يُطلق مصطلح الجنون على كل فِعل يُخالف ما اعتاد عليه الناس في حياتهم و معتقداتهم , وعاداتهم وتقاليدهم . وعلى هذا الأساس فكل من حاول الدعوة إلى إحداث تغيير ما في جانب ما اتّهِم بالجنون , وكل من رفض موقفاً معيناً .. أو تقليداً سلبياً اتّهِم بالجنون ايضا ً . فالرسول ( محمد ) عليه الصلاة و السلام اتّهِم بالجنون لأنه دعا إلى إحداث تغيّر في المعتقدات و في العادات و التقاليد داخل المجتمع القُرَشي , فاتهمه كُفار قريش بالجنون . وهكذا يستمر مصطلح الجنون يُطلق على الداعين للتغيير في كل زمان ومكان , و يرتبط مُصطلح الجنون بدعوات التغيير أيّا ً كان هذا التغيير سواءً تغيير اجتماعي أو ثقافي أو سياسي . و أكثر ما يُطلق هذا المصطلح على الداعين للتغيير في النُظم السياسية وهُناك نوعان من الناس: النوع الأول: يُتهمون بالجنون لأنهم يرفضون التغيير في النظام السياسي. النوع الثاني: يُتهمون بالجنون لأنهم يُطالبون بإحداث ذلك التغيير . أما النوع الأول : فيوجد كثيرا ً في الدول المتخلفة لأن بعض الناس في هذه الشعوب يعتقدون أن أي تغيير في ما اعتاد الناس عليه هو نوع من الجنون فالناس بنظرهم اعتادوا على تمجيد الحاكم و«التسبيح بحمده و شكره» فهو فوق الأخطاء , بل وصل الحد في بعض الشعوب الى تقديس الحاكم و إسقاط بعض صفات الله عز و جل عليه . أما النوع الثاني : فهم الذين يؤمنون بضرورة التغيير و يُتهمون بالجنون لإيمانهم بذلك , فهم يعتقدون أن عدم التغيير يعني الوقوف ضد سنن الخالق , فقد خلق الله الناس أحرارا ً , يؤكد ذلك ماقاله الخليفة عُمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقولته الشهيرة : “ متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ً ؟ «ومقولة الخليفة ابي بكر الصديق رضي الله عنه الشهيرة ايضا ً : “لو رأيتم فيَّ اعوجاجا ً فقَوموني» . ويرتبط الفساد بأشكاله المختلفة بالنوع الأول لأن الفساد السياسي يتبعه بالضرورة فساد في الإقتصاد و الإدارة و الثقافة. ولهذا نجد الشعوب التي تُقدس حكامها و تمنحهم الأبدية في الحكم هم و أولادهم و أقاربهم , هي شعوب متخلفة و يعبث بها الفساد في كل اتجاه حتى لو كان لديها ثروات كبيرة , ونجد في هذه الشعوب أ ُناسا ً مُقاومين لأي تغيير اعتقاداً منهم أن التغيير لن يأتي بأحسن , و أن الخالق مع الحاكم فهو الذي ولَّاه الأمر , وأن الذين يرغبون في التغيير هم أصلا ً ضد مشيئة الخالق وبالتالي لن ينتصروا . وهذا الاعتقاد يفسر تلك المقاومة الكبيرة للتغيير و خاصة من الطبقة المظلومة من الحاكم , و يفسر خروج بعض الناس إلى الشوارع تحمل صور الحاكم وتُقبله , بل وتسقط الدموع إذا حصل له مكروه بل قد تصل الحالة ببعضهم إلى درجة الإغماء أو الموت إذا مات ذلك الحاكم . هذه المعتقدات الخاطئة لدى تلك الشعوب غذيت بها عقولهم بأسلوب مُتعمد من قِبل الحاكم و نظامه عن طريق القنوات الإعلامية التابعة للحاكم عن طريق من يُسمّون أنفسهم بالعلماء المُنتفعين من الحاكم و نظامه ومشايخ الفتوى الدينية السياسية . إضافة لذلك فإن هذا الاعتقاد لدى هذه الشعوب يُشكل أكبر عقبة ضد بناء دولة النظام و القانون , بل و يُكوِّن مستنقعاً تعيش فيه جراثيم خطيرة أهمها : «العصبية القبلية , و الحزبية , والطائفية , و الأمية , و الفقر , والجهل, والمرض» , ويُعتبر الخروج من هذا الوضع هو الانتقال بالناس الى النوع الثاني : الذي يدعو لعدم منح الحاكم أيّا ً كان القداسة و الأبدية في الحكم , و لابُد من تغييره و بفترات زمنية محددة , بل ولابُد من رقابته ومحاسبته إن أخطأ .. وهذا نموذج موجود أمام أعيننا في الكثير من الدول المتقدمة , بل كان مطبقا ً عندنا في العصور الأولى وخاصة في عهد الخلفاء الراشدين . فالرسول عليه الصلاة والسلام سكت عن اسم من يخلفه و ترك ذلك للناس ليختاروا من يشاءون , وحتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في فراش المرض قبل موته لم يُسم أحدا ً بعينه ليكون خليفة ً له بل أوصى بأن يجتمع ستة ً من الصحابة و سماهم بأسمائهم و يختارون من بينهم خليفة للمسلمين وكان من بينهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما و أوصى بأن لايُرشحوا ابنه للخلافة بل يكون كفّة ترجيح إذا اختلف الستة المختارون . وخلاصة ما سبق: إن الجنون يمكن أن يتصف به المقاومون للتغيير وحدهم و لاسيما الذين يدعون لتقديس الحاكم ومنحه التمديد و التوريث أما الذين يدعون الى تطبيق سنة الله في الخلق , الذي خلق الناس جميعا ً أحرارا ً و منحهم حرية الاختيار في كل شيء من حياتهم حتى العبادة , حيث قال تعالى : «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر » , وقال تعالى :«إنّا هديناه السبيلا إمّا شاكرا ً و إمّا كفورا ً » . إذا ً فالذين يُعارضون تغيير النظام السياسي في بلادنا اليوم هم من يجب أن يتصفوا بالجنون لا العكس كما يردده إعلام بقايا النظام . و على بقايا المستفيدين و المُنتفعين من بقايا النظام السابق أن يُدركوا أن النظام السابق ولّى إلى غير رجعة , و مهما حاولوا عرقلة مسيرة التغيير فالمسألة مسألة وقت ليس إلّا , فالوقوف ضد التغيير هو وقوف ضد إرادة الشعب التي هي من إرادة الله. * جامعة تعز