مات صالح الدحان، ويحق للأيام الجميلة أن ترثي نفسها. مات الداهية الصاخب أكثر غربة من جذع شجرة في هباء شاسع. وصالح الدحان حكاية الرواد في اليمن، حكاية أوائل العصريين، حكاية التنوير والحرية والأمل والمواجع والفقدانات والخذلانات التي لا تنتهي. لقد أحببت الصحافة بسبب صالح الدحان؛ إذ كنا صغاراً وكان اسم ابن قريتنا يلعلع على ألسنة الآباء، ثم حين قرأت أول مقالتين له وأنا في الإعدادية كانت إحداها عن جدي الشهيد القاضي شاهر داؤود والثانية عن مستقبل الحركة التنويرية في اليمن. وعموماً عاش عمنا صالح الدحان حياة مفعمة بالأحلام والتعب، زاخرة تماماً بالذاكرة والظرافة والنبل كذلك. فيما مرت رياح تغيير عاتية على اليمن خلال نصف قرن كان صالح الدحان في خضمها بشكل كبير صحافياً وأديباً ومؤرخاً ومثقفاً من طراز مستقبلي. أتذكر مرة حين ذهبت إليه العام 2002م لأجلب مقالته لصحيفة الأسبوع التي كنت أعمل فيها، وكان يكتب بها عموداً ممتعاً بنكهته الأسلوبية الخاصة المعروفة، غير أن حديثه الشخصي ذا الشجون حينها أخذني إلى نصف قرن مضى بأفراحه وأتراحه كما بمرارته الطاغية، متحدثاً عن أزمة الوعي اليمني وتناقضات مطارحات عقل الساسة والمثقفين هنا، من المعلوم طبعاً أن صالح الدحان عشق صنعاء حد الثمالة، متمعناً في جنونها أكثر من اللازم، ولقد ظل ينجو من مكائد الساسة بتلقائيته المعهودة دائماً حتى إنه من قلة مثقفين حازوا محبة الأعداء قبل الأصدقاء. ثم بالرجوع إلى التاريخ الزاخر له ندرك روح عدن التي شكلته جيداً، وهناك طبعاً أصدر نهاية خمسينيات القرن الماضي مجموعته القصصية الصادمة بعنوانها المتجاوز «أنت شيوعي». أما بالنظر إلى أرشيف الأعداد الأولى من مجلة «اليمن الجديد» التي كان يديرها نهاية السبعينيات، إضافة إلى أعداد من صحيفة «البورزان» التي أصدرها مطلع التسعينيات، فلنا أن نرى روح الجدل الفائقة التي تميز بها، وفي هذا السياق لا ننسى سخريته اللاذعة في النقد للأصنام، إضافة إلى احترامه للجيل الجديد من الكتاب والأدباء الشباب، حيث أفسح لهم مجالاً لائقاً للنشر والظهور. مات صالح الدحان مات الكائن الرقيق وحيداً ومنسياً مات الذي كان متعطشاً بجمال لشهوة الحكي بعد أن أجبرته الأيام المتوحشة على الصمت والاكتفاء بالانتباه الاحتجاجي فقط لصدمة الزمن الملعون. مات ديك الجن اليماني الذي كان شغوفاً بالحياة حائراً وضجراً ومعرعراً أيضاً. رابط المقال على الفيس بوك