في بداية الثورة كانت لدينا القدرة لنواجه الموت بصدور عارية فتجاوبت صيحاتنا مع لعلعات الرصاص بسلمية وبهتافات الحرية والكرامة, لأن هناك من أعلن نفسه حامياً لها, فصفقنا له كثيراً وقتها, لكن وعينا اليوم بأن أبشع أنواع الاستبداد يولد في أكثر حالات الحرية تطرفاً على رأي أفلاطون في محاوراته مع معلمه سقراط, وأقسى أنواع التطرف اليوم أن يتنكر كل شيء للشباب ومن وقف في ركابهم.. ففي طيلة الأيام الماضية وما قبلها رُكن الشباب وهمشوا تهميشاً قاسياً فبدت ضبابية ضخمة تحجب الرؤية كثيراً, بجدارية ملطخة بكل الألوان غير المتناسقة ولا المنسجمة بتاتاً, عمل على تشكيلها ربما رسام هاو, ليس له دراية بكل فنون الرسم والتشكيل, فبدت الصورة بأن وجد من يتحدث باسم الثورة آخرون لا يمتون إليها بصلة, بل ممن تخندقون بالأمس مع زبانية القتل والتشريد حتى وقت قريب يرونه بعيدا ونراه قريبا, ممن لوثوا أبصارنا وأسماعنا بشعارات ك “علي أو العدم, سادس الخلفاء الراشدين” وغيرها, هاهم اليوم هم المتسابقون لشغر الكراسي التي كان الأولى أن يتربع عليها الثوار وذلك لتهافتهم للمشاركة في الحوار الوطني المزمع إقامته قريباً. وقبل ذلك شغلنا أيضاً بالقيادات البالية المعتقة, التي أكلت الدهر وشربت منه لا العكس, بعضهم اعترف بصنيعنا والآخر لم يعترف, ولم يقر حتى بوجودنا أصلاً أو بحراكنا.. أظهرنا التسامح في كل شيء وإن على حساب حقوقنا, أبدينا الرغبة بالاعتذار عن أحداث لم نكن سبباً أو حتى طرفاً فيها, حاولنا نمسك العصا من المنتصف وإن خرج البعض وخالفنا في ذلك, لكن بدا التماسك قوياً عند الكثير من المنعطفات خلال عامين من الثورة المستمرة مقدمين الوطن وأبناءه وتماسكه وإن بدرجة بسيطة عن ما سواه, تركنا الملعب خالياً للاعبين القدماء ممن أثبتوا فشلهم في الماضي وكانوا سبباً أو بآخر في جراحاتٍ بعضها لم يندمل منذ عقود, علهم يكفّرون عن سيئاتهم ويلقون خالقهم بخاتمة طيبة, تحسب لهم, فيذكرهم التاريخ فيمن عنده, لكن نرى تذبذب البعض واستغلال الآخر ربما لمآرب تصب في مصلحته ومصالح لم نكد نراها, هو يعلمها والله يعلمها وسنعلمها يوماً ما, شغلنا بهم وشغل العالم معنا من أجل إقناعهم بالحوار والمشاركة فيه فاقتنع فريق ورفض فريق وبين هؤلاء وأولئك وقف آخرون.. ونسي الشباب تماماً وغُفل عنهم كثيراً وإن ادعى الكثير وصلاً بهم وحرصاً على أهدافهم والطائفة الكبرى من الشباب لا تقر لهم بذلك, فيبدو لهم بأنه نوع من الوصل الكاذب قياساً بالحمل الكاذب, فهم ربما يحملون وعوداً كاذبة وتطمينات زائفة, كمن يدس السم بالدسم, كما نرى في مقالات وخطابات ممن كانوا إلى الأمس القريب يدندون على أنغام العائلة ومن لف لفهم, فلم يعرفوا ساحات التغيير ولم يغشوها يوماً ما إلا بتباكيهم الأخير ونقدهم غير المبرر والاصطياد العكر وحفر بؤر خلافية, هم الأقرب لأن يقعوا فيها, لأنهم مدفوعون بالحقد والكره للثورة وفعلها الجميل.. مستغلين حالة الحرية المفتوح بابها على مصراعيه فيعملون على التشويش وتلطيخ فضاءها بقاذوراتهم العفنة من الألفاظ المكتنزة, التي غذيت على الخداع والمكر, ولن يحيق المكر السيء إلا بأهله.. فهجومهم الأخير على الجيش الأول المنضم للثورة لدليل قاطع على مدى كرههم له ولها, وقد علمنا أنه كان النواة الأولى لإيجاد جيش وطني, هاهي القرارات الرئاسية كانت خطوة تالية لإكمال مسيرة الجيش الوطني الذي لا تؤثر فيه الولاءات ولا الإملاءات أنى كانت, فلا غاية له إلا حماية الوطن والدفع بكل ما يتهدده ويتهدد أمنه واستقراره.. فمثل هذه التصرفات التي لا تخلو من دهاء وخبث لتفكيك كل القيم والأخلاق الثورية لتوصلنا إلى درجة الكفر بالثورة نفسها, بعد أن نفقد الإيمان بكل شيء كان يصلنا بها, أو يذكرنا بأحداثها العظيمة و منعطفات مسيرتها التي نرجو أن تكون خالدة خلود هذا الوطن وحبنا له في ضمائرنا وقلوبنا الدامية له أبداً ودوما.. الأمل الذي زرعناه بدايات العام 2011م غدا اليوم ناراً تشتعل في القلوب, ناراً قد تأكل الأخضر واليابس, الأخضر الذي وجد البعض فيه متنفسهم وراحتهم, فأصبحوا يعيثون في الأرض عبثاً ودماراً, والبعض ممن وجد نفسه يباساً وحطباً, فعنده من الاستعداد لأن يشتعل طواعية دون قداحة أو عود ثقاب.. فهو الإصرار على الرفض لكل ما يقف حجر عثرة أمام تحقق الأهداف واكتمال الغايات, لذا لا نريد العودة إلى مربعات تريد أطراف أن نعود إليها فيتحقق ما بأنفسهم وما يحلمون به من أن تتفرق أيدي سبأ من جديد, بعد ثمة بوادر على جمعهم حول أهداف واحدة, وإن تعددت الطرق والوسائل, فالغاية واحدة والهدف أسمى من كل الأغراض والمصالح الآنية الضيقة.. لقد قلنا من بدايتاها بأنها ثورة شبابية شاركنا فيما بعد في اكتمالها شيوخ ورجال حكماء, أعددناهم رجال مرحلة فقط, لكن ليتركوا بعدها المجال للطاقات المتجددة أن تكمل المسيرة وتصل بالثورة إلى غاياتها المنشودة.. ليفسحوا المجال إذاً للقدرات الشبابية ومبادراتهم الوطنية لإحداث التنمية الديمقراطية الحقيقية, وما فيها من تعزيز لقيم الحوار والمشاركة المدنية الفاعلة لتحقيق ما نصبو إليه وننشد ونسعى لا ما يصبو وينشد ويسعى الظلاميون الجدد. رابط المقال على الفيس بوك