصالح والتسامح، وإيقاد المباخر والنواح في سرادق العزاء؟ كما أن المتاجرة بدماء الشباب من أبلغ فنوني وفهلواتي. أرجوكم أنا مدعي السياسة، وأنا الميت ثقافياً، مادياً، معنوياً وحتى سريرياً. يا إخوتي منذ عقدين أو يزيد قضيت حياتي هائماً على وجهي في ضفاف الأنهار وأرصفة المنتجعات.. ألم يكن تأريخي حافلاً بالنضالات السرية والعلانية؟.. أنا لم أنسكم أو أنسى قضيتكم، تحدثت عنها في كل المهرجانات الفرائحية والفضائحية.. امنحوني فرصة الخلاص من واقعي المزري، أريد أن أعود حاكماً، ولو للقاء تلفزيوني واحد، ولو لمؤتمر صحافي واحد، أو حتى مشهد في فيلم حزين مؤلم يروي حكاية “الرئيس الهارب من القصور إلى الفنادق”، فار من بهو النعمة إلى حضيض التسول والنقمة.. الأهم الآن أن أظل خبراً في هامش الهامش، أو في إعلانات الطبخ والترويج وحتى في مواد التطهير الصحية، يجب أن أحضر صباح ومساء حانات المناضلين اللاشرفاء؛ النهارية ومواخير الساسة الليلة، يجب ألا تشطبوني، أتوسل إليكم.. لماذا تكرهوني؟.. لماذا تمقتوني؟..وتلوحون بأصابعكم ضدي؟.. لم أكن متهماً بكل هذه (البطولات) الخزعبلات، كنت أقل مما تعرفون، وما لا تعرفون، أنا رعديد لا صنديد، لا تصدقوا بأني بارع في المفاوضات، والحوارات، أنا الرجل، الضئيل، الضال، الهائم على وجهي في كل الاتجاهات.. ولا أتقن حتى التحليق في سماء روحي..كم مرة جربت، ففشلت، كم مرة حاولت أن انتشلني من مستنقعي الموحل، فسقطت في شر وشرك أعمالي، ولا منقذ.. توقيعي على ذاك المشروع نزوة إنسان، وتراجعي عنه نزغة شيطان. أتوسلكم،أقبل أيديكم وأرجلكم، أنقذوني من شتاتي وتخبطي، وبلاهتي وغرقي في بركة سياستي الراكدة، هذا الدور الكبير لا يناسبني. صدقوني ليس على مقاسي، لا تناسبني أدوار الشجعان، ولا صمودهم وسطوعهم..ها أنا ألوح بيدي الطويلة، وشخصيتي المهزوزة، وضميري المنهك: يا أصدقائي في السياسة والنخاسة ومشواري القديم الجديد. لا تتخلوا عني، أرجوكم، أنا زميل خيباتكم. رفيق درب الأشواك،والرصاص، والدم. سيرتي مشرفة كما تعرفون، ومسيرتي مثقلة بالتدليس، وبالنفاق، تحولت من حاجب بالباب، إلى رئيس يجيد كل أساليب العنتريات ويتقن ممارسات الاعتقالات والتعذيب والاضطهاد، لم تكن شهية القتل ميزتي، بل تملكتني حتى آخر لحظة من نضالي المشكوك فيه، تخلصت من الرفاق، غير مرة شاركت في سحقهم.. دفنتهم واحداً واحداًَ.. وتربعت على تأريخهم العريق، وإرث الحزب الصابر. هل استحق كل هذا الجفاء؟.. أرجوكم.. كرموني، امسحوا عن عيني دموع التماسيح.. أشفقوا علي، وامنحوني الأوسمة والألقاب البرونزية والخشبية، البطولية والعبثية.. أنا الغبي المتظاهر بالذكاء، الماكر مدعي الفضيلة، والمخادع المتهم بالنبل، أنا لست مريضاً كما تتوقعون؛ هسيس السكر في لحمي بات حليفي الوحيد، ونشيش الملح داخل عظامي صار دائي ودوائي. أنا العليل بوجعي الداخلي، المصاب بنوبات حب الظهور، فلاش الكاميرات أسرني؛ لأن فرقعاتي لا تنتهي، ليس لي أول ولا آخر، يكفني أن أبقى هنا مقيماً في كل هذا النعيم وأسير قضيتي الجنوبية التي تمنحني الشهرة والثراء السريع، حتى ولو قفزت بها إلى الخلف. أنا العجوز المتأثر بشباب الربيع العربي، غير أني الصريع بموضة التحسر والانحسار على بقايا نضال وبقايا وطن قدمته ذات يوم إلي الدكتاتور، أسلمته إلي شيخ الجن والسجان. وأخيراً دعوني أعترف لكم أنه لا عذر لي.. لا دور لي، لا شخصية لي سوى هذه المواقف حيث تثير الغثيان. [email protected]