مع بداية تباشير الخروج الرشيق من عنق الزجاجة، وبالترافق مع التوافقية الحكيمة النابعة من مرئيات المبادرة الخليجية التي شكلت سياجاً محلياً وعربياً ودولياً منيعاً، وبالإنتقال السلمي المشهود للسلطة، وما سبقها من تشكيل حكومة وفاق وطني.. كل تلك المحطات الهامة في المُعطى السياسي شكّلت عتبة انطلاق لخروج ناجز من عنق الزجاجة الضيق للنظام السابق المشهود له بالاخفاقات واللعب على الأوراق التكتيكية القاتلة، والتخلّي الطوعي عن واجب التسيير المُتّسق مع مقدرات الشعب وإمكانياته . لست الآن بصدد كيل التهم لنظام سقط بالضربة القاضية منذ جمعة الكرامة، ومتواليات الانشقاقات الفاعلة في المؤسستين العسكرية والسياسية، ولكنني سأُحاول استشراف أبرز التحديات الماثلة على مستويين جوهريين: المستوى السياسي المترابط مع تنفيذ مرئيات المبادرة خلال المرحلة الانتقالية التي ستستمر لمدة عامين، والمستوى الاجتماعي الاقتصادي الذي يتطلّب معالجات عاجلة لسلسلة من الاستحقاقات الشاخصة . في المستوى الأول لا مفر من الإسراع في إعادة هيكلة المؤسستين العسكرية والأمنية على قاعدة الولاء للنظام السياسي التوافقي من جهة، وعلى أساس التخلّي الحُر عن الارتباطات العائلية والقبائلية المشينة، وفي تقديري أن هذه المهمة الجوهرية من شأنها أن تفتح الباب على مصراعيه لانسياب بقية المهام الكبيرة. يأتي في المرتبة الثانية مؤتمر الحوار الوطني الذي سيشمل كامل المكونات السياسية والقوى الميدانية التي اكتسبت شرعيتها من الشارع وأمانيه المشروعة، ويدخل في هذا الباب الحراك الجنوبي بطيوف مكوناته، وكذا الحوثيون المتقاطعون سلباً مع الدولة، بالإضافة إلى المكونات الشبابية التي تُمثل الرصيد الحي للمستقبل الواعد. ولضمان النجاح في مؤتمر الحوار الوطني لابد من وحدة الفرقاء تأسياً بتجربة اللقاء المشترك الذي يضم 5 مكونات سياسية نابعة من أساس التعددية المُشرعنة منذ وحدة مايو لعام 1990م، وبهذا المعنى يمكن للحراكيين توحيد رؤاهم ومشاركتهم في المؤتمر، كما على شباب الساحات المتواشجين مع القوى السياسية الفاعلة في المجتمع توحيد مشاركتهم في هذا المؤتمر الوطني الذي سيمثل محطة انعطافة تاريخية مؤكدة، وبالمقابل من صالح الحوثيين أن يلتحقوا بالعملية السياسية الشاملة بدلاً من البقاء خارج ملعب الاجماع الوطني. الاستحقاق الثالث والعاجل يتمثّل في كتابة دستور الدولة الجديد، والذي سيحدد ماهية هذه الدولة، وسيضع النقاط على الحروف حول معنى الدولة الجديدة بوصفها دولة اتحادية، ومعنى الهوية المقرونة بالمواطنة القانونية لا السلالية، ومعنى المشاركة المقرونة بتحرير الذمة المالية والإدارية من جهامة المركز، وبيروقراطيات الفساد والإفساد، وسيكون الدستور شاهد حال على المسافة الإجرائية بين السلطة بوصفها تعبيراً جمعياً عن إرادة الشعب، والمؤسسة بوصفها حامي حمى الشرعية الدستورية، وما يستتبعها من قوانين ناظمة لحياة المجتمع. ويتمثّل الاستحقاق الرابع والمُلح في اتخاذ تدابير عاجلة باتجاه الاصلاح، والترجمة الاستباقية لبروفات اللامركزية على الأرض، من خلال تمكين المحافظات المختلفة من ممارسة صلاحيات الحكم المحلي الناجز، وخاصة في الجوانب التنموية والاقتصادية والإدارية والمالية والتشريعية، وبما لا يتعارض مع مفهوم الدولتية بصيغتها الفدرالية القادمة. وعلى خط مُتّصل لا بد من مُناجزة المتاعب اليومية المقرونة بالعنفين النفسي والجسدي الواقع على المواطنين، فالفقر الأسود والغنى الفاجر لا يلتقيان عند تخوم السلم الاجتماعي البتة. إطلاق مبادرات التنمية وتحرير البشر من ربقة الدواوينية الإدارية المُخرْسنة بالفساد هو المدخل للتعامل الحميد مع الجماعات المتطرفة الرافضة للدولة القائمة والمحتملة شكلاً وتفصيلاً، فالاقتراب من مرابع عصيانهم السافر متاح جداً من خلال منظومة من الأدوات التي تجمع بين الحكمة وتأكيد واجب الدولة في الحفاظ على السلم الاجتماعي، ولكن دون الانجرار لتكرار بروفات المعالجات الأمنية التي ثبت فشلها في غير مكان من العالم، بل من خلال النموذج اليمني الخاص في التعامل مع محنة التطرف بمختلف أشكاله وألوانه. الحوار ممكن دوماً، والتشخيص الدقيق للحالتين الحوثية والقاعدية الجهادية هو المدخل السليم لحلحلة المُشكلتين في المدى المنظور . [email protected]