بالقراءة المتأنية لمفهوم التسامح لانجد أنه مجرد فكرة صوفية بقدر ماهو وسيلة لإيقاف عجلة الكراهية من الاستمرار في الدوران والتهام وسحق كل مايقف في طريقها بما في ذلك الساعي للانتقام ذاته. على النقيض من التسامح تأتي فكرة الثأر والتي هي في جوهرها فكرة للانتحار وتدمير الذات في سبيل تدمير الآخر. لقد استطاع الذين عملوا انطلاقاً من مبدأ التسامح أن يحققوا أهدافهم ويصنعوا الحياة بينما ذهب “المهلهل” في نهاية المطاف “مهلهلاً” نتيجة تعلقه بشهوة الثأر.! لقد قدّم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أساساً متيناً لفكرة تسامح المنتصر وقبل ذلك قدّم المسيح عليه السلام مبدأ التسامح كنوع من التسامي الذي يرتبط بأخلاق السماء وروح التضحية. ويمكن القول إن بداية بناء الدولة الإسلامية قد أشرقت من تحت أستار الكعبة حين قال الرسول الكريم لمن حاربوه «اذهبوا فأنتم الطلقاء» فانطفأت نيران الثأر في نفوسهم ليتبنوا حينها عقيدة المنتصر المتسامح الذي قدم أنموذجاً أخلاقياً لم تعرفه العرب من قبل .. فكان ذلك إعجازاً آخر من إعجازات الإسلام الأخلاقية. وفي العصر الحديث نشاهد كيف هزم غاندي أقوى وأشرس أساليب الاستعمار بتسامحه.. وانطلق في حياته من مبدأ إنك عندما تسامح لاتغير الماضي بل المستقبل. وعلى ذات المنوال سار نيلسون مانديلا الذي استطاع بتسامحه أن ينتصر لقضيته الذي قضى (27 عاماً) من عمره خلف القضبان من أجلها ويتغلب على مبدأ الفصل العنصري وماخلفه من روح متوثبة للانتقام عند السود ..ويقول في رسالة وجهها للثوار العرب: «أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحدٍ واجهني هو أن قطاعاً واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد. لذلك شكلت “لجنة الحقيقة والمصالحة” التي جلس فيها المعتدي والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر. إنها سياسة مرة لكنها ناجحة. أرى أنكم بهذه الطريقة– وأنتم أدرى في النهاية- سترسلون رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات الأخرى أن لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير، كما قد تحجمون خوف وهلع الدكتاتوريات القائمة من طبيعة وحجم ما ينتظرها. تخيلوا أننا في جنوب إفريقيا ركزنا – كما تمنى الكثيرون- على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم، لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب إفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح الإنساني اليوم. أتمنى أن تستحضروا مقولة نبيكم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك