إذا كانت ساحات الثورة وساحات ال(فيس بوك) قد نجحت فعلاً في تفجير عهد جديد من صراع الأفكار المحفوف بنزعات الكراهية والطائفية, فلا مرحبًا بها من ثورة.. نريد اليوم من الشباب أن يوفّروا على الوطن تبعات انتقالهم البطيء إلى درجة النضج, فهذه الجماهير يكفيها احتراقًا بالصراعات النخبوية التي لم ولن تؤكلها لقمة عيش أو تعيد لها حقًا مسلوبًا.. على الشباب أن يحرقوا المراحل إلى قبول الآخر, وترك الديمقراطية المقبلة هي التي تسيّر المستقبل, إذ لا بد من احترام إرادة الجماهير, وعليه فلا فائدة من الحقد الدفين والكراهية.. اتركوا المثالية وعيشوا الواقع, وأمّا إذا كنتم مصرين على هذا الخطاب الإلغائي فيما بينكم فإنكم في اعتقادي بلاء على هذا الوطن لأنكم ستقفون حاجزًا بينه وبين النهوض, يعني بالعامية “قطاعة رزق”. إنني أتساءل: ماذا لو كانت تلك الأحزاب المؤتلفة قد أخذت وجودها الكامل والمستقر في الستينيات والسبعينيات وكانت الظروف مهيأة, فهل كانت تستطيع أن تُكَوِّن ما صنعته في أواخر التسعينيات من توافق أطلق عليه “اللقاء المشترك”؟.. هل كان المرحوم جار الله عمر يستطيع في ما قبل التسعينيات أن يذيب كل التباينات بين قيادات يومها كانت شابةً, مشحونة بالأفكار, وكانت لاتزال في مراحلها الأولى مشغولةً بتجذير كياناتها في المجتمع, والتنافس المحموم والجنوني لإلغاء الآخر من صفحة الوجود؟ القضية إذن قضية نزق في عقلية المثقف المستنير, وفوضوية في تفكيره تأخذ امتدادها الزمني حتى الوصول إلى النضج والرسوخ, وهي في الحقيقة صحوة لا بد أن تكون متأخرة, فحين كان القرن العشرون يتجهز للرحيل كانت تلك الأحزاب المتناقضة قد وصلت إلى ذروة التجربة, إذ إنها تعمقّت في قراءة الواقع, وعرفت نوع المجتمع الذي تعيش فيه, وأدركت الفرق بين النظريات والوقائع.. ونظرت القيادات ورجال التأسيس إلى أنفسهم في المرآة فرأت التجاعيد تغزو وجوهها وهي لاتزال متمترسة خلف فكرها الإلغائي وقوالبها الأيديولوجية التي ترفض إعادة النظر فيها مع أنها لم تحقق شيئًا, فعند ذلك آمنت هذه القيادات بأنها تسير في الاتجاه الخطأ وأنها أصغر من أن توقف عجلة الفساد السياسي, وأن تنهض بالوطن وتحقق أحلام الجماهير, وفعلاً وجدنا هذه الأحزاب تجرها أقدامها إلى حيث طاولة الحوار لتعترف ببعضها, وتنجز حدث “الالتحام والشراكة”, ولا شك أننا سنعرف الفرق إذا ما قارنا مثلاً بين خطاب ياسين سعيد نعمان مع النقيض في الثمانينيات وخطابه معه في التسعينيات, ومثله الآنسي والعتواني وغيرهم كثير ممن نجدهم اليوم يديرون العملية السياسية بأفق واسع, وعقليات راسخة, ويتعاملون بخطاب حصيف وناضج وخالٍ من شوائب الانفعال. أيها الشباب لا تستنسخوا تجربة جيل ما بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر, والأخطاء التي وقعوا فيها, فالبعض من ثوار الأمس ظلوا مأسورين بثقافة الماضي وإن خلعوا المظاهر الدالة عليه, ولذلك ظلت نار الأنانية والعصبية مشتعلة تحت الرماد, والبعض الآخر ظلوا مثاليين وأرادوا من هذه الأرض أن تكون عجينة في أيديهم يريدون تشكيلها في قوالب النظريات التي افتتنوا بها, فعشنا ضائعين حتى اليوم, ولتأخذوا التجربة من كبير المجربين هو محمد محمود الزبيري جاء في الأخير ليقول في (ثورة الشعر): “كانت تسود عقلية الطليعة المفكرة من أحرار اليمن مثالية مطلقة في كل شيء, لاسيما فيما يتعلق بالنظرة إلى البلاد العربية, ذلك لأن صلة هؤلاء المفكرين بالخارج كانت نظرية بحتة, رغم أن فريقًا منهم عرفوا الخارج في بعثات دراسية, ونعني بالصلة النظرية أنهم كانوا يدرسون الواقع من خلال المبادئ والمثل التي يطلعون عليها في الصحف والكتب ويؤمنون بها, وكانت النتيجة أنهم ظلوا ينظرون إلى كل شيء خارج اليمن على أنه مثل أعلى”. هذا ما قاله أبو الأحرار, لكن الله اختاره للقائه قبل أن يأتي زمن انكسار الأحلام الثورية ليرى حجم الهوة بين الطموح والواقع, ومع ذلك فنحن جيل اليوم لن نعدم من سيفصح لنا عن المسكوت عنه من تاريخنا المعاصر ورحلة هذه الهوة في الاتساع, فلكي تعرفوا الحقيقة اقرأوا بعمق ما كتبه رفيقه في النضال عبدالله عبدالوهاب نعمان “الفضول” من شعر سياسي في السبعينيات, وعندها ستكتشفون أن أخطاء المتنورين قبل كل شيء هي التي أوصلتنا إلى هذا الحاضر التعيس, وستدركون قيمة أن يكون هناك اليوم “وفاق وطني” يخلص له الجميع, ويرتضون به, رحمةً بهذا الشعب الذي لم يعرف طعم الاستقرار منذ وجد على هذه الأرض, وما برحت اليوم بعض نُخبه تستغل فطريته وأميته لفرد العضلات, وسحبنا بقوة إلى دائرة الصراع الإقليمي, ونحن شعب فقير كل همه أن يحسن حكامه استغلال ثرواته لصناعة النهوض والحفاظ على كرامة الإنسان..مشكلة المثقف اليمني أنه دخل إلى الثقافة من باب السياسة, فقتل مشروعه الثقافي في المهد, والذين نراهم اليوم ليسوا إلا سياسيين يتصارعون تحت غطاء الثقافة, لكن ليس لهؤلاء أن يفجروا اليوم بقناعاتهم صراعًا على اللاشيء, وطين “الساحات” في أقدامهم لم يجف بعد!!. إن بعضًا مما يكتب اليوم على صفحات “الفيسبوك” أو في الصحف والمواقع الإلكترونية يكشف عن نفوس لن يكون المستقبل في ظل وجودها بخير, إنها مراهَقَة صاخبة لعقول لا تقرأ, أو تقرأ إلا في اتجاه واحد, أو أنها لا تقرأ إلا الجرائد, عقول في مجتمعها المتخلف وجدت من “الفيسبوك” ضالتها لقمع الآخر وتبادل الاتهامات والتراشق بالسباب والتخوين والعمالة. وعلى الرغم من ذلك فإننا لو سألنا من يشتهون للاختلاف وإفساد الود عن مدى وطنيتهم, فسنجد لا شك أن جميعهم مدفوعون بحرارة وطنية للمنافحة من أجل مستقبل مشرق في وطن تتحقق فيه العدالة, وتصان فيه الحقوق, ويعيش الكل بوئام, لكن هل سيتحقق لهم ذلك إذا كان الكل مشغولاً منذ الآن بكيفية تشويه صورة الآخر, بل وغير مقتنع مبدئيًا بما ستسفر عنه الديمقراطية إذا ما قامت انتخابات تنافسية لتقرر من سيحكم. وعمومًا فإن بقاء المثقف على ديدنه يحركه انفعاله ومزاجيته لا موضوعيته ونظرته للبعيد, يعني أننا سنظل عاجزين عن إحراز أي تقدم, ولو صنعنا ألف ثورة, وخرجنا في مليون مسيرة؛ لأن المثقف هو ملف الإقلاع, وفشل الأنظمة يكون دائما فشل الطلائع وحدها أما الشعوب فإنها لا تفشل, ولكن هناك من يفشِّلها. وفيما يتعلق بمشاركة الشباب في الحوار المقبل فإنني أخاف أن تكشف الطاولات المستديرة كثيرًا من عيوب البعض الذين يعانون هذه الأيام جائحة التصحر الثقافي والأفكار التي شاخت في أجسادٍ شابة.