الكلمة نضال الذاكرة ضد النسيان. وفي البدء كان الكلمة, وفي المنتهى. ومن يعشق الكلمة ويتولّه لاتغريه كنوز الدنيا, ولا تغنيه إن فرت من قبضته. صالح الدحان واحد من فرسان الكلمة, إذ تتأبى اللغة ولاتطاوعني حتى أذهب إلى أنه فارسها الأول في اليمن الملقى في صحراء الجدب، ذلك أنني قد أغضب آخرين بينهم نبي الشعر هنا, في هذا الوطن, صاحب “ الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل”. أتكون اليمن حقاً جدباء مقفرة؟ و.. أتكون صنعاء مدينة الشر؟ كنت سأبدأ بهذا السؤال لولا أنها استهلالة لاتليق بذكرى الدحان ولاتجوز في مقامه. باغتني السؤال في جنازته، إذ تملكني أسى عميق وحزن فادح للغياب, ومن نكران يقض المضاجع ويدمي القلب. صنعاء مدينة الشر، حيث السلاح غابات جرداء, ولعلعة الرصاص موسيقى المولعين بالقتل, يلعقون الدماء بشهية أعف منها النسور تحوم حول الجيف والكلاب تنهش اللحم والعظم. غير أني أتخفف من قسوة القول وأتلطف مع المدنية التي صرفت فيها أكثر من نصف عمري, منتظراً مابقي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وإذن سأتخفف وأقول إن صنعاء مدينة لاتعرف الوفاء, وليس للعرفان فيها إلا ظل شاحب. ففي جنازة الدحان أرهقت الأبصار حتى زاغت كي ترى واحداً من قادة العمل السياسي. أولئك الذين يرغون في المجالس والمنتديات وقنوات التلفزة، تغنياً في حب اليمن لم يكونوا هناك في وداع رجل أحرق أعصابه بجمر الحرية وأعطى اليمن عصارة فكره ونبض القلب. حتى أرباب الكلمة وأهل المهنة قليل منهم جاء وأكثرهم هناك يتقلبون في الأسِرّة أو يتصيدون الفرص على أبواب أولياء النعم. كان هنا الباذل دائماً عبدالباري طاهر وسعيد الجناحي ونصر طه مصطفى وعبدالرحمن بجاش وعلي ناجي الرعوي وأحمد الشرعبي وعلي الصراري وعلي المقري ومحمد الغباري وحسن اللوزي وخالد الرويشان وجمال حسن ومصطفى راجح, ووحده المبادر والحاضر مروان دماج من قيادة نقابة الصحفيين, ثم الأوفى والأخلص لطفي نعمان. صنعاء مدينة قليلة الوفاء, زهيدة في العرفان مقترة, ولو لم يكن شيخ الصحفيين, لو كان شيخاً لقبيلة من أصحاب المزامير وقطاع الطرق لامتلأ المكان بزعماء السياسة وأهل الأدب. إنما.. ماذا ينفع صالح الدحان وماالذي يخسره؟ جاء من جاء وغاب من غاب. ينفع الدحان ويبقى منه إرثه الغني وسيرته العطرة. سنة 1955م نشر صالح الدحان في عدن مجموعته القصصية “أنت شوعي”. كانت تلك بشارته آيته الأولى في سفر جُعل لعشاق الحرف ملاذاً وحكمة. وصالح الصحفي الذي لايضاهى في اليمن علم نفسه وأرسى مدرسة لمن يريد أن يتعلم ويتفنن, وأن يجيد ويتقن. فمع بداية مشواره لم تكن هناك مدرسة صحفية واضحة المعالم والفرادة, أكان هذا في عدن أو سواها من المدن اليمنية. بل كانت الصحافة بازغة في عدن دون غيرها، وهي صحافة بالمجاز لاتعد منشورات مضمونها المناكفة، والفتى موهوب رفيع الذائقة، يتبدى هذا من خطه الأنيق ولغته البديعة. ولعله أتقن المهنة من متابعته للصحف والمجلات المصرية واللبنانية والانجليزية التي كانت تدخل إلى عدن أيام الاستعمار البريطاني. ولم يكن قارئاً كسولاً, بل فاحص مدقق يتأمل في الإخراج الصحفي ويميز في العناوين والخطوط وفي اختيار الصور المناسبة ومواقعها من الصفحات وتناسب الكتل بين الصور وبينها وبين العناوين وكذلك الخطوط والإطارات وطريقة توزيع المواد بين الخبر المقالة والعمود والتحقيق الصحفي وغير ذلك من مقتضيات الإخراج الصحفي اللائق. أظنه كذلك كان يقرأ الخبر والتحقيق والاستطلاع بعين رائية حريصة على التدرب والتعلم, ولعله أضاف إلى هذا دراسة مراجع في الإخراج والكتابة حتى جعل من نفسه صحفياً حاذقاً شديد البراعة. ومن واقع المعايشة والعمل المشترك بدا لي أقرب إلى مدرسة “روز اليوسف” ولو أن أحداً أراد أن يحصر الصحفيين الذين تنطبق عليهم الكلمة في اليمن فهم قليلون جداً بينهم المرحوم محمد الزرقة وأحمد الحبيشي وآخرون محدودون ومعدودون, لكن صالح الدحان يبرزهم جميعاً ويتفوق، والكثير الباقي يصح القول في بعضهم، ربما أنني واحد منهم، إنهم كتّاب وليسوا صحفيين دون الحديث عمن هم في منزلة بين المنزلتين أو أولئك الذين لاعلاقة لهم في هذه أو تلك. قد أسوق مثالاً دالاً على حساسية صالح الدحان المفرطة في الفن الصحفي. فبعد أن أصدرنا “الأسبوع” جاءتني منه رسالة تقول مامضمونه أنه وجد الأسبوع صحيفة متميزة وممتازة شكلاً ومضموناً. لكن يافرحة ماتمت.. هكذا استدرك، وأضاف.. يجب أن تعاقب الشخص الذي أخرج عنوان المقال الرئيس في الصفحة السادسة من العدد الأخير “ لعله العدد رقم 10” وفتحت على الصفحة ووجدت العنوان مكتوباً بخط مزدوج. وهكذا لم تقبل عين الدحان هذا التشوه. وللأسف فنحن نرى أكثر الصحف ملطخة بعناوين وصور وخطوط ملونة تؤذي العين. وصالح الدحان كان يقول عن نفسه ضاحكاً وإن جاداً إنه صالح عناوين. وعندما كتب للأسبوع فقد اختار لموضوعه عنوان “زارت حين” وكان قاصداً أنه سيكتب أحياناً دون انتظام, لكن الأمر مشى معه وصار موضوع “زارت حين” موضوعاً منتظماً يصلنا كل أسبوع. وعندما كان محرراً في صحيفة “13 يونيو” ثم “26 سبتمبر” جعل عنوان مقالته الأسبوعية الجملة المعروفة للسيد المسيح في الأناجيل المنسوبة له “الحق أقول لكم” ثم تخلى عنه ليصير عنواناً لمقالة يكتبها أي من المحررين وتنزل بدون توقيع, واستعاض عنه بعموده “ بوعي” ينشر على الصفحة الثالثة بعنوان من ذلك المسمى في اللغة السهل الممتنع “عمود على الثالثة”. وكان يكتب في نفس الصحيفة بتوقيع مستعار “ديك الجن اليماني”. وحين أصدر صحيفة خاصة أسماها “البورزان” ولايحضرني الآن عنوان مقالته الرئيسية في مجلة “اليمن الجديد” عندما تولاها في 1979م, لكني أتذكر أن تلك الافتتاحية مثلت في جميع الأعداد مادة فكرية خصيبة وغنية, وأن المجلة في عهده انتعشت كما لم تكن من قبل ولم تعد من بعد. ثم إنه بروح المعلم والأستاذ ابتدع ملفاً جعل عنوانه “ الواعدون” تنشر فيه بواكير كتابات الشباب في الشعر والقصة وغيرهما من ألوان الأدب. لم يكن “صالح الدحان” مجرد صحفي محترف. لكنه, فضلاً عن ذلك, مثقف من الوزن الثقيل، قرأ لكبار المفكرين والروائيين والشعراء, وقرأ باللغة العربية وبالانجليزية, بل لقد أجاد الصينية واشتغل في بكين محرراً بوكالة أنباء الصين “شينخوا”. وهناك ترجم إلى العربية أشعار “قصائد” الزعيم الصيني الأشهر “ماوتسي تونغ”. وكانت رحلته إلى الصين واشتغاله في عاصمتها واحدة من مغامراته الكثيرة، ذلك أن حياته كلها مغامرة, مغامرة في الفكر وفي العمل وفي السياسة. لقد رجع إلى صنعاء ليعمل موظفاً في مصنع الغزل والنسيج دون أن تتوقف صلته بالكتابة والصحافة، ولما أغضب الفريق “حسن العمري” وذهبوا لاعتقاله ولّى وجهه هارباً إلى عدن، وهناك, في الشطر الجنوبي السابق, ترأس صحيفة “الشرارة”, وقد صدرت في فترة الافتتان بالماركسية واتخذت اسم الصحيفة التي كان يصدرها “لينين” قبل نجاح الثورة البلشفية في روسيا.. كانت الشرارة باللغة الروسية هي “الأيسكرا” وتلك صحيفة “لينين” بعد “الدتبشي ديلي” “قضية العمال”, ثم بعد الثورة صدرت “البرافدا” ترجمتها “الحقيقة”. صالح الدحان صاحب “أنت شوعي” أنزل “الشرارة” صفحة سوداء يوم مات “جمال عبدالناصر”. ولسوف يتعقبه أصحاب السلطة في عدن كما فعلت معه من قبل سلطة صنعاء. كان ذلك عندما أجريت تعيينات في جهاز الدولة رأى فيها صالح تعسفاً في الاختيار. وماكان حق النقد مكفولاً أو مقبولاً, ولا كان متاحاً ومباحاً, لكنه صالح الدحان لايرضى بالباطل فقد نزلت الشرارة بعنوان متهكم “الرجل المناسب..” ثم يقلب الصفحة ويكمل “في المكان المناسب”. ومن جديد يفرّ صالح ناجياً من الاعتقال, ثم يقضي فترة في العراق. وقد كان يعلق على الجورة التي جمعت ثلاثة يمنيين في مبنى واحد, “صالح الدحان” والعضوين في حزب البعث “صالح البدح” و“صالح دحداح”. كنت أعرف صالح الدحان باسمه ومكانته في دنيا الثقافة والصحافة قبل أن أتعرف عليه، وهذا حدث في 1979م عندما أراد الصديق حمود خالد الصوفي التقدم لخطبة ابنته ملايين, قال لي حمود إن “أمين عبدالواحد” الرئيس السابق للمؤسسة العامة للإسمنت صديق للدحان وهو لايعرفه. قابلت أميناً وذهبنا ثلاثتنا لصالح في مسكنه جوار مدرسة الشعب بحوض الأشراف، وتمت الخطبة في مقيل خرجنا منه لجولة في المدينة أصدقاء نتكلم في شؤون ثقافية نصحنا خلالها صالح أن نقرأ “سلامة موسى”. لاحظته قوياً ذا قامة منصوبة, فتياً رغم شعره الأبيض ثم كانت صحبة طويلة مع فنان عبقري خفيف كالنسيم, صافٍ كالماء, ونقي طاهر مثل قديس. سلام عليه في مستقره مع الصديقين أحباب الله. رابط المقال على الفيس بوك