ونحن نعيش أفراح الشعب اليمني بالعيد الذهبي لثورة 26سبتمبر المجيدة والذكرى 49 لثورة 14 أكتوبر الظافرة، ومشاركة بتلك الأفراح السعيدة أقام فرع نقابة الصحافيين والمجلس المحلي بتعز ندوة فكرية في مؤسسة السعيد يوم 25 سبتمبر تحت عنوان (دور الإعلام في الدفاع عن الثورة) شاركت فيها مع الزملاء الأساتذة عبده سلام سعيد الشرجبي وعبد الله أحمد أمير ومنصور زاهر، كل منا قدم ورقة حول جانب من جوانب الندوة، ولأني لم أكتب ورقة حينها لضيق الوقت فقد تحدثت ارتجالياً عن واقع الإعلام ووسائله قبل الثورة وواقعه بعدها.. حيث تطرقت بحديثي إلى المعاناة التي لاقاها الإعلاميون والفنيون بعد الثورة وهم يعملون دفاعاً عن الثورة بتلك الوسائل البدائية والمتخلفة التي ورثها النظام الجمهوري من النظام الإمامي المباد، تلك الوسائل والإمكانات المتردية التي لم تكن تصدر منها صحيفتا الثورة والجمهورية إلا بصعوبة بالغة ومشقة كبيرة، فبتلك الوسائل والإمكانات الطباعية الرديئة وبالكوادر المحدودة من فنيين وصحافيين غير مؤهلين أكاديمياً استمرت تلك الصحف وبكوادرها تدافع وتنافح عن الثورة وتتابع كل الأحداث المرتبطة بالصراع بين الحق الذي يمثله النظام الجمهوري ورجاله والباطل الذي يمثله بقايا النظام الإمامي المباد وفلوله وأنصاره في الداخل والخارج، وضد ما تتعرض الثورة من مؤامرات ودسائس لوأدها حتى كتب لها النصر المؤزر في حصار السبعين يوماً؛ بفضل استماتة الرجال الأشاوش في القوات المسلحة والمقاومة الشعبية والجيش الوطني ورجال القبائل الوطنيين، فكان التلاحم بين الإعلاميين والمثقفين والمقاتلين البواسل عاملاً هاماً ومؤثراً وفاصلاً للنصر على كل أعداء الثورة في الداخل والخارج. وانتصرت الثورة وانتصر النظام الجمهوري الذي اختاره الشعب، واندحر آل حميد الدين ومرتزقتهم وفلولهم إلى غير رجعة، وقبل أن أبدأ حديثي حينها في تلك الندوة إردت أن أطرح تساؤلاً ليس للحاضرين في الندوة فحسب وإنما هو تساؤل عام يطرح أحياناً في بعض المقايل، ومن بعض من في قلوبهم مرض من بقايا النظام الإمامي، أو من يحنون إليه ومن يناصرونهم، وأحياناً من بعض المنتمين لبعض الأحزاب اليسارية مناكفة ومكايدة لنظام الرئيس السابق صالح، وكأنه هو من جاء بثورتي سبتمبر وأكتوبر وصنعهما، والهدف من ذلك الطرح إنما يقصد منه تضليل الأجيال الذين جاءوا عقب الثورة، ولم يعايشوا العهد الإمامي البغيض أو عهد الاحتلال البريطاني في الشطر الجنوبي سابقاً، ولم يعانوا ما عاناه الشعب حينذاك من ظلم وعزلة خانقة وتجبر وتخلف لا يطاق. وذلك التساؤل يطرح ( لماذا الثورة؟ وهل كانت ضرورية؟) وذلك على اعتقاد أو حسن ظن وتبرير أن التغيير كان سيأتي ذاتياً من الأئمة ونظامهم الكهنوتي المتجبر، وأن ذلك التغيير سيفرضه الواقع الأقليمي أو الدولي المحيط باليمن، وسيفرضه عامل التطور الذي يجتاح العالم من حولنا، ولكن من عرف سلوكيات وعقليات وسياسات الأئمة تجاه الشعب لا يمكن أن يتفاءل بما يطرح ولن يتوقع أي تغيير سيحدث. فهم كانوا ينظرون لأنفسهم أنهم ظل الله في أرضه، وأنهم سادة يبلغون حد القداسة يحكمون رعاعاً وعبيداً سخرة يسيرونهم كيفما شاءوا ويحكمونهم كما يريدون، تارة بالحديد والنار والسيف الذي يقطعون به رأس كل مخالف، وتارة بضرب قبيلة بأخرى أو منطقة بأخرى، وتارة بالدجل والشعوذة والخرافات، انطلاقاً من جهل الشعب وخوفه وتخلفه، ثم بفرض العزلة الشديدة والفرقة بين المواطنين ومناطق البلاد، وبالجوع والمرض تحت شعار (جوع كلبك يتبعك) وحتى يتحقق لهم السيطرة المطلقة والهيمنة الكاملة على البلاد ومقاديرها ويضمنون خضوع واستكانة الشعب لهم لم تكن هناك طرق يتواصل بها المواطنون سوى طرق بدائية شقت بأيدي المواطنين وجهودهم، لكنها لم تكن صالحة لمرور المركبات الحديثة عليها إلا بمشقة بالغة. حيث كانت الرحلة من صنعاء مثلاً إلى تعز ب (البوابير ) أو السيارات المتوسطة الحجم تستغرق أياماً عديدة، وكذلك الحال بين مدينة وأخرى، بل حتى التواصل بين (عزلة) وأخرى كان فيه صعوبة جمة؛ حيث كان يتم ذلك إما مشياً على الأقدام أو ركوباً على الحمير أو الجمال، أما البغال والخيول فلم يكن يملكها إلا أفراد الأسرة الحاكمة والأسر الدائرة في فلكها، ولم يكن يوجد حينها سوى طريق واحد معبد ومسفلت يربط الحديدةبصنعاء، شقته الصين الشعبية هدية منها قبل سنوات قليلة على قيام ثورة 26سبتمبر الخالدة ، أو طريق آخر قصير لا يتعدى الخمسة كيلو من الأمتار يربط المطار القديم بتعز بدار الإمام بصالة هدية من الفرنسيين. وهكذا كان الشعب يعيش عزلة خانقة عن بعضه البعض، لا يعرف كل مواطن فيه عن بلاده شيئاً، ولا عن العالم الخارجي إلا النزر اليسير من خلال ما يسمعه من أجهزة الراديو التي لم يسمح بها الأئمة إلا للضرورة، بعد أن أقاموا إذاعة صنعاء التي كانت تعمل لمدة ساعتين فقط في اليوم، ويقتصر بثها على أخبار الإمام وحاشيته أو البلاغات التي توجه للمواطنين، أما إذا تحدثنا عن الجانب الصحي فحدّث ولا حرج.. فلم يكن حينها لا أطباء إلا للأسرة الحاكمة ومن يرضون عنهم، والمستشفيات لا يوجد منها سوى ثلاثة فقط، وتسمى مستشفيات مجازاً؛ واحد بني في تعز وآخران في صنعاءوالحديدة، وكل العاملين فيها من أطباء وممرضين أجانب، وكان لا يسمح للمواطنين أن يدخلوها لتلقي العلاج إلا بأمر الإمام شخصياً، ولم يكن أمام المواطنين إذا ألم بأحدهم مرض أو ألم سوى (المياسم) أي الكي بالنار أو الأعشاب أو الطرق البدائية في التطبيب، ولذلك كانت تنتشر الأوبئة والأمراض بين الناس وتفتك بهم، وذلك بسبب الجهل والشعوذة والخرافات، بينما الأئمة وأسرهم ومحاسيبهم يلقون كل الرعاية من أطبائهم أو يسافرون إلى الخارج لتلقي العلاج والشعب له الله. أما في جانب التعليم فهي المأساة العظمى حينها حيث لم يكن هناك سوى مدارس تعد على أصابع اليد، أما ما عدا ذلك فلم يكن يوجد سوى كتاتيب (معلامات) يتعلم بها من يرغب وهم القلة، ولا يدرس فيها سوى القراءة والكتابة وحفظ القرآن وفروض الوضوء وأركان الصلاة، أما العلوم الأخرى فقد كانت محرمة ومحصورة في المدارس الحكومية المحدودة العدد، حيث كان يدرس فيها مبادئ تلك العلوم الحديثة ليس إلا، ولذلك ظل الشعب بجهالة وتخلف مغدق، لا علم ولا صحة، ولا أي تواصل ولا أي شيء يوحي بالحياة الحضارية لهذا الشعب الحضاري التليد.. فلم يكن هناك إلا كما قال شاعر اليمن الشهيد محمد محمود الزبيري (خوف ومجاعة وإمام) ولا أمل أن يتغير الأئمة ونظامهم إلى الأفضل، رغم أنهم يذهبون إلى الخارج ويرون التغيير الذي يعيشه العالم، حتى وصل إلى غزو الفضاء الخارجي، ويفكر بغزو الكواكب الأخرى في الكون، لكنهم يعودون أشد رعباً وتمسكاً على نظامهم يتملكهم الرعب الشديد من ثورة الشعب إذا تعلم أو وعى، فيزدادون تجبراً وعتواً ونفوراً.. ولهذا رأى القلة القليلة الطليعة المتنورة من ضباط وصف ضباط وأفراد الجيش ومن المدنيين ورجال الفكر والثقافة والتجار أن عليهم واجب الثورة ليقتلعوا ذلك الحكم البغيض المتخلف، ويخرجون الشعب من وهدة التخلف ومهاوي العزلة والمرض والجهل ليلحق بشعوب العالم، وليبدأ من الصفر بل من تحت الصفر، ليبني دولة ونظاماً جمهورياً يخرجه من الواقع الذي كان فيه، ويصارع ويحارب ويجاهد بعزيمة وقوة وصلابة ضد أولئك الأئمة وأعوانهم ومرتزقتهم، ومن يساندهم في الداخل والخارج من قوى رجعية واستعمارية، الذين بذلوا الغالي والرخيص من مال وسلاح وكل الدعم السياسي والمعنوي والعسكري لوأد الثورة.. ولكن الشعب برجاله ومقاتليه ومناضليه وشبابه وشيوخه ونسائه أيضاً هزم الأعداء ولقنهم درساً لن ينسوه، بفضل تكاتف وتلاحم كل القوى الوطنية من أفراد القوات المسلحة وضباطها وأفراد وقيادات المقاومة الشعبية ورجال القبائل الوطنين الشرفاء، وقبل كل ذلك كان الفضل بالنصر لذلك الدعم القومي المطلق من قبل الزعيم الخالد جمال عبدالناصر واستبسال قواته ورجاله الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم فداء للثورة اليمنية وللنضال الوطني القومي ولمبادئ ذلك الزعيم الخالد الذي لن يأتي الزمان بمثله.. فقهر واندحر أعداء الحياة والكرامة والسمو ليعيش الشعب اليمني حراً حتى قيام الساعة، واستمرت ثورتا سبتمبر وأكتوبر صامدتين رغم كل العدى وطلاب الفرقة والتمزق، وكلمة أخيرة أقولها: إن لا مقارنة أبداً بين عهد الأئمة والنظام الجمهوري، مهما بلغ حجم الفساد، ومهما كانت الأخطاء والسلبيات الحاصلة حالياً، فالمقارنة ستكون ظالمة جداً، فما فعله الأئمة ببلادنا وبنا كمواطنين شيء فوق الوصف والخيال وفوق كل جرائم الدنيا كلها، فهم أحرمونا من كل مقومات الحياة، فكان لابد من ثورة تقتلعهم من جذورهم وتطرد الاحتلال البريطاني من الشطر الجنوبي سابقاً، الذي كان الداعم والممول الرئيسي للنظام الإمامي، سواء قبل الثورة أم بعدها..